الإمام محمد بن جرير الطبري
في سنة 224 هـ وفي مدينة آمل في طبرستان رأى النور طفل موهوب هو محمد بن جرير بن يزيد بن خالد، الذي اشتهر بلقب الطبري وأشغل العالم الإسلامي بمؤلفاته، ولا يزال يحتفظ بمكانته لدى المثقفين ودارسي التراث. على أن عبقرية الطبري لا تتجلى فقط في مؤلفاته الكثيرة وأبحاثه التي تفرد فيها، لكنها تتجلى قبل ذلك في نشأته العصامية وحرصه على طلب العلم مع فقره واحتياجه إلى أن اكتمل اجتهاده العلمي . من طبرستان التي اكتسب منها لقبه (الطبري) طاف الطالب محمد بن جرير بلاد العالم الإسلامي حيث لم تكن هناك حدود ولا قيود على تنقل المسلمين،فتنقل ابن جرير بين فارس والعراق والشام والحجاز ومصر، ولقي الشيوخ في كل بلد، واستفاد منهم، فيقولون في ترجمته أنه طوَّف بالأقاليم وسمع محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وإسحاق بن أبي إسرائيل وإسماعيل بن موسى الفزازي وأبا كريب وهناد بن السري والوليد بن شجاع وأحمد بن منيع ومحمد بن حميد الرازي ويونس بن عبد الأعلى ويعقوب الدروقي وأبا سعيد الأشجع وابن بشار وعمرو بن علي ومحمد بن المثنى ، وخلفنا كثيراً من شيوخ العراق والشام ومصر. ولم يكن له من الدخل ما يعينه على ذلك الطواف طلباً للعلم فقاسى الكثير، وهو يروى عن نفسه قصة حدثت له في مكة سنة 300 هـ كان فيها شاهداً على أمانة شيخ اسمه أبو غياث المكي، وقد كوفئ ذلك الشيخ الفقير على أمانته بكيس مال فيه ألف دينار، وقد أعطى ذلك الشيخ من مكافأته تلك نصيباً للطبري، ويقول الطبري إنه استعان بذلك المال على طلب العلم وأنه اقتات بذلك المال سنين، كان يسافر به ويشتري الورق ويعطي الأجرة. يروي الخطيب البغدادي قصة أخرى عن الطبري ورفاقه حدثت لهم في مصر، يقول« جمعت الرحلة بين محمد بن جرير ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومحمد بن نصر المروزى ومحمد بن هارون الرويانى بمصر فلم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه فاتفق رأيهم على أن يضربوا القرعة فمن خرجت عليه القرعة خرج وسأل لأصاحبه الطعام،فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخيرة، فاندفع في الصلاة، وإذا بالشموع قد أتت إليهم وخادم من قبل والي مصر يدق عليهم الباب ويسأل عنهم ويعطي كلاً منهم صرة فيها خمسون ديناراً، ويقول إن الأمير قد رأى مناماً وهاتفاً يقول له : «إن المحامد (جمع محمد)قد جاعوا فابعث إليهم بالصرر..». وتلك الرواية قيلت في ترجمة كل واحد من الأربعة، ويهمنا منها أنها تفصح عن المعاناة التي كان يلقاها الطبري في أسفاره. وكان الطبري ـ شأن كل عالم متفوق فقيرـ عزيز النفس أبي الأخلاق ،وهو يعبر عن ذلك شعراً فيقول: إذا أعسرت لم يعلم رفيقي [c1] *** [/c] وأستغني فيستغني صديقيحيائي حافظ لي ماء وجهي [c1] *** [/c] ورفقي في مطالبتي رفيقيولو أني سمحت ببذل وجهي [c1] *** [/c] لكنت إلى الغنى سهل الطريقويقول عن أخلاقه في حكمة رائعة : خلقان لا أرضى طريقهما [c1] *** [/c] بطر الغنى ومذلة الفقر فإذا غنيت فلا تكن بطراً [c1] *** [/c] وإذا افتقرت فتُه على الدهر [c1]تفوقه العلمي[/c] لقد آتت هذه الرحلة العلمية أكلها إذا أتاحت لمحمد بن جرير الطبري أن يستوعب علم عصره وأن يصيغه في مؤلفاته الكثيرة التي تزدان بها المكتبة العربية حتى الآن. صحيح أن الطبري كان له تلامذة أخذوا عنه مثل ابن كامل القاضي وابن عبد الله الشافعي ومخلد بن جعفر ولكن تلامذة الطبري الحقيقيين هم أولئك الذين نشؤوا على مؤلفاته وعاشوا عليها وهم بذلك يبلغون الآلاف والملايين وباب التلمذة عليه مفتوح ما بقيت كتبه ومؤلفاته . وإذا كان للطبري دور الريادة في التفسير والتاريخ فإن تفوقه الحقيقي يظهر في مقدرته الفائقة على التأليف وسرعته العجيبة في التدوين، ثم يكون مع هذه السرعة العجيبة متفوقاً ورائداً في كل ما يكتب وهو كثير، وفي أصناف العلوم التي يكتب فيها وهى متنوعة . لقد مكث الطبري أربعين عاماً يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة، وقد سأل أصحابه عن وضع تفسير للقرآن يبلغ ثلاثين ألف صفحة فقالوا: « هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقة، وسألهم عن تأليف لتاريخ العالم من آدم إلى وقته يبلغ نفس الحجم(30 ألف صفحة) فاستكثروه، فاختصره في تاريخه المعرف وقال له: إنا لله .. ماتت الهمم ..!!» ويروي رفيقه محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه استملى تفسير الطبري من الطبري من سنة 283 إلى سنة 290 هـ وقرأ أبو بكر بن بالويه قال فيه : قد نظرت فيه من أوله إلى آخره وما على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير، أي أن السرعة في ذلك العمل الكبير لم تكن عائقاً أمام التفوق فيه إلى درجة أن مدحه أهل العصر. وقد قالوا عنه إنه كان احد أئمة العلماء ، يحكمون بقوله ويرجعون إلى رأيه لمعرفته وعلمه وفضله ,وإنه جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره,وكان حافظاً لكتاب الله عارفا بالقراءات بصيراً بالمعاني فقيها بأحكام القرآن ,عالماً بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها,عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم وعالماً بمسائل الحلال والحرام وأيام الناس وأخبارهم,وقالوا إن له الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك وكتاب التفسير الذي لم يصنف أحد مثله وإن له كتاباً سماه تهذيب الآثار لم ير أحد سواه في معناه وان كان لم يتمه,وله في فصول الفقه وفروعه كتب كثيرة,وإنه تفرد في مسائل حفظوها عنه. [c1]مؤلفاته[/c]وقد ذكروا مؤلفاته بالتفصيل ومنها: « القراءات» ،و «العدد التنزيل» و« اختلاف العلماء» و « تاريخ الرجال من الصحابة والتابعين إلى شيوخه» و» لطيف القول فى أحكام شرائع الإسلام « ويقع في ثلاثة وثمانين كتاباً ،« لطايف القول وخفيفه في شرايع الإسلام» مسند ابن عباس» و« اختلاف علماء الأنصار» و» كتاب اللباس» و«كتاب الشرب» و« كتاب أمهات الأولاد» و« أمثلة العدول في الشروط» و« تهذيب الآثار» و» بسيط القول» و» آداب النفوس «و» الرد على ذي الأسفار» ويرد فيه على ابن داود و» رسالة النصير في معالم الدين» و«صريح السنة « و« فضائل أبى بكر» و« مختصر الفرائض» و« الموجز في الأصول» و« مناسك الحج» و« التبصير في أصول الدين» وابتدأ بكتاب البسيط في الفقه فكتب في باب الطهارة نحو ألف وخمسمائة ورقة.!! وإلى جانب علمه ومؤلفاته فقد كان الطبري مشهوراً بحسن قراءته للقرآن يحكي أبو على الطوماري أنه استمع إلى الطبري وهو يقرأ القرآن في المسجد فلبث واقفاً يستمع وترك الناس ينتظرونه ولما سُئل عن سبب تأخيره فأخبرهم وقال: ما ظننت أن الله تعالى خلق بشراً يحسن ويقرأ هذه القراءة للقرآن. وبلغت شهرته العلمية قصور الخلافة العباسية، وحدث أن أراد الخليفة المقتدر بالله العباسي أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقاً عليها بين العلماء بحيث لا يستطيع أحد الطعن فيه فقيل له: لا يستطيع أن يكتب ذلك إلا محمد بن جرير الطبري، فاستدعاه فكتبه له، ثم قال له الخليفة:سل حاجتك، فقال له الطبري: لا حاجة لي، فقال له الخليفة: لابد أن تسألني حاجة أو شيئاً،فقال الطبري: أسأل من أمير المؤمنين أن يمنع المتسولين من دخول مقصورة الجامع يوم الجمعة، فأمر الخليفة بذلك. [c1]محنته ونهايته[/c]أدت شهرة الطبري إلى حقد الحنابلة السنيين عليه فتعصبوا ضده، وأثاروا عليه جماهير الطلبة،يقول ابن كثير في تاريخه عن الطبري «كانت وفاته وقت المغرب عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر وثلاثمائة ، وقد جاوز الثمانين بخمس سنين،ودفن في داره لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا دفنه نهاراً، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد، وحاشاه من ذلك كله، بل كان أحد أئمة الإسلام علماً وعملاً بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الظاهري حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم». ويذكر خليل الصفدي أن الطبري حين قدم بغداد من طبرستان تعصب عليه ابن الجصاص وابن عرفة والبياضي وأثاروا عليه الطلبة فسألوه في المسائل الخلافية ولما لم ترضهم إجابته رموه بمحابرهم وكانت ألوفاً فهرب منهم إلى داره فردموا داره بالحجارة، حتى صارت الحجارة على باب داره كالتل العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة ففرق الناس عن داره بعشرات الألوف من الجنود، واضطر الطبري للاعتكاف في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، ومات، وعثروا على ذلك الكتاب مدفوناً في التراب فأخرجوه ونسخوه بعد موته..!! ويذكر المؤرخون أن العوام منعوا دفنه علناً، فدفنوه سراً، ثم أتى الناس أفواجاً إلى قبره فيما بعد يترحمون عليه..!! لقد كان الطبري طوداً شامخاً في عصر تكاثر فيه أنصاف العلماء وجمهور كبير من محترفي العلم الذين يستطيعون التأثير في العوام، وأولئك حسدوا الطبري على تفوقه ونبوغه وشهرته، ومنهم جاءت محنته في أواخر حياته بعد أن تعدى الثمانين.. وخصوم الطبري ماتوا وهم أحياء.. بينما يظل الطبري حياً بمؤلفاته وتراثه العلمي. لقد قال عنه شيخ علماء الحديث والمصطلح وشيخ المؤرخين الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال «محمد بن جرير الطبري الإمام الجليل المفسر أبو جعفر صاحب التصانيف الباهرة،مات سنة 310 وهو ثقة صادق» ودافع الذهبي عن الاتهامات التي نسبها خصوم الطبري إليه فقال« وهذا رجم بالظن الكاذب ،بل إن ابن جرير من كبار أئمة الإسلام المعتمدين، وما ندعي عصمته من الخطأ، ولا يحل لنا أن نؤذيه بالباطل والهوى،فإن كلام العلماء بعضهم في بعض ينبغي أن نتأنى فيه ولاسيما في إمام كبير» .[c1]الطبري فى السياق التاريخي للحضارة العربية [/c] جاء الطبرى فى أزدهار عصر التدوين بعد انتهاء عصر الرواية الشفهية ، لذا يقال إنه ( سمع عن فلان وفلان). أى بدأ التدوين بكتابة ما كان يلقى على الأسماع من روايات شفهية . وكان أغلب ( المسموع) من الروايات الشفهية ينتمى الى السيرة النبوية و الأحاديث المنسوبة للنبي محمد عليه السلام ، وما يقال عن القرآن الكريم مما سمى بالتفسير ، و ما يقال من علوم شرعية وقواعد لضبط الأحاديث المصنوعة ، ثم تاريخ الخلفاء بعد موت النبى محمد عليه السلام ، بالاضافة الى المتوارث من تاريخ الأمم السابقة من أساطير تبدأ بخلق العالم وخلق آدم والفراعنة و اليونان والفرس ..الخ تحاكي الأسفار الأولى فى التوراة . الميزة الحقيقية للطبرى إنه كان عبقريا فى الجمع و التأليف ، أشغل وقته وقضى عمره فى تسجيل معارف عصره فبلغ فى ذلك النهاية خصوصا فى التفسير والتاريخ.لم يكن عصر الطبرى ـ ولا حتى وقت الطبرى ـ يسمح بغير الجمع وكثرة تدوين الشائع بين الناس من علم وثقافة، وكانت له اجتهادات فى التفسير واللغة و ضبط الأحاديث ، ولكن نفتقد ذلك فى رواياته التاريخية حيث تتجلى عبقريته فى الجمع وليس فى التمحيص والتدقيق ، فتراه يروي الروايات المتعارضة والمتداخلة فى الحادثة الواحدة ، مع حرصه على اسناد كل رواية الى من حكاها له بالرواية الشفهية أو كتب له بخبرها فى رسالة وبعث بها اليه . على أنه يعيب الطبرى فى رواياته تلك الخرافات التى سجلها عن بدء خلق العالم والانسان و التاريخ القديم لبنى الانسان ، حيث إكتفى الطبرى بتسجيل الشائع فى عصره ونقله بأمانة دون أن يقول رأيه، وهو بذلك يعطينا ـ دون أن يقصد ـ صورة أمينة صادقة عن عقلية عصره والخرافات السائدة لديهم ، ومدى معرفتهم بالماضى السحيق. لم يخرج الطبرى عن المطلوب فى عصره ، ولم يكن مطلوبا منه فى تاريخه أكثر من هذا الجمع ، فالعصر ـ كما قلت ـ هو عصر الجمع ، ولا لوم عليه فى هذا ، ولكن اللوم يقع على العصور التالية، فالمفروض أن يأتى بعد عصر الجمع عصر التمحيص والتحقيق وفحص الروايات وفرزها والتدقيق فيها لمعرفة الصحيح والزائف ، وذلك ما لم يحدث بصورة جماعية. أقول بصورة جماعية لأن عصر الجمع وتدوين كل الروايات عن الماضى كان عملا جماعيا لم نجد نظيره فى العصوراللاحقة التى كان ينبغى عليها أن تقوم ـ بعمل جماعى ـ ينتج عنه الفرز و التدقيق والتحقيق. حدثت محاولات فردية لفرز و انتقاء ما جمعه الطبرى ، فعل ذلك ابن الأثير فى تاريخه ، وآخرون ، ولكن انتظرت الحضارة العربية خمسة قرون الى أن جاء عبد الرحمن بن خلدون ليتوقف مع تاريخ المسلمين بالتمحيص والتحليل فى مقدمته المشهورة و التى أسس بها علم العمران أو ما يعرف الان بعلم الاجتماع. من أسف أن يستمر السماع الشفهى بعد الطبرى حتى العصر العثمانى ، أى تظل الحركة العلمية و التعليمية تقوم على أن يسمع تلميذ من شيخه ما قاله السابقون من الطبرى ومن سبق الطبرى ومن جاء بعد الطبرى ، وبالتالى فلا بد أن تنتهى الحركة العلمية الى التقليد ثم ينتهى التقليد بالجمود والتأخر ، ويظل الطبرى يعيش برواياته و الشافعى بتقعيداته وابو الحسن الأشعرى بنظرياته والبخارى برواياته ، ويظل من جاء بعدهم تابعا لهم ـ دون تجديد ـ يدور فى فلكهم الى أن تنتهى حضارة العرب المسلمين الى صفر كبير فى العصر العثمانى ، وحين اقتحم نابليون بخيله الأزهر (الشريف جدا جدا ) كان الشيوخ يستعينون على حربه والانتصار عليه بتلاوة (صحيح البخارى) و( دلائل الخيرات ) ..!! وإنصافا للطبرى فقد تفوق على عصره ليس فقط فى الجمع وكثرة التاليف ، ولكن تفوق بآرائه على الحنابلة متشددى الدين السّنى ، فكان عقله فى شيخوخته أكثر رحابة واتساعا من شباب الحنابلة ، وبهم انتهت حياته تلك النهاية المأساوية . وما فرّط فيه فقهاء المذاهب السنية والشيعية فيما يخص فهم القرآن وتحليل تاريخ المسلمين يقوم به (أهل القرآن) اليوم. وكما عانى الطبرى من غلاة الحنابلة فى عصره فان اهل القرآن فى هذا العصر يعانون مثله من غلاة الحنابلة اليوم المعروفين بالوهابيين.. [c1]* رئيس المركز العالمي للقرآن الكريم[/c]