
صعودٌ وصفه البعض بـ”التاريخي”، واعتبره آخرون مجرد فقاعة مؤقتة، سرعان ما ستتبدد.
لكن السؤال الجوهري الذي يتردد على ألسنة المواطنين أكثر من سعر صرف السوق هو:
هل ارتفع الريال فعلا؟ أم أن خلف الأكمة ما وراءها؟
الواقع يقول إن العلاقة بين سعر الصرف وبين أسعار السوق المحلية لا تزال علاقة غير متكافئة، بل و”مختلة وظيفيا”. ارتفع الريال على الورق، وانخفضت مؤشرات العملات على الشاشات، لكن الأسعار في المحلات والأسواق ما زالت تحتفظ بذاكرتها السعرية السابقة، وربما أكثر.
من يراقب السوق يشعر وكأن الباعة قد اتفقوا ضمنيًا على تطبيق مبدأ: “نرفع مع الرفع، ولا ننزل مع النزول”.
فالفارق بين سعر الريال قبل الطفرة وسعره بعد ذلك، لم ينعكس على كيس الدقيق، ولا قارورة الزيت، ولا حتى على سعر السندوتش. بل أن بعض التجار تمادوا، ورفعوا أسعارهم مجددا، وكأن المواطن هو من اخترع نظام التعويم وأغرق نفسه فيه.
وهنا يطرح السؤال الأهم: ما الفائدة من صعود الريال إن لم يرافقه نزول في الأسعار؟
وما هو أهم ، هل تخلصنا من التضخم، بالسحر أم بالفهلوة؟
وهنا تبرز مفارقة أكثر غرابة، تضعنا أمام سؤال اقتصادي منطقي ومشروع:
كيف تمكّنا من التغلب على مرض التضخم الذي أصاب العملة، بفعل سنوات من الطباعة الهستيرية دون غطاء نقدي حقيقي؟
وأهم من ذلك، كيف تم علاج هذا المرض العضال بين ليلة وضحاها؟
ووفق منطق الاقتصاد، فإن التضخم الناتج عن طباعة العملة دون غطاء من النقد الأجنبي أو الإنتاج المحلي، يعد من أخطر أنواع التضخم، ويؤدي إلى تآكل القيمة الشرائية للعملة، وتحتاج معالجته إلى سنوات من الإصلاح المالي، وخفض الكتلة النقدية، وزيادة الإيرادات الحقيقية، وضبط العجز، لا بضرب الودع وقرار ارتجالي قد يودي بالبلاد إلى الهاوية السحيقة.
فهل جرت كل هذه المعالجات فجأة ونحن لا نعلم؟
هل تم امتصاص الكتلة النقدية الزائدة؟
هل ارتفعت الصادرات؟ وهل تحسن الإنتاج المحلي؟ وهل زادت الاحتياطيات الأجنبية في البنك المركزي؟
أم أن كل ما حدث مجرد تدخل “ترقيعي”مؤقت في السوق عبر أدوات مصطنعة، تعيد الريال للهبوط بمجرد أن ينتهي مفعول “الحقنة المسكنة”؟
وفي خضم هذا المشهد الاقتصادي المتقلب، يبرز دور الإعلام كضرورة لا غنى عنها، لكن الغائب في حضرة الحضور.
ففي الوقت الذي كان يفترض فيه أن يتحوّل الإعلام إلى صوت المواطن، ومجهر السوق، وحارس العدالة السعرية، اختار بعضه أن يقف في الصف الآخر، “صف المصالح”.
بعض الأقلام، بكل أسف، تحولت من ضمير حي إلى إعلان ممول. فضّلت صداقة كبار التجار على مصافحة البسطاء، وكتبت تقارير “النجاح” على صفحاتها، بينما سحبت أقلامها من ميادين الحقيقة!
التغطيات الإعلامية في بعض المنابر بدت وكأنها نشرة علاقات عامة أكثر منها متابعة مهنية. لا تُسائل أحدًا، ولا تضع علامات استفهام أمام هذا الصعود المفاجئ، ولا تتحدث عن فجوة الأسعار التي ظلت ثابتة رغم تغير سعر الصرف.
هنا يُطرح سؤال أخلاقي قبل أن يكون مهنيا: هل من الإنصاف أن تراعي المؤسسات الإعلامية مصالحها الإعلانية على حساب لقمة المواطن؟
وهل يجوز أن يُكتب عن “الإنجازات” في نشرة الصباح، بينما يئن المواطن في النشرة الواقعية على مدار الساعة؟
إن أي إعلامي لا ينتصر للمواطن، يتحول، بوعي أو دون وعي، إلى شريك في تغطية الجريمة الاقتصادية بصمت ناعم.
فالصمت هنا ليس حيادا، بل انحياز ناعم للجلاد.
إن ارتفاع الريال السريع والمفاجئ فتح أيضا أبوابا من الشكوك:
كيف استطاعوا إنعاش ريال كان فارق الحياة سريريًا، خلال ساعات؟
وأين كانت تلك العقول الاقتصادية الجبارة، التي فجأة اكتشفت الترياق السحري؟
وإذا كان التحسن ناتجا عن توجيهات سياسية، فلماذا لم تصدر تلك التوجيهات قبل سنوات، حين كان المواطن يسحق تحت أقدام الدولار والريال السعودي؟
إن أي صعود للعملة، غير مصحوب بإجراءات حقيقية لضبط الأسعار، وتحقيق عدالة سعرية في السوق، سيبقى مجرد رقم يتغنى به المسؤولون، دون أن يلمسه المواطن في حياته اليومية. وإن أي إعلام يتغافل عن هذه الأسئلة، هو إعلام يقف في طابور الامتيازات، لا في صف الحقيقة.
فما جدوى أن يرتفع الريال، إن ظل المواطن “يشتري بالسلف، ويشبع بالدين”؟