قراءة سيكولوجية في قيود المرأة الخفية


14 أكتوبر/خاص:
انتشرت مؤخرًا صورة مؤلمة – لوحة فنية - وقامت الدنيا وما قعدت في وسائل الإعلام والسوشيال ميديا حيث يُقال فيها إن : إعلامية ادعت انها رسمت هذه الصورة لتعبر عن “ معاناة المرأة “ ، ثم ظهر فيما بعد أن فنانة عالمية دانماركية هي مَن رسمها!
ما يهمني هنا كسيكولوجية “ أي متخصصة في علم النفس “ هو ما تشير اليه اللوحة لا كـ” سرقة فنية “ كما تدعي وسائل الاعلام والسوشيال ميديا والذي لا نعلم صدق هذا الخبر من كذبه ، إنما يهمني هو المعنى الرمزي العظيم الذي تمثله هذه الرسمة الوجودية من وجهة نظري لكل امرأة خُلقت في هذا الكون من غابر التاريخ الى هذا اليوم – ماعدا بعض الحالات الاستثنائية على مستوى فردي لبعض النساء او لبعض الحِقب والفترات التاريخية المشرِّفة والمُشرِقة من تاريخ المرأة – محاولة منا لنعيد للفن رسالته ولكل صرخةٍ معناها ومغزاها ... وحقها في أن تُروى .
في هذه اللوحة المذهلة، نرى امرأة ملامحها حزينة، مائلة الرأس عيناها مغمضتان ، تحطّ عليها أسراب من الطيور جميلةٌ، بألوان دافئة ومختلفة ، تخيط حول المراة وتربطها بحبال رقيقة لا تبدو عنيفة لكنها تخنق حريةً ناعمة، وتطفئ طيرانًا كان ممكناُ .
تُثقل الطيور كاهل المرأة، التي تتحمل الألم بصمت نبيل .
في هذه اللوحة الموجعة، لا نرى فقط امرأة… بل نرى قصة عالمية تُروى بلا كلام.
هذه ليست مجرد رسمة.. إنها ألم وجودي، وعمل فني يستحق أن يُقرأ.
هذه الرسمة ليست من رسم احد بعينه ، بل رسمتها كل امرأة خذلتها الحياة بصمت.
رسمتها امرأةٌ أجنبية، نعم… لكنها رسمت وجعًا عالميًا لا جنسية له.
قراءتي السيكولوجية لهذه اللوحة يتجلى فيما يأتي :
ليست المشكلة أن تُربَط امرأة بحبل.
المشكلة أن يكون الحبل ناعمًا، من حريرٍ يشبه الحب، من خيوطٍ تشبه الرعاية، وأن تُقنعها الحياة أن القيد هو شكل آخر من أشكال النعمة.
في هذه اللوحة، لا نرى قيدًا غليظًا أو سجنًا من حديد .. بل نرى امرأة تطأطئ رأسها بصمت، بينما طيور ملونة تهبط على ذراعيها… تُثبّتُها “ بحنانٍ قاتل “ ، لا يسمح لها أن تنهض.
أحيانًا، نحن لا نُربط بالحبال !! نُربط بالحب !! نُربط بالمسؤولية !! نُربط بالواجب !!
نُربط لأننا نساءٌ خُلقنا بجسدٍ وهرمونات تجعلنا نستجيب بطريقة معينة تكبلنا في أوقات ليست بالقليلة خلال مسيرة نمائنا البيولوجي.
لكن الحكاية لا تنتهي بالجسد.. بل تبدأ معه.
فما أن تولد المرأة ، حتى تُقال لها الكلمات الأولى التي ترسم لها صورتها وأدوارها ووظيفتها ، بل وكيف يجب أن يكون جسدها وملامحها وصوتها وتعبيراتها وطريقة تفكيرها ومضمون عقلها ، بل والأكثر من ذلك تعدُّ لها في بعض الأحيان والثقافات حتى عدد أنفاسها.
تنشأ طفلةٌ لا تعرف أن تعترض، تتعلم كيف تُرضي، وتُتقن كيف تخفي ألمها بابتسامة.
وبهذا الطير “ الجميل “ “ الناعم “ تُقنَع وتقتنِع .. ومع كل سنة تكبرها، يضاف إلى كتفها طائرٌ جديد : طائر الأمومة، طائر الشرف، طائر الجمال، طائر الخدمة، طائر التضحية ، طائر الأنوثة والرقة ، او الإغراء ... وكل طائر لا يُرفرف بها… بل يُثقلها.
عبر التاريخ، أُلبست هذه الطيور أثوابًا من الدين والتقاليد، ورسِم لها دور في كل دين وثقافة ومجتمع إذا تجاوزته أو أخلت به نالها نصيب من العذاب والنبذ والرفض والتشويه والذي قد يصل الى الموت والقتل وسلبها الحياة..
فتختار المراة - في الغالب - أن تحقق كل صورة مرسومة لها : بنتا أو اما أو زوجة أو عاملة أو مثقفة ..الخ ، تلك الصورة التي رسموها لها، فيما عدا حالات استثنائية عظيمة عبر التاريخ.
ثم تأتي اليوم هذه اللوحة العظيمة, لا تقول شيئًا، بل تترك لوجه المرأة المائل وكتفيها المربوطين، وعينيها المغلقتين .. أن تنطق.
هذه ليست امرأة مجهولة، بل هي وجه كل من تعبت دون أن تشكو، من ابتسمت وهي تبكي، من ربتت على الآخرين وهي تنهار، من رُبِطَت بالحياة، لا لأنها ضعيفة… بل لأنها أقنعت نفسها أن الطيران أنانية، وأن الصبر فضيلة، وأن الألم شهادة “ تفوق أنثوي “.
وان تمثيل وتطبيق وتنفيذ الدور المرسوم لها ثقافيا واجتماعيا ودينيا “ واجب وفضيلة عليا “ و “ رسالة حتمية طبيعية وإلهية “ بغض النظر عن مدى صدق او كذب تلك الاقوال او الادعاءات ، أو مدى ملاءمتها وإنسانيتها وتوافقها مع قدسية الإله ومقتضى عدالته ورحمته .
في الفن، كما في الحياة، بعض الطيور لا تطير بنا… بل تربطنا إلى الأرض بأجنحتها العاجزة عن الطيران.
وبعض الحبال… لا تُرى. لكننا نشعر بها كلما مدّت امرأةٌ ذراعها لتمنح، وتُحلِّق ..واكتشفت أنها لم تعد قادرة حتى على رفعها.
وهذه اللوحة؟ لا تُباع ولا تُستعار.إنها شهادة حقيقية، على أن هناك نساء قُيّدن بحبال ناعمة، لكنهن ما زلن – رغم الألم – يحاولن الطيران.
* د. انتصار عبدالسلام كرمان
