
الإنسان كائنٌ متجددٌ بطبعه، يتوق إلى العودة إلى ينابيع أصله، يبتكر أساليبَ تخدم توجهه، تتأرجح بين سمو القيم النبيلة وانحدار النزعات التدميرية. وكما أنَّ للخير جنودًا ومفكرين سخّروا طاقاتهم لنصرته، فللشر أيضًا أعوانٌ ومفكرون كرّسوا فكرهم لخدمته. والخير ينتصر في النهاية؛ لأنَّه الأصل.
على نقيض تلك المُسلمة، بزغ نجم المفكر الإيطالي نيقولا ميكافيللي (1469 - 1527م)، ليقدم تصورًا مغايرًا للعلاقات الإنسانية، حيث قال: «الأصل في الناس هو الشر، وعلى هذا الأساس يجب أن يُعاملهم الحكّام إذا أرادوا لحُكمهم البقاء». وشرعن بذلك لأفكارٍ تسلّطية، جعلت من المصلحة غاية، ومن الخداع وسيلة، ووضع خلاصتها بين دفّتي كتابه الشهير (الأمير)، الذي زخرفه بمفرداتٍ ملؤها الخسّة، والانتهازية، وعدم احترام حقوق الآخرين.
والأسوأ أن هذا الكتاب - الذي ظلّ وصمةً في مسيرة مؤلفه حتى بعد وفاته - لاقى رواجًا بين الطغاة والمستبدين؛ فموسوليني اختاره موضوعًا لأطروحته للدكتوراه، وهتلر لم يكن ينام إلا بعد أن يُعيد قراءته!
الدبلوماسية كعلم وفن، من أروع ابتكارات العقل البشري التي سعت إلى لجم جماح الصراعات، وتعزيز جسور المصالح المشتركة. وبنظرةٍ متأنيةٍ إلى صفحات تاريخها، نجد أنها تمتد بجذورها إلى فجر الحضارات، كما يشهد على ذلك النقش الحجري الذي عُثر عليه في شمال إيران، ويعود إلى نحو 2500 عام قبل الميلاد، ومعاهدة قادش الخالدة بين الفراعنة والحيثيين 1279 ق.م، التي تُعدّ أقدم وثيقة مكتوبة في سجل العلاقات الدولية.
صحيح أن الدبلوماسية بدأت - مع مرور الوقت - تخرج عن أهدافها النبيلة، إلا أن ذلك التحوّل كان محدودًا. فبينما التزم الصينيون القدماء بتلك الأهداف، وأحاطوها بهالةٍ من القداسة الدينية، انحرف الهنود القدماء عنها جزئيًا؛ بفعل حروبهم المُستمرة، وتحول مبعوثوهم إلى عيونٍ تتجسس. وتكرّر الأمر في الجانب الأوروبي؛ فعلى نهج الصينيين مضى اليونانيون، وعلى نهج الهنود مضى الرومان، مع فارقٍ أن الأخيرين سعوا لتحقيق مآربهم عبر القوة العسكرية.
واستمر ذلك الانحراف الجزئي في العصور الوسطى، حيث استخدمت الدبلوماسية البيزنطية أساليب غير أخلاقية أحيانًا، مثل إثارة الفتن بين القبائل المعادية، وكسب المودّة بالهدايا والعطايا. وعلى النقيض منها، كانت دبلوماسية الدول الإسلامية المُتعاقبة.
التحوّل الكبير في مفهوم الدبلوماسية جاء مع ميكافيللي، الذي يُعدّ من أوائل المفكرين الذين فصلوا الأخلاق عن السياسة. فالدولة عنده لا تُدار بالمبادئ؛ بل بالمصلحة، والخداع، والقوة. وقد حرّف بذلك الدبلوماسية عن غرضها، ووصفها بأنها كلمةٌ رقيقةٌ تُخفي وراءها شريعة الغاب، وجعل منها أداةً ناعمةً في يد الحاكم، تُستخدم بالعقل لا بالقلب، وبالانتهازية لا بالمبدأ، وبالقوة لا بالحق.
في فكر ميكافيللي، لا تبني الدبلوماسية صداقاتٍ دائمة، بل تحالفاتٍ مؤقتة، تُدار بحسابات النفع الآني. واعتبرها أداةً لتضليل الخصوم، وكسب الوقت، وإخفاء النوايا. وإذا اقتضت مصلحة الدولة الكذب، أو الخيانة، أو نقض الاتفاقيات، فذلك جائز، بل واجب! أما الدبلوماسي المثالي، فليس الصادق الأمين، بل الماكر الذي يُجيد ارتداء الأقنعة، ويُظهر الودّ وهو يُضمر الطعن.
امتدت آثار هذا الفكر الميكافيللي إلى الدبلوماسية الحديثة، خاصةً في مؤتمرات أوروبا (مثل مؤتمر فيينا عام 1815م)، التي لم تحظَ تفاهماتها طويلة الأمد بالاحترام، وكانت في جوهرها مجرد أدواتٍ لإعادة ترتيب موازين القوى.
اليوم، وبعد مُرور خمسة قرونٍ على رحيل ميكافيللي، ورغم أنَّ الاعتماد الكلي على رؤيته النفعية قد يقود إلى انهيار شامل للثقة، ويُحوّل العلاقات الدولية إلى ساحةٍ للفوضى المستمرة، إلا أنَّ تلك الرؤية الكارثية لا تزال حاضرةً بقوةٍ في مُمارسات بعض الدول، مما يجعل فكره الانتهازي جديرًا بالقراءة والتأمل؛ لا للتبني بالضرورة، بل لفهم ما يدور خلف الكواليس.
* رئيس مجلس إدارة مؤسسة الجمهورية للصحافة والطباعة والنشر - رئيس التحرير