محمود أسدللإبداع نكهة خاصة ومذاق عذب ولكن عذبه لا يأتي قبل أن يذوق المبدع مره وأجاجه كداً وسهراً ومتابعة، فالمبدع هاجسه المستمر شهرة وتألق ليشار إليه، تخطفه المقابلات والأضواء. فيبقى متابعاً من النقاد والمحبين، والأدب موهبة تكاد تسمو على كل المواهب من قديم الزمان، فالأديب له سمة التميز بين أفراد المجتمع يؤخذ برأيه، وتقَدر أفكاره ومواقفه، وتأخذ حيزاً من الزمان فتشغل المتابعين والمهتمين، وهذه الثقة تتطلب من الأديب أن يعرف كيف يصعد دون أن يسقط، وما أكثر الأدباء الذين سقطوا بعد صعودهم أو قبل صعودهم ! .على عاتقنا أن نتوجه إلى الأدباء الشباب أو من يسميهم النقاد (مشروع أديب) ببعض الملاحظات لتكون مؤشراً و دليلاً يهتدون به وهم في بداياتهم .إن كلمة أديب كلمة حلوة ورائعة، تفرح صاحبها لفترة طويلة، ولكن كلمة أديب كلمة فاشل قاسية ومرة ومخيبة للأبد، وقد تغير مسار الأديب وتقتل موهبته الكامنة في أعماقه، فيجف فيض العطاء قبل انبجاسه فالسقوط له أسبابه ومظاهره، والصعود والارتقاء له أسسه ومرتكزاته فارتقاء الأديب سلم الشهرة والأدب الصادق الجيد لا يأتي بين يوم وليلة كسرعة البرق . ولا يأتي مصادفة أو بولادة قيصرية، فالموهبة كالنبع الذي ينبجس من الصخر ثم يرسم مساره مع الزمن متحدياً الصعابَ ليشكل جدولاً أو نهراً ثمَّ يصبّ في بحر كبير، بحر الإنسان والحياة، فالصعود والتطور مطلب مشروع، ومن واجب الأديب أن يسعى إليه ولكن صعوده وارتقاءَه بحاجة لمقومات أساسية وثوابت متينة . فمن يستعجل صعوده فسوف يستعجل سقوطه وتخيب مساعيه، وإن صعد خطوة أو خطوات فهو واقع لا محالة .. فمقومات الصعود كثيرة، وأراها بالموهبة المتوقدة وحسن الاختيار للجنس الأدبي وهذه الموهبة تصقَل بالاطلاع المستمر الواعي والمتابعة للتاج الأدبي والفكري والاستفادة من آراء القدماء والمعاصرين من النقاد على مختلف مشاربهم وعدم الاستسلام للفشل من التجارب الأولى، فالأديب معرض للنقد، وجو الأدب مليء بالمشاحنات والأذواق المختلفة والانطباعات النافرة والأمزجة الحادة والغريبة وهذا أمر عادي على الأديب أن يستوعبه، وعلى الأديب أن يعرف مساره الذي يمشي عليه، ويعرف أين يضع كلمته وفكرته، ويعرف كيف يمارسها سلوكاً وعملاً. لأننا في مجتمع لا يفصل بين القول والعمل والسلوك الشخصي والعام وهذا حسن بعكس الغرب الذي ينظر إلى سلوك الأديب بعيداً عن إبداعه ويعتبره من حريته الشخصية، فيهمهم من الأديب إبداعه. والعمل الأدبي والإبداعي بمثابة نصف خط مستقيم له بداية وليس له نهاية ، فالوصول إلى النهاية مستبعد وهذا ما يستدعي الأديب للبحث عن صيغ جديدة من التطور والاستمرار . فالأديب الواعي يبحث عن شخصيته وعن أسلوبه الخاص به . لا يدور في عجلة الآخرين أسيراً لأهوائهم وصراعاتهم ومربوطاً متأثّراً بهم دون دراية ومحاكمة لما يطرح أمامه وما أكثر المأسورين لمثل هذه الأمراض الأدبية ! .. لقد أفْرزت الساحة الأدبية وما فيها من مجلات وصحف ومنابر متنوعة ومختلفة كثيراً من الأدباء ولكن أكثرهم سقط وهو يحاول الصعود . وربما سقطوا قبل أن يصعدوا ، وهذا الذي يهمني في البحث . فسقوط الأديب يشَكّل هاجساً وعبئاً ثقيلاً . يهدّ كاهله ، ويحطم نفسه وأحلامه . فالسقوط وارد من الخطوة الأولى . وهناك من يسقط وهو في أعلى مراتب الصعود حيث الشهرة والمكانة، إن الأديب بحاجة لمناعة ودراية وإلمام وحذَر لئلَّا يقع ويسقط دون قيام ورجعة . فاستعجال الشهرة بأية وسيلة مقتلة للأديب، والغرور واستصغار الآخرين داء عصي شفاؤه ، لأنه يقع في النهاية على رأس الأديب ويرميه بالقاضية . وهناك من يسقط قبل أن يضع رجله في طريق الأدب لأنه لا يترك لموهبته الوقت الكافي حتى تنضج، وربما لا يعرف كيف يوظف موهبته ويعرضها، وقد لا يجد من يأخذ بيده ويرعى تجربته بموضوعية فيصطدم بالجفاء والتعالي والتنظير والمحاسبة القاسية واختلافات وجهات النظر . فلا يستطيع هضمها فيمزق أوراقه ويمشي بلا عودة ، أو يواجه في بداياته تطرية زائدة، فيسمع مدحاً مبالغاً فيه فلا يعجبه بعد هذا المدح شيء ولا تسعه الدنيا، ومن حالات السقوط الأدبي التي يقع فيها المبتدئون سلوكهم الطرق الملتوية وما أكثرها في أيامنا ! رأسمالها تعرف مبرمج في الذهن لمحرر أو إجراء مقابلة مع أديب محرر في مجال النشر أو كتابة دراسة عن أديب له مكانته ونفوذه فسرعان ما تجد اسمك لمع،ولكن سرعان ما يخبو وميضه وينطفئ لهيبه إذا قدر له الاشتعال في حال كونه جافاً وضحلا. وهناك سقوط من نوع آخر وذلك عندما يهمل الأديب موهبته، ويدير ظهره لها فلا يقرأ، ولا يطور نفسه بل يلتفت إلى التظير والطعن واللمز حول طاولة شلليه، فهذا الأديب فسد من الداخل فلا يمكن أن يعطي أريجا بعد ذلك. أرى الأديب لا ينفصل شقّه الأخلاقي عن شقّه الإبداعي، وما أكثرَ الذين سقطوا وهم يجرون وراء شهرة سريعة دون التماس للنهج الصحيح فماتوا أدبيا وأماتوا معهم موهبةً جيدةً ورائعةً نحن أحوج ما نكون إليها، وما أقسى انهيار الأعمدة القوية والعالية بعد شموخها ! فبعض الأدباء الكبار الذين استهلكتهم الصحافة اليومية، فلا يجدون متسعاً من الوقت للعمل الإبداعي الحقيقي، سرقتهم العواميد اليومية واللقاءات الصحفية والإذاعية وما شابه ذلك،فكتابتهم أصبحت وظيفة رسمية وأداء واجب لا أكثر . يكتبون دون نضج، فلا تجد لهم عملاً إبداعياً ضخماً كالرواية أو الدراسة أو الملحمة. وهذا نراه في أغلب الصحف مع العلم أن الصحافة في يوم من الأيام أبرزت الكثير من الأدباء والنقاد كالعقاد والمازني والرافعي وطه حسين وغيرهم. وهذا يطرح تساؤلاً يحتاج لتفسير، فهل تغير دور الصحفية في أيامنا الراهنة عن دور الصحفية في بداياتها ؟! .إن هاجس الكتابة فقط دون محرك أو مهيج يجعل الأدب سطحياً لأن هدف الكاتب الظهور على الساحة والاستمرار في معمعتها، أو ليشعر الآخرين بأنه موجود . لا شك أن هذا السلوك سيدخل الملل ويبعد المتلقي عنه، لأنه اعتاده كل يوم ودون رؤية جديدة فياله من سقوط مخيف !. يغيب عن بال هؤلاء الأدباء بأن عملاً واحداً متميزاً يجعل الأديب يحفر اسمه في سجل المبدعين المتميزين، فالقضية قضية كيف ونوعية وجودة وليست قضية كم هائل فارغ،ليتنا فهمنا هذه الحقيقة وأعرض لنوع من السقوط المخيف الذي يقع فيه كبار الأدباء . عندما يصلون لحالة نفسية من الاعتداء بالنفس والغرور، فيعتقدون فيها أن نتاجهم مقروء ومطلوب ، وكل ما يكتبونه سوف تنشره الصحف والمجلات، ويتهافتون عليه معتمدين على سمعة سابقة. وهذا خداع للنفس واستهتار بالقارئ العادي . أما القارئ الواعي المثقف والمتابع لا تغيب عنه المقارنات، وهذه النوعية من المتابعين أساس الحكم في العملية الأدبية، إننا نسمع الكثير من المتابعين وهم يعرون الكتاب الذين أخذوا يكتبون أموراً لا تتناسب مع سنهم ولا تصل إلى مرتبتهم التي وصلوا إليها وتلتقي بكتابات يريد القراء . ومع ذلك نرى باب النشر والتطبيل والتزمير مفتوحاً لهم . لأن ظاهرة الاكتتاب والمتاجرة بأسماء كبار الأدباء أصبحت ظاهرة مرضية وتقليعة صحفية تتسابق عليها الصحف والمجلات العصرية، ويتمثل سقوط هؤلاء الأدباء بعدم السعي للتجديد وعدم الحساب للقارئ الجيد، وكيف يسعون لهذا وهم لا يجدون الوقت الكافي للتأمل والتفكير والقراءة المتأنية، ونعرف جيداً ماذا تعني العملية الإبداعية من إرهاصات ومخاضات تستهلك كل شيء من الأديب، وهناك سقوط مفاجئ أخشاه كثيراً على كثير من أدبائنا وهو السقوط النفسي والانحراف عن نهج سلكه الشاعر وآمن به لفترة طويلة، فالأديب الذي يعيش حالماً ومنظراً وباحثاً عن مدنية فاضلة ينشدها متألّماً ومعبراً عن طموحه ، ويسعى لزرع آرائه وأفكاره، فسرعان ما نراه قد انهار وانحرف عن طريقه مع أول صدمة مخيبة يتلقاها، لا يستوعب طبيعةَ الحياة وقسوة الظروف وضرورة الحفاظ والتمسك بما يؤمنون به، فنراه فجأة انقلب على عقبيه وانحرف انحرافاً كليا، قد يبعده عن الأدب بلا عودة . ومنهم من يلجأ للتعبير عن المرحلة الجديدة متخلياً عن كل أفكاره السابقة ، وفي هذه الحالة قد يحلق ويشق الطريق له من جديد أولا يقنع لأنه عرف بلون محدد أثر بمتابعيه فيعتبرونه مرتداً عما آمن به.ولا أريد في هذه العجلة أن أتصيد الهفوات الأدبية التي تضع الأديب في هاوية الانحراف والسقوط . وأذكر من هذه الأمور تلك الحوارات الأدبية البلهاء والتي قد يجريها الأديب مع نفسه وينسبها لغيره وقد جرت مثل هذه الأمور. وفي كثير من الأحيان يضعون الأسئلة والأجوبة والمحاور ليس له سوى اسمه أسفل الصحيفة وهناك سقوط للأدباء أراه في النقد المبيت والجاهز والمطبوخ في مطبخ الحب أو الكره تحركه المصالح والأهواء والانتماءات والديون الشخصية السابقة.وهذا داء مفْسد لأجواء الأدب التي يجب أن تكون نقية من هذه الأدران، وهل أتحدث عن السرقات الأدبية التي تستفحل في أيامنا نكتشفها حيناً وتمر على الجميع في كثير من الأحيان وأخص الأعمال المترجمة فهي حديث المقاهي والأدباء … أردت في هذه المقالة توضيح نقاط علها تكون مفيدةً وساطعة لأدباء موهوبين يشقون طريقهم الأدبي فبداية خط الانحراف نقطة، وما بني على أرض هشة سرعان ما ينهار. وإن الحقيقة لا بد أن تظهر والصحيح لا بد أن يصمد و يزهر، وإن الزبد سيطفو و المعوج سوف ينكسر لا محالة .
|
ثقافة
الأديب بين الارتقاء والسقوط
أخبار متعلقة