أقول ذلك وأقصد به أن ما لوحظ على خطابات الإخوان المسلمين وغيرهم من تناقضات فاضحة في المواقف تجعلهم يتقدمون الصفوف الأمامية للعمالة للأمريكان الصهاينة مقابل الوصول إلى السلطة بعد أن كانوا في الصفوف الأمامية للمعارضين لتلك العلاقات المهنية، أمر يدعو إلى الاستغراب والاشمئزاز على نحو مؤلم يعرضهم اليوم والغد لفقدان ما حصلوا عليه من المؤيدين بالأمس وما قبل الأمس معاً، بل ويظهرهم بمظاهر الخزي إلى درجة قد تؤدي بهم إلى القطيعة مع الشعوب الناتجة عن غياب المصداقية في المواقف، لأنهم ينتجون في حاضرهم ومستقبلهم نفس العلاقات والمواقف والمعاهدات التي زايدوا عليها وحرضوا بها على من سبقوهم من الحكام الذين أطاحوا بهم بعد أن وجهوا لهم كل أنواع الاتهامات السياسية.
ومعنى ذلك أن من لا يحافظون على ثباتهم وقناعاتهم ومواقفهم المبدئية والأيديولوجية والثورية مهما تحققت لهم من الانتصارات والمكاسب السياسية إلى حين من الوقت، إلا أنهم سرعان ما يجدون أنفسهم مضطرين لدفع الأثمان الباهظة والمكلفة تأكل كل ما حصلوا عليه من المكاسب السياسية الرخيصة والمبتذلة بلا مسئولية وطنية وأخلاقية، ينطبق عليهم القول المأثور «يستطيع الإنسان أن يخدع كل الناس بعض الوقت وقد يستطيع أن يخدع بعض الناس كل الوقت، لكنه لا يستطيع أن يخدع كل الناس كل الوقت»، لأن البراعة في التكتيك والمناورة الزائفة انتهازية ذات عمر قصير ومحدود لا يمكنهم الاعتماد عليه في إقامة ما يحتاجون إليه من علاقات الثقة الدائمة والمستمرة مع الشعوب التي تحتاج إلى المصداقية والموضوعية، وما ينتج عنهما من تعاون وتكافل في شتى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. إلخ.
أعود فأقول إن أي حركة ثورية معارضة لا بد أن تضع بالاعتبار أنها سوف تتحول إلى الحكم وستكون مطالبة بتطبيق ما وعدت به من السياسات والمنجزات والمواقف، فتحاول وهي في ساحة المعارضة أن تبعد نفسها عن الوعود والاتهامات ذات الشبهات المستحيلة، لأن المستحيلات التي تحقق لها بعض ما هي بحاجة إليه من القوة بما ينتج عنها من إضعاف للآخر واتهامه بالجناية والعمالة والتفريط في السيادة إلى غير ذلك من الاتهامات ذات الصلة بالفساد المالي والإداري، وفي سوء استغلال السلطة والثروة على حساب التحسين من الأوضاع المعيشية والحياتية لأبناء الشعب؛ ستعود ضدها.
أقول ذلك وأقصد به أن المبالغة في المعارضة بلا حدود ولا قيود، والإفراط والتفريط في المواقف وادعاء الكمال وما يترتب عليه من وعود زائفة من المنجزات الخرافية وغير القابلة للتحقيق سرعان ما تتحول بعد الوصول إلى الحكم إلى نقاط ضعف تظهر أصحابها بأنهم سياسيون مخادعون لا مصداقية لهم ولا ذمة ولا أمانة ولا قناعة، همهم الأول والأخير كيف يصلون إلى السلطة، وكيف يجمعون الثروة، حتى ولو استخدموا خصومهم وقوداً لإشباع ما لديهم من الأطماع بأساليب غير وطنية تتناقض مع ما يرفعونه من الشعارات، ومع ما يزعمون من القيم والمثل والمبادئ الأيديولوجية والثورية.
ويقدمون أنفسهم في لحظة جنون لا تفكر في العواقب الوخيمة بأنهم حركات ثورية معارضة بلا حدود ولا قيود من المعقولية والمقبولية الطامحة إلى السلطة، الأمر الذي يحتم على جميع الأحزاب والتنظيمات السياسية المؤطرة بالاستقلال وبالحرية والديمقراطية والعدالة والرفاهية والسعادة للجميع، أن تبعد نفسها قدر الإمكان عن السياسات والخطابات التي تتجاوز الممكنات إلى المستحيلات، وتعد الشعوب بأنها تملك المفاتيح السحرية لما تحتوي عليه الحياة الدنيا من الأحلام والتطلعات المطلقة المشابهة لما تقدمه الأديان السماوية عن جنة عدن تنتفي معها الحاجة بكافة أشكالها المادية والمعنوية إلى غير رجعة، لاسيما وأن عاصفة من الاعتصامات والمظاهرات والمسيرات الجماهيرية الغاضبة قد اجتاحت بعض البلدان العربية مدمرة كل ما حققته الثورات العربية في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا من منجزات متواضعة وبطيئة عبر سنوات من الصراعات والحروب الأيديولوجية والثورية بصورة مكنت الحركات الإسلامية المنظمة من الوصول إلى السلطة عبر منافسات انتخابية افتقدت إلى قدر معقول ومقبول من التكافؤ، لأن ملايين الشباب الذين قادوا هذه المسيرات والاعتصامات والمظاهرات المطالبة بتغيير حقيقي لما هو كائن من الأنظمة الجمهورية، كانت تفتقد للحد الأدنى من الحركة السياسية والانتخابية المنظمة والقادرة على حشد الهيئات الناخبة الحالمة بإقامة الدول المدنية الحديثة القادرة على تحقيق قدر معقول ومقبول من المساواة ومن الكفاية والرفاهية والسعادة الحضارية. وإذا بها تتسبب في تصعيد القيادات الإسلامية المتطرفة إلى السلطة بدون خبرة سياسية كافية تمكنها من انتهاج السياسات واتخاذ القرارات الصائبة والكفيلة بتحقيق ما بشرت به الأيديولوجيات والثورات الإسلامية من الانتصارات العملاقة التي تتجاوز تحرير فلسطين إلى تحقيق منجزات سياسية واقتصادية كأنها المعجزات. وإذا بها تعيد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية والأمنية عشرات الأعوام إلى الخلف، مؤكدة صحة المقولة المأثورة «ليس بالإمكان أفضل مما كان»، وأن اللاحقين من الحكام أسوأ من البائدين.
كيف لا وقد كشفت الانتصارات الإسلامية عن مهادنات قدمت للولايات المتحدة وحلفائها كل ما هي بحاجة إليه من الضمانات بأمن وسلامة الكيان الصهيوني العنصري الذي يستأثر وحده بحقائق القوة ضارباً عرض الحائط بكل القرارات الدولية ذات الصلة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
أقول ذلك وأنا أشعر بأن الثورات العربية قد نجحت في تبديد ما كانت تمثله التيارات الإسلامية من أخطار على إسرائيل وتحولت من مواقف رافضة للحلول الاستسلامية التي وضع الراحل أنور السادات لبنتها الأولى في اتفاق كامب ديفيد التي وصفت بالاستسلامية والانبطاحية الدالة على الخيانة والعمالة، بحيث تحولت هذه الحركات الإسلامية الإخوانية والسلفية إلى قوى حاكمة مهادنة تقدم أطماعها السياسية في السلطة على ما رفعته من المبادئ والمثل الثورية الراديكالية المستمدة من جوهر الدين الإسلامي الحنيف دين الثورة والحرية والديمقراطية والعدالة والرفاهية الاقتصادية والاجتماعية، ووسيلة القوة القادرة على حماية السيادة الوطنية وتحريرها من الاستعمار والاستبداد والفقر والجهل وكافة أشكال الارتهان والعمالة والقهر والظلم والتخلف والعبودية.