قصة قصيرة
جارنا العم (صالح) ذلك الرجل التقي وزوجته الطيبة. زغرودة الفجر كما ندعوهما في القرية. بعد معركة خاض جولاتها لمدة أربعين عاماً في تقديم المنتجات الزراعية للناس, أخذ الزمن يسطر ملامح الأيام على وجهه، وبدا أبناؤه الأربعة تظهر عليهم ملامح الرجولة ؛ فعهد إليهم بأمر الأرض والزراعة. هكذا دارت الأيام حتى ألبست العم (صالح) العقد الخامس من عمره، خاض خلالها معركة حاسمة انتهت صولاتها للأبناء الذين قرروا أن يستبدلوا منتجاً أكثر رواجاً وفائدة بزراعة الحقل ؛ فأدخلوا نبتة القات.لم يطب للعم (صالح) قرار الأبناء لولا تودد العمة (بلقيس) التي رجحت كفة الأبناء. وكانت بداية النهاية.لم يعد للعصافير غنوة, ولا للنسيم أنفاس، فقد بات العم صالح مغلوباً على أمره، ولم يعد يحب الحقل بعد أن ذهبت زهوره، واحترقت طينته الزكية بالنبتة القادمة الجديدة.ها هو أذان الفجر يرتل أنغام الانشراح، ويتبعه صوت متألم من زوايا بيت العم (صالح). العمة (بلقيس) تتلوى باضطراب، وحولها أبناؤها، والزوج المتألم.. لم يُعرف مصدر الألم، ومستشفى القرية لم يشخص الحالة ؛ فحُملت مع زغردة عصافير البكور، ونسيم الفجر العليل. لكن للأسف لم تذهب كما كان قبل(خمسة عشر) عاماً إلى الحقل - برفقة العم صالح - بل حُملت إلى مستشفى في العاصمة (صنعاء). لم تدخل ساحة الحقل وأمامها ألوان الفراشات، وأفراح الطيور، بل دخلت وأمامها لوحة مكتوب عليها « غرفة الطوارئ المركزية « وعلى سريرها الأبيض... انكسار قلب المحب على حبيبته، ودموع الأبناء لمحنتهم الأولى لم يُلِنْ لهم سرطان الغدد الذي سكن حلق العمة (بلقيس).ها هو الطبيب يعود متفحم الوجه قائلاً: - نسبة التلوث الذي سبب هذا الورم الخبيث عائدة إلى نسبة السم المختلط بالقات، كم سنة وهي تتناول القات؟- سبعة أعوام يا دكتور.... بكلمات كهذه رد أحد الجناة من الأبناء الذين أدخلوا هذه الشجرة. أما العم (صالح) فلم ينبس ببنت شفة ؛ لأنه قد حوّل لغة الكلام إلى لغة أخرى تتدحرج أحرفها على خديه، حزناً وكمداً على رفيقة البكور، ومعينته في الحقل.ها هو الطبيب المناوب يأتي سريعاً ؛ يستدعي الزوج والأبناء لأن الأم تريد العم (صالح). يا ترى ما الكلام المحشو في قريحة الأم المظلومة؟! أتأمرهم؟ أتشفع عند الأبناء أن يُقلعوا عن تناول السم؟!.- زوجي الحبيب ما عهدتك إلا نعم الرجل المحب. أريد منك أوراق نعناع. أنفاسي تستعر شوقاً لرائحة النعناع.يخيم السكون على وجه الرجل الطيب، لم يحرك ساكنا، بل تجمد في مكانه ؛ لأنه يعلم بأن الحقل لم يعد يزرع النعناع. وكذلك هو حال بقية حقول القرية. يتكرر الطلب:- أتذكر يا (صالح) حينما كنت (متوحمة) بـ(قاسم)، وطلبت منك بذور البصل فأعطيتني ؟ أتعجز اليوم عن إحضار ورقة نعناع ؟.دموع العم (صالح) توحي بأنه يتمنى أن يموت قبل أن تطلب منه زوجته طلباً يعجز عن إعطائها إياه.رائحة النعناع صارت حلماً صعب المنال، ونبتة السعر والفائدة غطت الحقول.وروح العمة (بلقيس) تصعد إلى الملكوت الأعلى وقت الأصيل دونما رائحة نعنـــــاع.