وتقويم إعوجاج سلوكيات رجال الدين هؤلاء لا يعني تقويم مبادئ الدين وقيمه السامية المطلقة الثابتة والصالحة لكل زمان ومكان إنما التقويم ينصب على أخطاء هؤلاء الذين يظنون بأن أمور السياسة من الثوابت التي لا تتغير ولا تتبدل ولا تتحول بتغير الزمان والمكان وظروف الناس وتناسوا بأن لكل زمان دولة ورجالاً وقضايا ومشاكل الناس والنوازل والمستجدات والحوادث لا تنتهي بينما تشريعات الدين محدودة. من أجل ذلك يلجأ بعض المجتهدين الكبار إلى القياس الذي هو أحد أصول الفقه للواقع أو يلجأ الناس إلى العرف الذي تعارف الناس عليه أو توصلوا إليه بفطرتهم السليمة واجتهادات عقولهم وخبراتهم في الحياة ومشكلة رجال الدين اليوم أنهم يجترون أو يستحضرون اجتهادات وفتاوى أسلافهم ويسقطونها كحلول جاهزة لمشاكل عصرنا وزمننا بينما تلك الاجتهادات الماضوية لا تصلح لزماننا بل تصلح لتلك الأزمان التي ولدت فيها تلك الاجتهادات نظراً لتغير الأزمنة والمشاكل والقضايا والوسائل الخاصة بكل زمان وحقبة وعصر.
من هنا يخطئ من يعتقد أن باستطاعته امتلاك الحقيقة كاملة أو يدعي أن علمه قد أحاط بكل شيء وأحاط بالعلم الشمولي الناجز الجاهز بالحلول لكل مشاكل الناس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها ومن زعم امتلاك كل ذلك فهو جاهل مغرور لا يفقه بواقع الناس ولا بنواميس التاريخ ولا بسيكولوجيا النفس البشرية ولا يمتلك معرفة بحياة الناس وظروفهم وأحوالهم وفوق هذا وذلك يجهل مقاصد الدين الذي ينتسب إليه ونظن أنه متفيقه فيه أو عالم بمقاصده وأغراضه وحكمه وأبعاده ومراميه العقدية والشرعية.
ومشكلة رجال الدين عندنا، ولا نعني بهم كلهم أو جلهم بل البعض، أنهم يتوهمون بأنهم معصومون من الخطأ ويركنون إلى هذا الظن والاعتقاد الخاطئ فكفروا الناس وفسقوهم واتهموا معارضيهم بالضلال والمروق من الدين وأفتوا بإهدار دماء بعضهم مع أن ديننا الإسلامي السمح والحنيف جاء ليحمي أرواح الناس ونفوسهم وأموالهم وأعراضهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور ومن عبودية العباد إلى عبادة رب العباد بإذنه تعالى وليس في ديننا هذا كهانة أو سدنة معابد كالقساوسة والرهبان والأحبار ورجال الدين كاليهود والمسيحية او النصرانية وغيرها من الأديان السماوية والأرضية بل هناك علماء وفقهاء ووعاظ ودعاة إلى الله يصيبون ويخطئون ولا يزكون أنفسهم على الآخرين ولا يزعمون أن عملهم محيط بكل شيء ولا يظنون بأن ثقة الناس فيهم قد منحتهم العصمة فيستغلونها استغلالاً سلبياً حين يشعرون بأن اجتهاداتهم وفتاواهم لا تختلف عن النصوص المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وكأنهم يتحدثون نيابة عن المطلق وليس بالأصالة عن أنفسهم التي تمتلك معرفة نسبية ومحدودة.
وظن الناس فيهم خيراً برغم علمهم أن ليس كل من تحدث أو أفتى أو اجتهد في الدين قد أصاب ويجب إتباعه وتقليده تقليداً أعمى دون تثبت وتدبر لقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل « ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا..» ودون اعتبار لقوله عز وجل « اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً
ما تذكرون» .
إن أهواء النفس وميولها وانحرافها والإعجاب بها تحجب صاحبها عن معرفة الحقيقة وإعجاب المرء بنفسه وبرأية وبأحكامه واجتهاداته وفتاواه ناتجة عن عاطفة ومزاج متهور لا علاقة له بالموضوعية أو العلمية أو القول الحق والصواب لأنه اعتمد على ردود الأفعال النرجسية ومن أعجب برأيه فقد أضله الله على علم لأنه اتخذ إلهه هواه وابتعد عن الحكمة والمنطق والعقل والنصوص الشرعية فكانت كل اجتهاداته منافية للواقع وبعيدة عنه ولا تتناسب مع واقع الناس وأحوالهم ولم تحقق طموحاتهم وقد أضرت بكثير من الأبرياء منهم وتحملوا أعباء ومتاعب هذه الأحكام الجائرة والظالمة المحسوبة على الدين والدين منها براء بل هي صادرة عن رجال الدين هؤلاء الذين نتحدث عنهم وهي آراء وفتاوى غير مسؤولة وخاطئة وبعيدة عن الواقع .
ينبغي على رجال الدين هؤلاء أن يعوا ويدركوا تناقضاتهم ومحدودية علمهم النسبي وأن يحترموا تخصصهم وأن لا يتجاوزوه إلى تخصصات فئات أخرى داخل المجتمع فللدين رجاله وللسياسة رجالها وكل ميسر لما خلق له فالنجار للنجارة والحداد للحدادة والخباز للخبز والسياسي للسياسة والجندي لحماية الوطن وهكذا رجل الدين يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة دون أن يفرض رأيه واجتهاده على الناس أو يزعم أو يدعي بأن هذا الرأي وهذا الاجتهاد هو رأي الإسلام الصحيح الذي أصاب المقصد الشرعي الذي يرضي الله ويرضي رسوله أو أصاب كبد الحقيقة أو يتهور بتكفير الناس وتفسيقهم وتبديعهم وإخراجهم من الملة تمهيداً لإهدار دمائهم وهذا هو رجل الدين الحق أما من يفعل غير ذلك فهو رجل دين مزيف وفاشل ليس في الدين فحسب بل وفي السياسة أيضاً لأن من السياسة الكياسة والفطنة ومعرفة وفقه واقع الناس.