للعرب خيالهم العلمي
كتب/ شوقي بدر يوسف: على الرغم من أن أدب الخيال العلمي أصبح يمثل الآن نوعا تقليديا من الكتابة الإبداعية، ورافدا مهما من روافد الكتابة القصصية والروائية في أدبنا المعاصر، وأنه أصبح نمطا من الإبداع له خصوصيته في نسق الكتابة وطريقة التلقي، وفي التوجهات التي يذهب إليها، وفي قدرته الفائقة على الانتشار، إلا أن النظرة الأولية لنسقه الخاص، والطريقة التي تصاغ بها إبداعاته التي تنطوي على منابع أساسية لا يمكن الاستغناء عنها تكمن في تشكيل هيكله العام، وتحديد خطوطه الأساسية المستمدة من العلم وتكنولوجيا العصر، وهو ما يجعلنا نقول أن الأعمال الإبداعية في هذا النسق من الكتابة قد وطدت أقدامها في الساحة الأدبية بحيث أصبحت مكتبة أدب الخيال العلمي الآن عامرة بأعمال إبداعية عالمية ومحلية يقبل عليها جمهور القراء في الوطن العربي وفى جميع أنحاء العالم إقبالا كبيرا، وأصبح هذا الأدب بما جبل عليه من تخيلات ورؤى حلمية وعلمية يطلق عليه أدب التنبؤات أو أدب صناعة الأحلام حيث تحققت كثير من الأحلام والتخيلات التي تنبأ بها هذا الأدب في بواكيره وبداياته الأولى وأصبحت بالفعل الآن حقيقة واقعة. وأدب الخيال العلمي كنسق وصيغة خاصة في الكتابة الإبداعية يتكون من ركيزتين أساسيتين وهما المخيلة الأدبية الممتزجة بالحقائق العلمية المجردة التي يستقى منها الكاتب عناصر التكوين الأساسية لهذا الأدب، والحقائق العلمية ذاتها المستمدة من الطبيعة والواقع والابتكارات والمخترعات والتكنولوجيا الحديثة والممتزجة هي الأخرى بمخيلة الكاتب والمنتجة في النهاية سردا قصصياً وروائياً من الممكن أن نطلق عليها كما أشرنا صناعة الأحلام أو الأدب التنبؤي أو الإبداع المتخيل العلمي وغير ذلك من المسميات التي تضعه الآن في إطار من الواقعية العلمية إن جاز هذا التعبير. وإذا حاولنا أعطاء هذا النوع من الأدب تعريفاً جامعاً قاطعا فإنه شأنه شأن بعض الأجناس الأدبية المحكية الأخرى يعتبر من الآداب المراوغة المحيرة الحاملة في بعض الأحيان لجينات الفانتيازيا والخرافة والتخيل المفرط، وإن كانت ثمة محاولات عديدة لتعريفه تعريفاً خاصاً أقرب إلى الدقة بحيث يبلور ملامحه ويحدد ظلال وخطوط شرعيته في الحركة الأدبية المعاصرة. وعلى الرغم من أن جميع التعريفات التي حاولت بلورة ملامحه قد اجتهدت في وضع إطار محدد له، إلا أن أدق تعريف له هو : (أنه جنس أدبي واع تماما لذاته تمام الوعي يعتمد العلم وواقعيته الطبيعية من خلال أدبية خاصة به وحده) : وبذلك تكون الطريقة التي عرف بها هذا النوع من الأدب لها علاقة وثيقة وتكافلية بالطريقة التي يكتب بها، فهو رافد مهم من روافد الكتابة القصصية الحكائية المتوغلة في مسار السرد والغالب عليها المعرفة العلمية التنبؤية المستمدة من كافة محددات العلوم والتكنولوجيا، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن الاتجاهات العلمية التي منحت الإنسانية شيئاً من رؤها وأضاءت الطريق أمامه ليرى العالم بعين المخيلة في ميادين عدة كان العلم والأدب هما طريقاها في هذا العصر، وأن الثورات العلمية في نظرياتها المعروفة عند إينشتين على سبيل المثال، كما هي عند فرويد في مدرسة التحليل النفسي، كما هي عند غيره من العلماء والباحثين والمفكرين، كان أدب الخيال العلمي هو ثمرة تفاعل لهذه الأمور الإنسانية جميعها فقد رسم الإنسان فى مخيلته صورا وأشكالا عن طريق فروض مسبقة لم تثبتها التجربة في البداية، ولكن خياله لم يقف عند حدود، بل سار في طريقه متحديا بإرادته ودرجة وعيه ومثابرته وتمرده على الواقع، وكانت الحكاية والصورة والمخيلة هي الدرجة التي تقف عند حدود معينة منذ أرسطو، ومعتقدات السلف المختلفة التي ثار عليها الكثيرون في أوقات عدة، حتى جاء القرن العشرون وكانت معايير الفن والأدب والعلم قد بدأت تتمازج وتتناغم وتخرج لنا فنونا وعلوما جديدة لم نألفها قبل ذلك، وأصبحت المخيلة هي الأساس في كل شىء ، وكما قال الأستاذ عثمان نويه في كتابه “حيرة في عصر العلم” إن من الإنصاف لأدباء هذا الجيل في شتى أنحاء العالم أن نحاول فهم مشكلتهم في أناة وصبر وعطف. فإن الجيل الذي نشأ في العشرين عاما الأخيرة، جيل فريد لم يوجد جيل مثله من قبل في تاريخ البشرية. وقد يكون هذا الجيل أعظم من أي جيل سبقه، لأن التقدم العلمي والتكنولوجي ووسائل التثقيف العصري، والأخذ بالأساليب العلمية الحديثة فى تنشئته على الحرية والابتكار، قد هيأت له من النضج السريع ما لم يتهيأ لما سبقه من أجيال. وقد يكون العيب فى هذا النضج السريع نفسه، فإن تفتح الوعى قبل الأوان، أي قبل المرحلة الملائمة لتقبل هذا الوعي، قد تضر أكثر مما تفيد، لكن مهما يكن من شأن أدباء هذا الجيل وإنتاجهم الأدبي والفكري، فيجب قبل أن نأخذ فى دراسة هذا الإنتاج أن نتدبر بعض الحقائق التى تتصل بأبناء هذا الجيل وبناته، إن كل فتى وفتاة يتراوح عمره بين الثالثة عشرة والعشرين، فى أى مكان فى العالم، يحمل فى عظامه عنصر السترونيوم المشع، وهو عنصر من صنع الإنسان ولم يكن له وجود قبل عام 1945، وإنما وجد بعد هذا التاريخ نتيجة لترسيب الغبار الذرى من أثر تجارب تفجير القنابل الذرية في الجو، فهذا الجيل يحمل فى عظامه ميسم العصر الذري ويعيش في عصر الالكترونات، وينطلق إلى الفضاء يستكشفه، ثم يتأهب في ثقة لغزو ما في الكون من كواكب أخرى”(ص14) . إلا أن الجانب الأخر المشع في خيال الإنسان هو اهتمامه واحتفاؤه بجانب الخيال في تناول العلم، وما نحلم به ونرفده على واقعنا وفى أوراقنا أحيانا يتحّول بالإرادة والمثابرة والصبر إلى حقيقة واقعة، وهو ما نكتبه أدبا متخيلا يأخذ من العلم آلية جديدة ومعادلا موضوعيا يشتغل عليه فى كل جانب من جوانب تحقيق حلمه الإبداعي سواء فى مجال الخيال أو فى مجال العلم فكلاهما وجهان لعملة واحدة تعمل على تحقيق الخير للبشرية والإنسانية جمعاء. ولعل هذه المجموعة المنتخبة من القصة العربية القصيرة المحتفية بتأصيل الخيال العلمي فى معادلها الموضوعي ومضمونها الأساسى تجسد لنا هذا المشهد السردي الجديد الذى بدأت ملامحه ومعالمه تتضح على الساحة الإبداعية في فنون القصة والرواية في العالم العربي، وقد ظهرت عدة أنطولوجيات للقصة القصيرة جميعها مترجمة من اللغات المختلفة، إلا أننا آثرنا أن تكون هذه المجموعة عربية خالصة تحدد لنا بعض ملامح هذا الأدب في مشهدنا القصصي المعاصر والدور الذي يلعبه في بلورة ما تلعبه القصة القصيرة في هذا المجال الثري المراوغ في أدبنا المعاصر من جانب أدب الخيال العلمي الذي يمثل رافدا ليس بجديد على الأدب العربي ولكنه رافد له خصوصيته كما له دوره الفعال في إثراء أدبنا العربي بالعلم والأدب متفاعلين ومتمازجين في عالم يحتاج إلى مثل هذا التناغم والتمازج الإبداعي الآن.*من مقدمة الكتاب