الصراع على السلطة والثروة في اليمن

- ثورات اليمن لم تكن بعيدة عما أصاب أمثالها من تناحرات داخلية أوصلتها إلى النفق المظلم
- القيادات عانت من قصور في مفهوم العمل السياسي وذلك لغياب الوعي الثقافي لديها
- الثورة لا تصنع وعي الجماهير بالمسؤولية ولكن قد تذهب بها نحو كوارث مدمرة
- كيف لعقلية مناطقية قبلية أن تصنع مؤسسات المجتمع المدني في الدولة؟!
- المذكرات تكشف لنا نوعية العقليات السياسية التي لا ترى في الثورة إلا طريقاً إلى السلطة والثروة
نجمي عبدالمجيد:
في قضايا العلاقة بين الفكر السياسي وقيادة الدولة في اليمن، مسافات من عدم الالتقاء ورفض لان تكون هناك حقائق توضح ان الدولة هي مؤسسات المجتمع المدني.
هنا نرى الحلقة المفرغة والدائرة المغلقة هي المصير الحتمي. ومن هنا نجد ان دورات العنف في السلطة والصراعات الدامية عززت عقيدة الدم والسلاح في تغيير المشهد السياسي الذي دائماً ما يعود إلى نفس المرجعية التاريخية في استعادة حكم المناطقية والقبلية والمذهبية، بل جعل الانتماء لهذه الصفات فوق الوطن بل تم اختصار الأمة والأرض في هذه الدوائر.
وتأتي مسائل النزعة في التسلط على الحكم والثروة في عمق هذا الكيان الطارد لكل ما هو مغاير له.
هذا أحد العوامل المجهضة لمشروع بناء دولة مدنية في اليمن. غير ان مسألة الإحاطة بكل جوانب هذه القضايا لا تكون عند قراءة أجزاء من المشهد لكن محاولة الطرف الشاهد عند فترات من مفارقات الأحداث تساعد على معرفة كيف تذهب بعض التصورات السياسية نحو غايات هي في واقع أمرها أزمة ذات استمرارية في نفسية هذه الأمة.
ما طرح في هذه المذكرات يوضح لنا مسافات التقاطع وعدم التجاور بين السلطة ومحاولة إعادة رسم خارطة طريق لها في اليمن والتي ظلت عبر قرون تعاني من عجز وعدم استقرار وكأن واقع الحال يقول لا مكان هنا لصنع دولة مدنية.
هل حاول جار الله عمر الرد على بعض أزمة تساؤلات التاريخ في اليمن؟!!
مازالت هذه القضايا دون رد لكن الواقع ظل اسيراً لقوة الرفض في داخله، وربما تصبح الاجابة المطلوبة نوعاً من الخروج عن المقدس من ثوابت سلطة الفردية المطلقة، والتي ان هي ذهبت سوف تهدم ركائز الهوية والصلابة في شخصية هذه الأمة القابعة تحت حكم المذهبية الداخلة في عبادة العقيدة والفرد.
نقف أمام بعض ما طرحه الكاتب من اطروحات أزمة صناعة الدولة في اليمن ومما قال: (أبرز المشكلات التي دارت بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي هي البرنامج وكيفية بناء الدولة ومستقبل اليمن.
هل يكون اليمن بلداً حديثاً ومعاصراً كما رأى الحزب الاشتراكي اليمني، أم يبقى البلد متخلفاً وعشائرياً، واعتقد ان هذا هو صلب الصراع، وأيضاً هل تكون المرأة حرة أو لا تكون؟!
هل يجب ان تكون القوانين تقليدية أو معاصرة؟
هنا برز صراع على السلطة ولعله برز قبل ذلك. أراد الحزب الاشتراكي ان يبقى له نصيب في السلطة وهو أمر مفهوم وبديهي ولا يجب استغرابه.
المؤتمر الشعبي هو الذي أراد الاستئثار بالسلطة والاستيلاء على جميع السلطات، أما الحزب الاشتراكي فرأى انه شريك في تأسيس الدولة اليمنية الجديدة وان له الحق في ان يكون شريكاً حقيقياً في تقرير السياسات في البلاد على عكس المؤتمر الشعبي الذي لم يقبل بشريك حقيقي بل اراد ان يكون شريكه شكلياً وبسيطاً وضعيفاً وتابعاً؛ لأن ركيزة الفلسفة السياسية التي قام عليها المؤتمر الشعبي برئاسة علي عبدالله صالح هي ان الشمال هو الأكثرية السكانية أما الجنوب فيمثل الأقلية وبالتالي الشمال هو الأصل والجنوب هو الفرع.
اعتقدوا ان الشمال هو الأم بينما الجنوب هو الابن الصغير الذي كان متمرداً ثم عاد إلى حضن أمه ويفترض به الطاعة وان يرضى بالقليل ويكون ثانوياً في العملية السياسية).
ليست من مفاهيم سياسية هنا تقام على ركائز موضوعية، نظرة علي عبدالله صالح نحو الجنوب هي نفس نظرة العقيدة الزيدية ـ الشيعية نحو شوافع اليمن.
البقاء تحت أقدام التابعة، والثروة والسلطة هي حق الهي لمن يحكم.
وهذه نظرة قاصرة في مفهوم العلاقة بين السياسة والسلطة. لم يدرك الحزب الاشتراكي نحو اليمن لانه لم يعرف تاريخ هذه المناطق والتي ظلت لأكثر من ألف عام لا تقبل بمن هو خارج عن اطارها.
ان اسقاط المرجعيات التاريخية في هذه المسائل والذهاب في المشاريع السياسية عبر الشعارات الحماسية أوقع الحزب الاشتراكي في مواجهة مع قوة لا ترى فيه إلا دخيلاً يجب ضربه واخراجه بعيداً عن هذا الحق المقدس.
لذلك كانت قضية السيطرة الكاملة على الجنوب ليست وليدة مشروع الوحدة بل لها في مرجعيات التاريخ اليمني وعبر دورات من الحروب والغنائم ما أعطى لتلك العقليات صفة الحرب المقدسة لاحياء أمجاد الماضي.
من جانب الجنوب، ظلت مسافة الادراك لواقع المجتمع اليمني لا تخرج عن نفس التصورات السابقة والمحصورة في إمكانية الحكم الوطني الذي سوف يعيد مجد التاريخ القديم، ويمكن الوعي السياسي من اخراج المناطقية والمذهبية من دائرة السيطرة وقيام يمن الدولة المدنية.
هذا العجز في الرؤية هو ما جعل الحزب الاشتراكي يدخل في رهانات لم تكن له من مقدرة على مواجهتها أو حتى الحد من نقل الخلافات من دائرة الاختلافات في النظرة إلى الحسم العسكري.
هنا نطرح قضية الدولة الجنوبية المزمنة والتي كانت مسافتها التاريخية من عام 1967م حتى عام 1990م وهي فترة قليلة أمام مذهبية ظلت لقرون عديدة هي من تصنع رجال السلطة في اليمن.
ان الفكرة يصبح موقفها هنا، مهما بلغت من منزلة الادراك، في وضعية الدخيل غير المقبول، بل في درجة من درجات العدوانية الساعية لهدم ذلك الصرح الحامي والداعم لاستمرارية الوجود والكيان لهذا النوع من اشكال الحكم.
لذلك انهارت كل المحاولات التي هدفت إلى اخراج هذه الذاتية من عزيمة توحشها وحقدها على من حاول قلب حسابات السلطة والمقدس ويطرح بدلاً عنها الدولة والقانون.
وهذا ما سقط فيه الحزب الاشتراكي دون وعي منه في قراءة تاريخ اليمن السياسي حين ظن ان الفكرة قادرة على كسر طوق العقيدة، ولم يراجع حتى أبسط اطروحات الثقافة التي سعت عبر عقود لتحويل هذا الاتجاه فتم ضربها بكل قوة حتى لو جاءت من داخل محيط هذا التراكم ـ المذهبي ـ العقائدي المستوطن في ضمائر العامة قبل القيادة. من هنا كان الدفع بهذه الفئة الاجتماعية نحو الحرب ضد الجنوب جزءاً من قوانين السلطة والغنيمة.
في مجال الثروة والصراع عليها تدور عدة محاور حاولت وضع ثروة الجنوب في اطار النفوذ المناطقي وليست في خدمة الأمة فكان السلاح والتحرك القبلي ركائز في اقتسام المصالح عند القوى المسيطرة في اليمن.
وفي هذا يقدم لنا جار الله عمر هذه الرؤية في كيفية إدارة علي عبدالله صالح لمسافات الغنائم على أرض الجنوب حيث يقول: (في بداية هذا العام ابلغت بعض الشركات التي تنقب عن النفط في حضرموت عن اكتشاف كميات تجارية من النفط قابلة للاستثمار خلال أشهر. كان التنقيب قد بدأ قبل فترة ومن ضمن الحقول المكتشفة حقل وادي جنة في شبوة وهو على مقربة من الحدود بين الشطرين.
وبسبب هذا الاكتشاف حصل توتر وتنازع بين حكومتي صنعاء وعدن حول مستقبل الحقل وملكيته.
وبلغ التوتر درجة حشد القوات المسلحة على الحدود بين الشمال والجنوب وكان هذا في العام 1988م وقد اتخذ المكتب السياسي قراراً بالتفاهم مع حكومة صنعاء والعمل من أجل الوصول إلى حل سلمي بشأن الحقل المذكور ولو أدى الأمر إلى ان يتم الاستغلال المشترك للحقل برغم وجوده في اراضي الجنوب.
وهذا يعني ان يكون موقف الجنوب مرناً إلى حد كبير برغم انه في اراضي الجنوب.
هنا أدى النفط وظهوره في الجنوب ومشكلة النزاع مع الشمال والمتغيرات الداخلية والخارجية إلى إعادة قضية الوحدة على جدول اعمال الحكومتين في صنعاء وعدن مادام هناك نفط فسوف يؤدي إلى رفاهية أو حرب. ولا رفاهية إلا بتوحيد اليمن. وقد أرسل فضل محسن عبدالله إلى صنعاء كما أرسل في أحيان أخرى صالح ابوبكر بن حسينون وزير النفط حينها، رحمه الله واستمر مندوبون بالتوجه من عدن إلى صنعاء في رحلات مكوكية للتفاوض حول النفط.
وقدم الجنوب تنازلاً تعبيراً عن حسن نية ومن أجل السلام باستعداده لاقتسام المنطقة واستغلالها بصورة مشتركة وتم الاتفاق على حل مشكلة النفط بالمشاركة بين الدولتين.
وبدأت الشركات تنقب وبعد انخفاض التوتر، انتقلت المفاوضات بين الشطرين إلى البحث في تحسين العلاقة وحصل انفراج بين الشمال والجنوب تمهيداً لبحث موضوع الوحدة من جديد بحسب الاتفاقيات السابقة). ظلت ثروات الجنوب في دائرة الاستهداف من قل اليمن منذ عقود سابقة.
جاء في تقرير لشركة ارامكو لعام 1956م، إن شبوة تسبح على بحار من النفط، وهي على موعد بأن تصبح من أغنى مناطق العالم.
حينها تحرك الإمام أحمد مدعياً أن هذه الأراضي تابعة لليمن، ولم تكن حرب 1994م التي اعلنها علي عبدالله صالح ضد الجنوب إلا عودة لمشروع الإمام في الوصول إلى ثروات الجنوب.
لقد شكلت مناطق الثروة في الجنوب عبر مراحل أزمات وصراعات وتحديات وهي الآن في نفس تلك الدوائر مع توسع وسائل المواجهات ودخول أطراف إقليمية ودولية. حتى وصل الأمر في صنع كيانات مستقلة سياسياً واقتصادياً وهي عملية كانت قد جرت في منطقة الخليج العربي ما بعد الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1919م).
من وثائق المخابرات البريطانية نقدم هذه الوثيقة التي تقدم لنا بعض المعلومات في هذا الجانب:
(بلبلة حول مرخة بسبب فيلبي.
وثيقة رقم: 30 A
التاريخ: 10 ديسمبر 1936
كاتب الأصل: المقر.. عدن.
الموضوع: ملخص المخابرات السياسية للاسبوع المنتهي في 25 نوفمبر 1936م.
6146ـ المرجع فقرة 6095 ـ ابلغ حاكم شريف بيحان أن أحمد ناصر القردعي، عاد من نجران إلى مرخة في أول نوفمبر بتعليمات من الملك عبدالعزيز ليحض وينصح أهل مرخة أن يكونوا إما تحت حماية السعودية أو الحكومة البريطانية.
تم توجيه الشكر لحاكم (شريف) بيحان على تقريره واحيط بأن مرخة تقع سلفاً تحت حكومة الملك بموجب معاهدة مع سلطان العوالق، وإنه ليست لدى الحكومة البريطانية أية نية لتسليم مرخة أو أي جزء من محمية عدن لقوة أجنبية أو خارجية ما دامت نصوص المعاهدة بين حكومة جلالة الملك والرؤساء الحاكمين في محمية عدن سارية المفعول. احيط سلطان العوالق العليا، كذلك بما ورد اعلاه وطلبنا منه أن يمرر هذا إلى أهل مرخة مصحوباً بتحذير مفاده أنه إذا ما تآمروا مع قوى خارجية فإنهم سيجلبون على أنفسهم المشاكل، وأن يخبرهم كذلك بأن الملك ابن سعود صديق لحكومة جلالة الملك وله معها معاهدة، وأن ليس للمستر فيلبي وضع رسمي، وأنه قد دخل إلى محمية عدن بدون إذن، وأنه مجرد مسافر وأن عليهم أن لا يستمعوا إلى ملاحظات أناس غير مسؤولين).
لم تكن تدرك سلطة صنعاء أن حرب 1994م على الجنوب أنها قد فتحت تلك الحدود أمام كل الصراعات حول الثروة والمسافات إقليمياً ودولياً.
وأن ما يوجد في أرض الجنوب من خيرات ظلت لعقود هي من يدير المنافسة والتحدي على صنع حالة استقرار في هذا المكان.
إن ما يطرحه جار الله عمر في هذا الجانب، يعزز حقيقة أن الوحدة عند قيادة صنعاء تعني السيطرة على هذه الثروة وكأن الإمامة هي من تقود تلك الأهداف التي ظلت من مقدسات عقيدة الهيمنة.
وحين تم حصر غاية الوحدة في السيطرة على مساحات النفط والغاز، سقطت كل رغبة في جعل الوحدة قضية وطنية، بل تحول كل هدف سياسي إلى سلعة تطرح في سوق العرض والطلب.
وحين تنهار الإدارة من الداخل، تتهاوى الركائز من الخارج.
لذلك دخلت اليمن تحت اكثر من مشروع وقوى تتجاذب فيها كل الاطراف غير قادرة على صنع فترة الاستقرار السياسي، كي تخرج من بعض أزماتها. وهذا يؤكد على أن اليمن لن تخرج من هذه الدائرة المغلقة، ففي استمرارية هذا الوضع البقاء الدائم لهذا النوع والشرط في صنع القرار السياسي.
المراجع :
مذكرات جار الله عمر ، الصراع على السلطة والثروة في اليمن
حاورته: ليزا ودين
الناشر: دار المدى ـ بيروت الطبعة الأولى 2021م