المفكر الأمريكي البروفسور بروس لورانس
تطرقت النظريات الغربية حول الإسلام والمجتمعات الإسلامية تصورات عديدة تتعدد الاجتهادات في طريق تعاملها مع هذا الاتجاه، غير أن ما يفرض على عقل المتلقي الغربي هو ما يأتي عبر وسائل الإعلام المهيمنة على حالات التحفز عند الرأي العام الذي تشكلت رؤيته للإسلام من منطلق أن هذا الدين يصنع العنف ويصدر الإرهاب للغربي الذي تحكمه المدينة.وتلك الحالة خلقت عند الكثيرين في الغرب أسطورة الإرهاب الإسلامي وصورة المسلم القاتل وحصر هذا الدين العظيم في مساحة من الأعمال الفردية التي تتحول بفعل التصادم بين الإسلام والغرب إلى رؤية أو حقائق لنوع العلاقة بين الشرق والغرب، ومن هنا تكون العدوانية والقطيعة هما الوضع القائم لحالة الاتصال بين نظرة الغرب الذي يرى في المجتمع الإسلامي قوة تدميرية تسعى للتسيد على العالم باسم الحق المطلق، وبين رؤية اجتهادية إسلامية ترى في الغرب دار كفر وجهاد، تصبح محاربته من واجبات العقيدة.يأتي كتاب المفكر الأمريكي البروفسور بروس لورانس (تحطيم الأسطورة .. الإسلام والعنف) ليطرح نظرة مغايرة عن مفهوم الإسلام كدين له مقومات حضارية وتاريخية وإسهامات كبرى عبر حقب، وفي الوقت نفسه لا يغفل واقع المجتمعات الإسلامية وما تمر بها من أزمات هي وليدة تراكمات أوجدتها مفارقات الأحداث العالمية التي أدخلت العالم الإسلامي في عمق صراعاتها القائمة على الهيمنة الاقتصادية والعسكرية وفرض المذاهب ومراحل إعادة صياغة المصالح في الحياة.تقول رؤية لما طرحه لورانس في هذه الكتاب: (يناقش بروس لورانس أن الإسلام هو عقدة نظام ديني عالمي لا يمكن اختزاله بأفكار فردية، كما يبرهن لورانس أن الإسلام هو دين تشكل بمتطلباته الذاتية من خلال ما يحصل للمسلمين اليوم في العالم المتحضر.يؤمن لورانس بأن الوقت قد حان لتبديل الصور غير المناسبة عن الإسلام بإقرار شخصية متعددة لهذا الدين الجامع وداعميه الكثر.يؤمن تحطيم الأسطورة نظرة ذات معنى عن التاريخ الإسلامي ومفهوماً كبيراً للتجارب المتعددة للمسلمين اليوم).في مقدمة الكتاب يقول بروس لورانس عن وضع العالم الإسلامي الراهن وحالة الإسلام كعقيدة تسعى عدة اجتهادات لطرحها كجزء من مشروع الإسلام السياسي في هذا الاتجاه، الإسلام عبر الزمن والثقافات: (في البداية حجتي بسيطة. ومع ذلك فهي تتعارض مع اكثر المفاهيم الشعبية والأكاديمية السائدة حول الإسلام . أنا أقول انه لا يمكن فهم الإسلام الا كنظام ديني رئيسي ومعقد اتخذ تشكله بقدر متساوٍ من مسلماته الميتافيزيقية ومتطلباته الأخلاقية من جهة، وتمشياً مع ظروف السياسات الإسلامية في العالم المعاصر من جهة ثانية.لقد شهد القرنان المنقضيان التحدي تلو الآخر. فمن الإخضاع الاستعماري الى السلفية المتقطعة تم الى الحركات الإصلاحية للنخبة. واخيراً إلى النضال المنتشر مع الأصولية او النزعة الإسلامية الجديدة.وخلال كل مرحلة من هذه المراحل وجد المسلمون ان عليهم معالجة التوترات الداخلية والتهديدات الخارجية ايضاً.وتلا نجاح النضالات ضد الاستعمار خيبة أمل من الاستعمار الجديد المحلي.ولقد دأب المسلمون مؤخراً في مرحلة ما بعد الاستعمار ـ وبعضهم عرب لكن معظمهم من غير العرب ـ على لعب أدوار أكثر في التغيرات الاقتصادية على الصعيدين الإقليمي والعالمي.ومع ظهور آثار هذه المتغيرات على المجتمعات في كل مكان برز لاعبون جدد أمام الناس. ولعل الظهور الجديد الأبرز هو ذلك المتعلق بالنساء المسلمات.وسوف أناقش لاحقاً ان تجربة النساء المسلمات تدعو ـ فوق كل شيء ـ إلى نهج يتسم أكثر بالفارق الدقيق لمعنى الإسلام في التغيير العالمي.لقد حان الوقت للرد على الأوصاف السلبية حول النساء المسلمات من خلال معرفة دورهن الجديد المؤسس.ومع ذلك فهناك كتب قليلة تحاول استخراج البيانات من دول معزولة إقليمياً، وجغرافياً ممن لديها أغلبية سكانية مسلمة.وعندما ما يتم بذل مثل هذا الجهد فإنه عادة ما يكون عبر عدد من المؤلفين لكتاب واحد، أو عبر كتب، تم إخضاعها لأقلام المحررين وهي تلغي التماسك ذاته الذي تتحدث عنه عناوينها.وفي حين إنني اعرض دراسة عميقة لإحدى العمليات القضائية البالغة الأهمية من الهند، فقد قمت ايضاً بجمع البيانات التي وفرها آخرون لكي أظهر (أ) أن الإسلام ليس عنيفاً في طبيعته الأساسية و (ب) أن النظرة الأعمق للمجتمعات الإسلامية تبشر بالأمل لا اليأس حول الإسلام في القرن الجديد).عبر فصول الكتاب يقدم لنا بروس لورانس عدة افكار ومعلومات عن وضع العالم الإسلامي في الحاضر غير مغفل الحقب التاريخية التي شهدت مداً إستعمارياً واسعاً نحو هذا العالم الذي جعل منه الإسلام صاحب خصائص وهوية وانتماء، ثم جاءت الدول القومية التي تقدر على تجاوز ما تركته حقبة الاستعمار، فكان الفشل نصيب تلك المشاريع القائمة على شعارات سياسية أسست لدولة الحكم العسكري.وفي كل هذا لا يسقط الجغرافيا والثقافة والإرث الاجتماعي من الحسابات التي انتجت الأوصولية الإسلامية في كل مجتمع إسلامي له عوامله في عملية تكوين هذه الظاهرة والتي أصبحت من معالم الإسلام السياسي في النظرة الغربية.وعن باكستان يقول الكاتب: (لا يمكن فهم الأصولية الاسلامية الباكستانية بمعزل عن التاريخ الباكستاني، والذي هو ايضاً اجد نتائج الجغرافية.الباكستاني جزء من شبه القارة الآسيوية فإن للباكستان ارتباطاً وثيقاً بالتطور التاريخي للهند وهي ايضاً مرتبطة بالإسلام باسيا الوسطى والغربية ـ أي الشرق الأوسط.وغالبية سكان الباكستان الذين يربو عددهم على مئة مليون نسمة هم من المسلمين. ولقد اعطى حكم المغول الذي استمر 300 عام النخب المسلمة في شمالي الهند شعوراً بالتواصل مع اجدادهم في اسيا الوسطى.ومع ذلك فإِن الإستعمار البريطاني هو الذي اعطى باكستان المعاصرة شكلها: لقد اشرف اللورد ماو نتباتن على تقسيم مساحات واسعة من الأرض على اسس فئوية شعارها الإنتماء الى دين او مذهب.وكان هدفه تأمين اقصى حد من النفوذ السياسي والفرص الإقتصادية في المستقبل لـ (لؤلؤة العرش) الإنجليزي حتى بعد إعطاء الإستقلال. ولكن ما فعله اللورد ماونتباتن كان خطا قاتلاً ادى الى مقتل الملايين كما دمر آمال ملايين آخرين.ومن بين الأحلام المدمرة أحلام مسملين كانوا يتطلعون الى البقاء في دولة هندية موحدة في مرحلة ما بعد الإستعمار.وأذكر أنني كنت أناقش مع عالم هندي مسلم مسن من دلهي في اواسط الثمانينات قضية التقسيم، سألته: أي من الجانبين أختار عند نهاية الحكم البريطاني؟فرد بهدوء كلاهما ثم اخذ يشرح لي بصوت متهدج: كلاهما لأنني أردت ان اكون هندياً ومسلماً في وقت واحد. لم يكن هناك قدر لخلق الإنقسام بين الأشقاء. دولة إسلامية؟ كانت خطأ إنسانياً وليس إرادة الهية.فالدولة الإسلامية هي حيث يعيش المسلمون سوية بسلام مع جيرانهم.فالبهارات (الإسم السنسكريتي لشبه القارة الهندية) هي دولة إسلامية وليس هي البدعة التي تدعى الباكستان يالهذه الغلطة او يالهذا الخراب.وبالرغم من ان مسلمين هنوداً كثيرين دعموا نظاماً مسلماً ومنفصلاً فليس كلهم ارادوا ان يكونوا مجتمعين في الدولة الإسلامية ذاتها.وادى الانقسام في وقت لاحق بين الباكستان الشرقية والغربية الي إقامة بنغلاديش في سنة 1971م بعد إراقة المزيد من الدماء. وتبين بوضوح أن جزئاين غير متناسقين تفككا من البوتقه التي وضعا فيها في سنة 1947م.وكانت النتيجة ثلاث دول منفصلة يجمعها دستور يحدد قواعد الحكم فيها. وحتى هذه الدساتير كانت مختلفة حول تحديدها لأساسيات الدولة، والأخرى بتعدديتها الإسلامية ينص دستورها على أنها إسلامية بقوة (الباكستان) بينما الثالثة (بنغلادش) بالرغم من الهيمنة الإسلامية عليها بقيت دستورياً علمانية حتى سنة 1987مبكل مايطرحه بروس لورانس يبرهن بأن الإسلام وعبر تاريخه كدين لم يكن من صفاته العنف، بل هو عقيدة لها من خصائص الحوار والإلتقاء مع كل الأطراف، ما جعل لها هذا الحضور العالمي والإسهام الكوني الواسع.اما الصراعات والأفكار التي انطلقت من الاجتهادات الفردية اوالجماعية لا تمثل سوى الاسباب والاحداث التي اوجدتها، في الماضي عوامل هي دخيلة على الاسلام كدين، غير أن لحوادث الأزمنة وعقليات حملت الحقد والكراهية لهذا الدين الخالد، افرزت مثل تلك التصورات والحاضر ان وقع في نفس الأخطاء التاريخية السابقة لا يعني هذا ان الاسلام قد اصبح يحمل صفة العنف، فهو صاحب قدرة على تجاوز الأزمات واخراج الرؤية التي تتواكب مع مستجدات المراحل.فالمجتمعات الاسلامية بما تمر به من تغيرات ومحاولة إستعادة الهوية الحضارية لها ورفض مافرض عليها من افكار ومذاهب، لا تنطلق الا من الاحساس بحقها في العودة الى سند روحي ومادي ترك لعقود خارج المراهنات السياسية والمشاريع النهضوية والزعامات العسكرية التي تربعت على مراكز القيادية لفترات تحولت الى صورة ثابتة من التابو الذي فرض على حياة العامة.غير ان هذه العودة وقعت في ازمة الرؤية والعمل في اختيار اساليب التنفيذ، فكانت تصورات الحضارة الاسلامية وماافرزت عبر صراعاتها من مذاهب وعقائد واجتهادات ترجع في جوهرها لتلك الازمنة، وتصورات فردية في جوهرها لتلك الازمنة، وتصورات فردية انتجتها صراعات بين رجال الدولة العصرية وبعض قادة العمل الإسلامي، وقد اصبحت من ادبيات جماعات الإسلام السياسي التي نقلت هذا المشروع من فترات التنظير الى مراحل المواجهة مع الآخر.وهذا ماادخل مشروع الاسلام السياسي الى ساحة الصراع الدامي الذي جعل منه الغرب الشبح الذي يرعب عالمه، وبأن الإسلام هو العدو الوحيد للبشرية تلك الأسطورة التي صنعتها وسائل الإعلام في الغرب تجاه الاسلام كدين والشعوب الاسلامية فالغرب الذي اوجد الإنقسام الجغرافي والسياسي والتاريخي بين الشعوب المسلمة، ومازال يسعى لإخراجها من حضورها التاريخي كأمة صاحبة منزلة عظيمة في بناء الحضارة.ويرى الكاتب في حاضر العالم الإسلامي مرحلة من إستعادة الهوية، بالرغم من الأزمات المتراكمة.في التمهيد الذي يتصدر الكتاب بقلم جيمس بيسكاتوري ودايل ايكلمان تقدم هذه الأفكار حول ماذهب إليه مؤلف في معالجة حال الواقع الإسلامي في عالم اليوم : (لم يكن العنف يوماً بعيداً عن الدعاوى الشعبية للسياسة الإسلامية.وهناك اعتقاد ان الاسلاميين او (الاصوليين) يناصبون الدولة العلمانية العداء الشديد.وينظر الى العمليات الجهادية على أنها وجه هام ـ إن لم يكن حاسماً ـ في التقابل بين الإسلام والغرب في وقتنا الحاضر.كما أن وضع المرأة في المجتمعات الإسلامية اتخذ صفة الكليشية، «أي الفكرة المبتدلة».مثلما هو الحال مع جميع المفاهيم المدركة، هناك بعض عناصر التأمل في هذه الصيغ. الا انه يتوجب إجراء تحليل صحيح للأكتشاف الكامل للسياقات التي تطورت فيها المجتمعات الإسلامية، وايضاً للطرق التي تفاعلت فيها مع الأنظمة الإقتصادية والسياسية الكبرى.لقد قدم لنا بروس لورانس قراءة مسهبة للتجربة الإسلامية المعاصرة.بالنسبة للمجتمعات الإسلامية بدءاً من القرن الثامن عشر ومابعده، ومثلما هو حال المجتمعات الأخرى، فإن الحدث الكبير كان الغزوات الإمبريالية الغربية، وقدوم الإستعمار).يظل هذا الكتاب من الإجتهادات التي تقدم صورة منصفة عن الإسلام كدين مازال قادراً على مواكبة التطورات العالمية في المعارف، لأن الأرث التاريخي لهذا الدين يمتلك القدرة في قراء مستجدات الحاضر، طالما ظلت الهوية الإسلامية المرجعية الموضوعية في تواصل العالم الإسلامي، وسوف يظل الإسلام ديناً عالمياً تجد فيه الإنسانية مايسد الفراغ الروحي الذي يعصف بعالم الماديات، لأن القوة العقائدية لهذا الدين العظيم هي من يظهر حقائقه.المرجع:تحطيم الأسطورة .. الإسلام والعنفتأليفاً: الدكتور بروس لورانستعريب : غسان علم الدين مراجعة: الدكتور رضوان السيداالناشر: مكتبة العبيكانالطبعة العربية الأولى: 2004مالمملكة العربية السعودية