وقد استفاضت الأحاديث النبوية في الحث على الرحمة "الراحمون يرحمهم الرحمن" كما ذكرت الأحاديث أن بغيا سقت كلبا شديد العطش فغفر الله لها، وأن امرأة دخلت النار بسبب هرة حبستها حتى ماتت!.. هذه إشارات واضحة إلى أهمية الرحمة حتى بالحيوان، فهي تكفر السيئات مهما كانت كبيرة وان كانت لا تسوغ فعل المعصية.وقد ذم القرآن قوماً بقوله: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة". وقال عن قوم: "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية" فجعل قسوة قلوبهم من عقوبة الله لهم على ذنوبهم.
وكما دعا الإسلام إلى الرحمة في التعامل مع الناس في السلم والحرب وفي التعامل مع الحيوان الأعجم، رغب في الرفق،ورهب من العنف وقال:"من حرم الرفق فقد حرم الخير كله"، "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف"، "إن الرفق لا يكون في شيء الا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه" والإسلام لا يقر العنف في الفعل ولا في القول فهو في الدعوة يأمر بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وفي التعامل مع الآخرين (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) ولا يقر استخدام القوة المادية الا بحقها ولا يبيح دماء الناس وأموالهم إلا بسبب مشروع، ولا يقبل العنف إلا مع العدو المحارب وأثناء القتال فقط.
فالمسلم لا يبتدئ الآخر بالعنف، لكنه يمكن أن يرد على العنف بمثله وقد أمره الإسلام أن لا يزيد عن المثل،ورغبه في العفو (وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) . وكما يدين الإسلام العنف يدين الإرهاب لأنه عنف وزيادة: العنف أن تستخدم القوة في غير موقعها مع خصومك، ولكن الإرهاب أن تستخدم القوة مع من ليس بينك وبينه مشكلة، مثل خطف الطائرات وخطف الرهائن وقتل السياح ونحو ذلك ممن لا يعرفهم الخاطف ولا القاتل، وليس بينه وبينهم قضية.
والإرهاب في لغة العرب: مصدر أرهب يرهب، بمعنى أخاف غيره وأفزعه وروعه، فهو يعني إذن: نشر الرعب والخوف والذعر بين الناس وحرمانهم من الأمن الذي هو من اعظم نعم الله على خلقه، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: "فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".
فأشارت الآية الكريمة إلى نعمتين من أعظم النعم التي تشبع حاجتين أساسيتين من حاجات البشر، وهما الكفاية من العيش والأمن من الخوف وشر ما يبتلى به مجتمع أن يسلب هاتين النعمتين فيصاب بالجوع وبالخوف كما قال تعالى: "وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون".
وعد الحديث الشريف الأمن من النعم الأساسية الثلاث التي يحتاج اليها الانسان ليشعر بالراحة والسكينة، وهي من أسس السعادة لكل فرد، فقال:"من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
وقد من الله على قريش وأهل مكة بأنه جعل لهم حرما آمنا يلقى الرجل فيه قاتل أبيه فلا يمسه بسوء، كما قال تعالى:".... ومن دخله كان آمنا" وقال تعالى:"... أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء". "أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم".
وحين ذهب يعقوب عليه السلام وأبناؤه إلى مصر واستقبلهم عزيزها يوسف بن يعقوب عليهما السلام قال لهم: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" ولقد كان من خصائص الجنة التي اعدها الله لعباده الصالحين في الآخرة أنها دار أمان كامل ولهذا تقول الملائكة لأهلها:"ادخلوها بسلام آمنين" وأهلها "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
لهذا اعتبر توفير الأمن لكل الناس من مقاصد الشريعة الأساسية، كما اعتبر الإسلام سلب أمن الناس العاديين من أعظم الجرائم التي يعاقب عليها، ولهذا عاقب الشرع على جريمة السرقة بقطع اليد، ولم يشرع مثل ذلك في غصب الأموال وهو ظلم عظيم وذلك لأن السرقة تتم خفية وتهدد أمن الناس بخلاف الغصب الذي يتم جهارا نهارا، وكذلك شدد الإسلام في جريمة الحرابة وقطع الطريق وجعل مقترفيها من الذين "يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا".. وجعل عقوبتهم: "أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض". لانها جريمة تهدد أمن المجتمع وتنشر الرعب في جنباته، فهي جريمة ترويع وإرهاب مدني فاستحق هذا العقاب الصارم.
كما اعتبر الإسلام كل ترويع او تخويف وتفزيع للناس بأي أمر- ولو كان صغيرا تافها- من الذنوب والآثام التي يحرمها الله تعالى ويعاقب عليها من فعلها في الآخرة. كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فخفق رجل على راحلته (أي أخذته سنة من النوم) فأخذ رجل سهما من كنانته (أي رغبة في أن يداعبه) فانتبه الرجل ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل أن يروع مسلما" ورغم أن هذا الترويع والتفزيع كان باعثه المزاح والمداعبة ورغم أنه لم يترتب عليه أذى غير هذه الفزعة او الروعة حين شعر الرجل الوسنان بان أحدا يريد أخذ شيء من كنانته، فقد حرم الرسول الأعظم هذا الترويع. وقوله: "لا يحل لمسلم أن يروع مسلما" لا يعني أن تحريم الترويع مقصور على المسلم انما ورد الحديث بهذه الصيغة لانه وقع من مسلم لمسلم، ولكن ترويع الآمنين بصفة عامة لا يجوز بدليل قوله عليه الصلاة والسلام:"المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم" فلم يعطه صفة الإيمان الحق إلا حين يأمن منه كل الناس مسلمهم وغير مسلمهم على حرماتهم وأعراضهم وأموالهم.