قـصة قصـيرة
محمد عمر بحاح غراب على نافذته أقلق نومه ..أيقن أنه في بيته وإنه عاد البارحة فقط ... استلهم الصباح . نزل الى الشارع كان لا يزال متدثراً بندى الفجر تأكد أن كل شيء فيه ملتصق في مكانه ، الرأس ، العينان ، الأنف ، الشفتان، اليدان ، الساقان . أيقن أنه هو هو ولا أحد سواه ....لماذا بدت له الشوارع غير الشوارع ، والمدينة غير المدينة . والناس غير الناس ؟ لطالما عفّرها بعرقه وعطره ! لم يعد للزعفران رائحته لم يعد للفل والكاذي أريجهما على الارصفة عربات تزعق . لم يفهم لماذا تترك البضائع الحوانيت وتفترش الطرقات ! حلق غراب فوق رأسه ونعق "قاق، قاق ، قاق" تعثر بأكداس من النفايات وداهمته روائح كريهة في عثرته التبست أفكاره : هل هي المدينة نفسها .. أم عاد الى أخرى يراها لأول مرة ؟!قاق ... قاق ..صاح الغراب .بصعوبة ، وجد موطئاً فدس فيه قدميه . داهمته ذكريات بعيدة.. الوجه هلال الشعر والعينان بسواد الليل وضحكها مثل نهار وعطرها ما زال في أنفه .كانت امرأة تكفي لحبه ولهذيانه ، امرأة سخية تعرف كيف تحب ؟ وكيف تصعد مدارج روحه؟ أين هي الآن ؟صارت لرجل آخر لام نفسه لأنه لم يعرف كيف يصون حبها ولا كيف يدافع عنها فعبرت الى رجل سواه ، يضعها كزينة ويسورها بالخناجر فتطوقه بهدير حارق !قاق .. قاق .. قاق .يواصل الغراب نعيقه ثمة عربات ناعقة تتدفق على الشوارع ثم ناس لم يعرف أحداً منهم أو عرفوه .أحس بأنه غريب في مدينته يقطعها الشوارع بكل الاتجاهات لا يحس الألفة القديمة ولا لامست روحه روائح زمان ، ولم يجد أثراً للأصدقاء ..أين هم ؟ قاق ! لماذا لا يصادف أحداً منهم ؟قاق ! بعد عصر كل يوم يحتشدون في مقهى زكو ..يرفعون الأكواب ويحتسون الشاي ويقتنصون الضحكات العابرة هندية بسار ، عدنية بشيدر ، وفتاة أجنبية بميني جيب أو بشارلستون . همسة ملفوفة بعطر عربي ورائحة صندل. قاق ! .. لا زكو .. ولا نكهة نعناع ، ولا ألفة الاصدقاء ، ولا نساء يطعنه بعطرهن ، ولا كائنات تؤنس وحشته .. الروح .قاق ..قاق .. قاق .جرجر قدميه حتى البحر ، الماء هنا وملحه لعله يصله بالجهات الاربع .. قاق ، هل هو نفس الغراب وقد تبعه حتى هنا .. كان يستلهم البحر كل صباح ، يجده دوماً في انتظاره يدحرج موجه وضحكته يعد له ما استطاع من الزبد .يفرك قدميه الحافيتين بحنو يدعك أصابعه .يوشوشه ويزيل كل أرق لديه ، أما الآن .. قاق ، لا شيء من ذلك ! قاق .. قاق .انسكب كله هناك كل عمره المراق ..قاق ! وكل ما تبقى من بقاياه ..قاق! الماء هنا وثمة عتاب بينهما : كنت تأتيني لاهثاً ومن كل موت تعود ! قاق .. ثمة امرأة كانت تأتي معك ولم تعد تأتي بعدك ! قاق .. كانت تبلل شيدرها بدموعي وترطن بلغة لا يفهمها سواي. حملت أوجاعك ، وحين ذهبت أودعتني حزنها .صاح الغراب: قاق .. قاق !- وأين هي الآن ؟قال البحر :- حضنتها حتى الاعماق ! :- قاق . قاق . قاق !- هل ثمة امرأة كانت هنا ؟- قاق !- وهل ثمة بحر كان هنا ؟- قاق !تدلى من حالق ! حلق الغراب فوقه .قال: ربما لو صعدت الجبل ، ونظرت إليها من فوق ، ترى بهاءها المعتاد ومهابة تكفيك . تذكر إنه كان يصعده دوماً ، وأول مرة صعدة في رحلة مدرسية مع تلاميذ صفه بسروال قصير وقميص أخضر ، ومن هناك رآها بأبهى جلالها ، ملكة لا تضاهيها امرأة في الجمال ، امرأة تكفي لأن يحبها كل الرجال ، ويموتوا تحت قدميها بدون سؤال .. قاق .. ثم قاق .. وقاق .. وقاق !ستقتلك الاحزان ، لعلك حين تراها تفجع من أين ستبدأ ؟ قاق .. أي الطرق سوف تسلك ؟كل الطرق إليها موصدة .. معاشيق ؟ قاق ! صيرة ؟ قاق ! حقات؟ قاق .. كانت امرأة من ماء .. احبتك حتى الجنون وفي غفلة " ظهر أحمر " تركتها لسواك ، لا أحد يترك عدنية ويعتذر عن هذا الحب أو يطلب الصفح !ها أنت والغراب ، وهذيانك المجنون بين الجبل والبحر ، تسأل البحر فيحيلك الى الجبل ، وتسأل الجبل عنها فيقول لك الجواب يملكه البحر . وأنت تتدحرج بين هذا وذاك ، ولا تجد الجواب سوى ما يقوله الغراب ..قاق .. قاق .. قاق ! الغربان تنطق حكمتها :" الداخل مفقود والخارج مولود "!وأنت اضعت الحكمة منذ غادرت ولم يسمع بك أحد فلماذا عدت الآن ؟..بأي فضاء تحتمي .. قاق .. هذا الغراب سيصيبك حتماً بالجنون ! مرة الى البحر تعدو وتارة الى الجبل .والغراب ينعق في آخر هذا الليل ! كم من العواصم مررت عليها ولا واحدة حمتك ؟! كم من النساء عرفت ولا امرأة أحببت ؟ كم من الغربان نعقت في سماواتك ولا غراب نطق بحكمة غراب هذه المدينة ؟! من أقاصي الحزن والاغتراب عدت .. هي هنا في دمك ، وفي كل أغنية من أغانيك ، هي هنا تسكنك وفي نسيج الروح ، أينما ذهبت حملتها معك أسطع من كل المدن .. وأبهى من كل نساء هذا .. الكون ! وأنت أيها الغراب كم ستنزف من نعيب .. قاق .. قاق .. قاق !ثم بحر أقرب من حبل الوريد .. قاق !ثمة امرأة .. قاق !ثمة غراب .. قاق .. قاق .. قاق !ثم رجل وحيد ، يبحث عن امرأة تأويه ، وتنهض لملاقاته ..قاق .. قاق .ماذا يفعل رجل وحيد سوى الاصغاء لحكمة الغراب ؟!يمضي ويبقى البحر .. ونعيق الغربان وحكمتها الازلية .. قاق .. قاق ..قاق ![c1]عدن /24 مارس 2006م[/c]