عـبـد ا لـلــه عـلـــو ا ن
نجيب مقبللولا أنني لا أُحبذ الكتابة عن الأموات ولا أُجيد الرثائيات؛ إلا أنَّ خبر رحيل الناقد والشاعر والقاص والصحفي عبدالله علوان الذي ارتبطت به في عَلاقة إنسانية وإبداعية، أورثني نوعـًا من إيلام النفس على تقصيرنا في حق هذا المبدع الصامت، وقد بعدت بيننا المسافة وانقطعت سبل الاتصال الشخصي به بعد أنْ غادر عدن واستقر به المقام في صنعاء، وهي حالة بُعاد جعلتنا في حالة انقطاع عنه، واليوم وبعد مرور (40) يومـًا على رحيله دعوني آخذ وريقات من ذكرياتي مع الراحل.اللقاء الأول مع رجلٍ متروٍكان أولُ لقاءٍ بعبدالله علوان في أوائل الثمانينات عندما جاء إلى عدن قادمـًا من الشطر الشمالي من الوطن سابقـًا مع جمهرة عريضة من النازحين ممن كان يُطلق عليهم معارضو (الجبهة الوطنية) في الشمال في ظروف سياسية معروفة، وكان من بينهم سياسيون وعسكريون وشيوخ وقبليون ويساريون ومخبرون إلى جانب قلة قليلة من المثقفين والصحفيين، وكان عبدالله علوان واحدًا منهم.وفي خضم هذا النزوح الجماعي تمكَّن الكثيرون منهم من الاستقرار والسكن والتوظيف، وسلك كل واحدٍ منهم سبيله في الحصول على مقعد حزبي وسياسي وإداري ورتب عسكرية يرافقها مزايا كل واحدة مرتبطة بالمكسب.كانت عدن في أوائل الثمانينات تحتضن هذا الزخم الكبير من النازحين بقلبٍ واسعٍ ودفء حارٍ. لكن عزيزنا عبدالله علوان الذي لم يكن يفقه وسائل التسلُّق والتزلف السياسي، ولم يرطن بحكايات وأكاذيب بطولة دونكوشوتية، ولم يمدَّ كف قيمته الإبداعية ومكانته الأدبية التي كان يتمتع بها في الحياة الثقافية بصنعاء ليتسوَّل بها أمام مكاتب المسئولين والحزبيين، بل كان يعتمدُ على كينونته الإنسانية وعلى صفاء ثقافيته المعتدة بنفسها ولذلك تأخر عليه نوال الاستقرار المكاني والمعيشي.أول مرة التقت فيها عيناي بهذا الرجل كانت عندما شاهدت رجلاً فوق الأربعين منكفئـًا في ركنٍ منزوٍ في إحدى غرف مقر اتحاد الأدباء والكُتـَّاب اليمنيين بالتواهي، وكانتا مرمدتين يغشاهما الاحمرار من أثر السهر، وهو بملابس مدعكة يبدو عليها أنـّها ثياب قد أُهلكت من اللبس ولم تحظَ بقسطٍ من الكواء. كان يمشي بيننا هادئـًا، يتحوَّل من مكان إلى آخر بصمتٍ متواضعٍ، وفي حالةٍ انكسارية تفرضها الغربة واللامكانية. وهو إذ يتجوَّل هنا وهناك؛ إلا أنَّ عينيه كانتا تمتدان إلى الزرقة المقابلة لبحر عدن المتكسر تحت أقدام مقر الاتحاد.فجأة علت كلمات الأستاذ الجليل عمر الجاوي مخلوطة بالسخرية:- يا عبدالله، خلِّي أصحابك يشوفوا لك مكان تسكن به.. هذا مقر اتحاد وليس منزلاً للسكن.. الناس صلحوا حالهم، وأنتَ قابع هنا ترقد هنا رقدة المساكين. كان عبدالله علوان يعلم أنَّ الجاوي على حق.. وأنَّ كلماته الساخرة تخرج من قلب كبيرٍ ومحب.. وهو يعلم خبايا الأمور. وهو على دراية بترتيبات أقرانه في السكن والوظيفة. وكيف استطاع البعض من (المناضلين) على السكن والوظيفة عبر سلسلة عَلاقات حزبية وسياسية وسائط قرائبية ووجاهات قبائلية؛ إلا أنَّ عبدالله علوان كان من عالم آخر، من سُلالة المبدعين ومن طينة المتواضعين، لم يأتِ إلى عدن لكي ينتفع من رطانة بطولية زائفة أو عَلاقة حزبية قرائبية، بل إنـَّه كان امرأً أجبرته الأحداث السياسية والملاحقات الأمنية على الرحيل عن الدار الأولى، وينتظر من الأرض الجديدة أنْ تمنحه حقـًا في السكن والتوظيف دون التسلق على سلالم بطولات زائفة وعَلاقات روتينية.في هذه اللحظة المنكسرة كانت قدما عبدالله علوان تقودانه بلا هدى، وعلى رأسه الشعثاء تجاذبات عن واقع ومستقبل مترجرج، وجمرة الأديب والمثقف يقبضها بكفه المحمرة، لا يشعر بحرقتها؛ إلا على وقع كلمات الجاوي الساخرة:- عبدالله .. خليك من المسكنة وقلة الحيلة.. ودوِّر لك على بيت ووظيفة.عبدالله يلتقي عدنهجاء عبدالله علوان إلى عدن، وليس على كتفه سوى غبار إنسان بسيط ومتواضع، ولا يسطع عن سيماء جبهته السمراء غير نجمة المثقف الزاهد، ولا يبرق من عينيه غير ومض أمل في أنْ يسمو على واقع جديدٍ، لا يسمح له بالعيش والسكنى؛ إلا بالبطاقة الحزبية والموقع السياسي والرتبة العسكرية والمشيخة القبائلية أو الرطانة ببطولات زائفة أو متضخمة لتسمح له بالدخول على أمان في المنفى وبقاء في العيش.عاهد عبدالله علوان نفسه أنْ يُصادقَ بحر عدن المتلاطم، ويجاور أمواج الشاطئ الذهبي بجولد مور، ويرفع خيلاء بصره إلى شواهق شمسان، ويتأمل أيقونة خرطوم الفيل، ويعفر قدميه بتراب شوارع وحارات المدينة، وجعل من صوته هو الخاص به صوت المبدع والمثقف والأديب، ذلك الصوت الضئيل الهادئ ما تتفوه به حنجرة قلمه المبدع على أوراق حياته وسطور معايشته، ولم يكن هناك من سبيل آخر للتواصل مع الـ (عدن) التي أحبته وأحبت فيه تواضعه الجم، وتناغمت مع خطوات سيره وتنقلات أحواله حتى استقر به الحال في شقة متواضعة في حي (نجوى مكاوي) بالمنصورة، وبوظيفة محرر في القسم الثقافي لصحيفة (14 أكتوبر)، ولم يتنازل عن هذا.استطاع عبدالله علوان بهذا المكسب المتواضع أنْ يفوز في معركة كان يمكنُ له أنْ يخسر نفسه: إنسانـًا وأديبـًا ومثقفـًا كما فعل البعض من المزايدين السياسيين، الذين فاقوه مكاسب مادية وكانوا أدنى قامة من قامته الإنسانية والإبداعية.لقد كان كسبه الوحيد شقة للسكن في حي (نجوى مكاوي) ومكتبـًا متواضعـًا للكتابة.المثقف يجد ضالتهومن لطائف الصدف أنْ يأتي رجل الإدارة الأدبية والإبداعية بلا منازع في ذلك الوقت وكان حينها مديرًا عامـًا لدار نشر ناشئة أسماها (دار الهمداني للطباعة والنشر) هذا المشروع الثقافي الطموح الذي جاء إلينا على غفلةٍ من الزمن، وذهب مع الريح في غفلةٍ منه، بعد أن أصدرت خلال أربعة أعوام أكثر من خمسمائة عنوان كتاب ومجلة سياسية عامة أسماها (المسار) ومجلة للأطفال (نشوان) كان كاتب هذه السطور مديرًا لتحريرها مع تحمله وظيفة عضوية إدارة التأليف والنشر والترجمة.استطاع الحنكي بنفاذ بصيرته أنْ يلتقط عبدالله علوان فصار محررًا ثابتـًا في مجلة (المسار) التي كان يشرف عليها الشاعر العربي الكبير سعدي يوسف، وظل يكتبُ موضوعاته الأدبية والنقدية والإبداعية إلى جانب كتاباته في صحيفة (14 أكتوبر)، وينشر بقلمه المتدفق بلا كلل أو كسل، بل بسيولة يتخيلها الجاهل أنـَّها سيولة مجانية، ويفقهها الفهيم بأنـَّها كانت تفجرات رأس تضج بالأفكار والقضايا والإبداع.وعندما اندمجت (دار الهمداني) بمؤسسة وصحيفة (14 أكتوبر) التي كانت ولا زالت محافظة على امتياز لا يجاريها فيه أي صحيفة أخرى في الوطن؛ ألا وهو ثبات إصدار الصفحة الثقافية بصورةٍ يومية دون انقطاع؛ إلا ما ندر لسبب فني أو ظرف طارئ ولا يتعدى ذلك يومـًا واحدًا، ولا يخلو من زمجرة رئيس القسم الثقافي عن هذا الاحتجاب للصفحة الثقافية.كان اسم عبدالله علوان ثابتـًا في الصفحة الثقافية لـ (14 أكتوبر) أو في الملاحق الثقافية الصادرة عن الصحيفة التي كانت تصدرُ على صفحتين داخل العدد اليومي، وكان لي شرف أنْ أتحمَّل مسؤوليتهما، وكنتُ أرى في اسم عبدالله علوان في مقالاته وإبداعاته تشريفـًا لهذه الصفحة أو الملحق بما يقدمه من كتابات رصينة وجادة، يُسلمنا إياها للنشر بتواضع جم ودون أي تحفظات أو مزايدات في طلب النشر، أو تذمر يمكن أنْ يُصابَ به فيما لو تأخر نشر مقالة أو حدث خطأ مطبعي في بعض كلمات مقالته، ولم أسمعه يومـًا يجادلُ في سمك بنط اسمه صغر أو كبر كما يفعل صغار الكُتـَّاب، ولم يسأل يومـًا عن مكان نشر مقاله رئيسيـًا أو ثانويـًا.جل ما يصبو إليه هو أنْ يرى بنات أفكاره ومداد كلماته وعناصر كتاباته منشورة يجادله الآخرون حولها فيفيض استرسالاً في توضيح المعنى وتفتيق آفاق الفكرة.وأعظم انتصار يحققه في أنْ يأتي صباحـًا ومعه وريقات ما كتبه بالأمس يدفعها للنشر بتواضع جم، ويسعده كثيرًا أنْ يسأله أحد ما: ماذا كتبت اليوم يا عبدالله؟اتسم عبدالله علوان بالتواضع الثقافي والتسامح الإنساني والانفتاح الفكري والمزاوجة بين الأصالة والحداثة، والجمع بين ثقافة (الكـّتـَّاب) والنظريات الحداثية، بحيث ترى فيه ابن القرية الوفي لثقافتها الشفاهية يجايل ابن المدينة العصري المفعم بالنظريات النقدية الحداثية.حميمية اللقاء بالنصكانت عَلاقته بأي نصٍ منقود تبدأ من لحظة حميمية قادمة من داخل النص، ولم يكن يأتيه من فوقية متعالية تسبقها النظريات المعلبة، والأفكار الاستباقية ولذلك تراه في هذه القراءات كطفلٍ يبحثُ عن ضالته بأبسط الوسائل وأقـلَّها أداءً، ولعل تخريجاته التي تضفي على النص الأصلي حالة قرائية جديدة تأتي من خيلاء تصوراته ومن فطرية أفكاره بحيث يبدو في تعامله مع النص كما يقوم الطفل بتفكيك لعبته، كيف يرى دواخلها بعبثية تجعل من البحث الفطري أقرب منالاً من البحث المتسلسل والجامد، وهو في هذا الانشغال الفطري يروم قراءة النص من مجال قد لا يخطر على البال، ولكنها في المحصلة، لا يمكن تجاهل مراميها؛ لأنـَّها - رغم عبثيتها وفطريتها وطفوليتها - معقولة ومنطقية في البحث ومدهشة في الاستنتاج.هكذا وجدتُ كتابات عبدالله في حالة ملامسة حميمية ومثابرة في البحث عن معنى معرفي وجمالي، وقد كان لي شرف أنْ يتناول الناقد عبدالله علوان عددًا من قصائدي وقصصي، ولقد اغتنيت بكثيرٍ من القيم المعرفية والجمالية التي ما كانت لتخطر على بالي أو في تصوِّري للنص، مما يحملني في بعض الأحايين على الانتشاء بهذا الوصول لقراءة ضاربة جذورها في تفاصيل أعماق الحياة اليومية المليئة بالجزئيات والتفاصيل، وترتقي في تلاحم مدهش في فضاء أفكار ومعارف إنسانية وفنية ذات طابع تجريدي.لقد كانت كتابات عبدالله علوان النقدية لا تفصل بين الحياتي والذهني، أو بين الجمالي والمعرفي، بين النص في حالته الكتابية والنقد في حالته القرائية. إنـَّها محاولة كان يتوسلها عبدالله علوان الناقد في إنتاج معرفية جديدة تعطي للنص أُفقـًا آخر، وربما لا متناهيـًا.وإلى جانب كتابات عبدالله علوان النقدية؛ فإنَّ هناك نصوصـًا إبداعية شعرية وقصصية كان ينشرها بين الحين والآخر.ولعل قصصه التي نشرها على فترات متفاوتة كانت القرية وثقافتها محط تناوله، وكأنـَّه بذلك يحاول الإمساك بماضٍ جميل طفولي يحاول استعادته بكل ما أُوتي من تخييل وأدوات تعبيرية.وأما نصوصه الشعرية فقد كانت تأتي على شكل ومضات تخيلية منفتحة على بساط النثرية التي تجعل من النص كتابة خارجة عن أسار الأوزان والتفعيلة، وتتسور بهارمونيا لغوية مموسقة، ولكأنَّ نصوصه الشعرية هي نثريات ذات بريق معرفي وفكري تجاذب الواقع المُعاش والحياة اليومية بسطور من ذهب الكلمات، وهي تلتقي في كينونتها مع قصيدة (الومضة) أكثر من أي شكلٍ أو لون شعري آخر.خـلاصات في معانٍ فروسيةهذه بعض شذرات من لقائط الأفكار المتناثرة أكتبها عن عبدالله علوان الإنسان والمبدع والمثقف التي استقيتها من مجايلتي له عن قرب في الحياة أو في الكتاب، عن ذلك الإنسان المُثقل بالهموم الحياتية والإنسانية بجلد لا يُضاهى وبرصانة في المواقف، وإبداعية في الكتابة وهي بقدر ما ترتخي حبالها في لحظات انكسار؛ فإنـَّها لا تعدم البساطة في التعبير والمصداقية في القول، والعُمق في التفكير، والدهشة في التخييل.عبدالله علوان عنوان لمثقفٍ أهمل المناصب، وتجاهل المناسباتيات، وصعـَّر خده عن المكاسب المادية، فتنقل في (زغاطيط) القرية وحواري وشوارع المدينة، ربما بقدمين حافيتين؛ إلا من التعب، أشعث الرأس الضاج بأفكار لا تنتهي، أغبر السحنة ربما من إهمال في البحث عن وسائل تلميع الصورة والمظهر، وكثيرًا ما كان يأتي مدعك الملابس؛ لأنـّه كان لا يرى ستر الجسد ما يستحق من الانتظار أمام مكواة الزمن الحامية الحرارة، وفي يديه صوجان لا ينفع في هذا الزمان هو صولجان: المثقف العضوي.لم أسمعه يومـًا يسأل عن حاجةٍ يحتاجها، وكنتُ أعلم في أوقات معينة أنَّ معدته فاضية، ولم يطلب يومـًا وسامـًا أو منصبـًا، بل كان المنصب الوحيد الذي يمعن في تحصيله هو أنْ يكون ملكـًا دون منازع على إمبراطورية الورقة، وفارسـًا لا يُضاهى في ركوب خيل الكلمات.كانت إمبراطوريته تلك مترامية الأطراف في يوتوبيا يتوسل الوصول إلى أصقاعها بقلم ضئيل، ومثالية مغامرة لا يتخلى عنها مهما كانت مراحل وعثاء السفر، فيها يرحل ببطولية فارس نبيل، وعقلية رجل حكيم وطفولية مدهشة لابن قرية، وعقلية منفتحة لابن مدينة فاضلة، حتى لكأنـَّه وبين الحقيقة التي يرسمها في الحياة والكتابة مسافة لا متناهية لا يكلُّ حث الخطى وراء سرابها.عبدالله علوان يعطينا معنىً أسطوريـًا يقهر - رغم شدة الانكسارات - الجدارية الصلدة، التي تحطمت عليها أحلام تستحق جدارة البقاء ومثابرة العناء.