
في نظريته التي استخلصها حول نشوء الدول واستقرارها، وتحللها واندثارها، أكد عبد الرحمن بن خلدون إنَّ الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة، وأضاف أنَّ غَاية العصبية غلبة الملك، وأنَّها - أي العصبية - إذا اقترنت بالدين لا يقف أمامها شيء. ومن هذا المُنطلق، وجدت دولة الإمامة الزّيدِيّة في اليمن البيئة الخصبة التي تتفق وتطلعاتها غير المشروعة، وبمعنى أصح فَصَّلَها مُؤسسها الأول الطامح يحيى الرسي لتتناسب وخصائص وطبائع سكان هذا البلد المِضياف.
لم يَكن مَقدم الرسي إلى صعدة بِطلب من بعض أعيانها إلا بداية لتوالي قدوم الطامحين من أبناء عمومته وغيرهم من الأدعياء، وبازدياد توافد أولئك الطامحين؛ ازداد التنافس فيما بينهم، لترتفع وتيرته أكثر خاصة عندما هَجر أبناء القبائل الشمالية مَزارعهم، وحملوا أسلحتهم لمُناصرة هذا القادم أو ذاك، وجعلوا جُغرافيتهم المُستلبة أرضًا مُلتهبة بالدم، ومُكتظة بالصراعات، ولا تتوقف على ظهرها مَعركة إلا لتبدأ أخرى أشد ضراوة.
أنعش الأئمة السلاليّون - على مدى تاريخهم - أسوأ ما في القبائل الشمالية، وخلقوا لها المُبررات العقائدية لجعل الفيد دينًا، والتسلط رجولة، وأغـرقوهم في الجهـل والتوحش، وجعلوهم يحتقرون الأعمال الزراعية، والمِهن الحرفية، والأشغال التجارية، ورسخوا فيهم التمايز الطبقي، والاستعلاء الفارغ، على اعتبار أنَّ من ينتقص ممن هو - كما يعتقد - أدنى منه نسبًا؛ فإنَّه يقبل أنْ يكون عبدًا مطيعًا لمن هو - كما يعتقد أيضًا - أعلى منه نسبًا.
قدمت تلك الإشكالية المُتجذرة خُلاصة مأساة اليمنيين، وهي المأساة التي تَجسدت ببروز مُسميات: (أخدام - أبناء الخمس - يهود - شوافع - زيود - قبائل - سادة)، وهي مُسميات تمييزية عُنصرية استفاد منها أولئك الأئمة السلاليون أيما استفادة، ولن يتحقق - قطعًا - انتصار اليمنيين الأحرار عليهم وعلى فكرهم الدخيل إلا بالقضاء على تلك المسميات أولًا.
كما عمد الأئمة السلاليون على محو هوية اليمنيين، وطمس حضارتهم، وتشويه قبائلهم، وإثارة خلافاتهم، وهذا المهدي الحسين بن القاسم العياني (قتل عام 404هـ)، أباح مدينة صنعاء للقبائل المُساندة له صفر 403هـ / سبتمبر 1012م، وقال مُستهجنًا: «إنما صُلْتُ بأوباش على أوباش». وهذا المُؤرخ الحجوري قال عن الإمام الطاغية أحمد بن سليمان (ت: 566هـ): «لم يبنِ شيئًا، ولا جبى خراجًا، ولا دون ديوانًا، وإنَّما كان يصدم القبائل بالقبائل، والسلاطين بالسلاطين». وقال المُؤرخ أبو طالب عن الإمام الطاغية محمد بن أحمد بن الحسن (ت: 1130هـ): «وكان قَاعدة الإمام يُسالم بكيل طورًا، ويباين حاشد، ويحارب هؤلاء بهؤلاء.. ولا يزال هذا دأبه، ولا يعجبه غير عدم الاتفاق بينهم».
وهكذا، ضرب الأئمة السلاليون القبائل الشمالية بعضها ببعض، حتى إذا ما استتب لهم أمرها، أطلقوها على إخوانهم اليمنيين في باقي المناطق، بعد أنْ غذوها بالنعرات المناطقية، والطائفية، والتكفيرية؛ كونها باعتقادهم أسرع وسيلة للتحشيد، خاصة في مُجتمع يغلب عليه الجهل، وتستوطنه ثقافة الفيد، وما شيوع مُفردات: (في عقر دارهم)، و(اليمن حقنا) إلا لتكريس منطق التسلط والغلبة، وهي مُفردات اكتظت بها أدبيات الإماميين الجدد (الحوثيين)، كما اكتظت بها كتب أسلافهم من قبل، مع اختلاف بسيط في التشبيه والتسمية.
لم يكن تمدد الإماميين الجدد (الحوثيين) مَحض صُدفة أو ارتجال؛ فثمة ارتباط وثيق بين هؤلاء وماضيهم، تمامـًا كـ (بني إسرائيل)، استفادوا منه، وأعادوا تدويره، وحين انهارت الدولة من الداخل؛ حلوا محلها. ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية قَاهرة خَدمتهم، وبقراءة فاحصة لعوامل تمددهم، نجد أنَّهم اعتمدوا في الأساس على الدين المزيف، والأنصار المخدوعين، وبتوصيف أدق على الزنابيل العابرين للعصور.
علاقة الإمامة بالقبيلة علاقة شَراكة أكثر مما هي علاقة سلطان برعيته، ودائمًا ما تكررت مُفردة (شركاء لا رعايا) في المادة التاريخية التي وثقت لتاريخ تلك الدولة. والأكثر أهمية أنَّ الأئمة أسسوا جيوشهم على أساس قبلي محض، ومن همدان (حاشد، وبكيل) تحديدًا، من كان يطلق عليهم (أبناء الأنصار - أنصار الله - أنصار الحق)، وذلك خِلافًا للدول التي قامت في مناطق حمير، ومذحج، وكندة، التي أسست جيوشًا مُحترفة، ومُؤسسات حُكم؛ ولذلك تعزز الطابع الحربي عند القبائل الشمالية، وضعف عند القبائل الأخرى.
الدولة المُرتبطة بالقبائل - كما قال بول دريش - تُعجل بلحظة فنائها عندما تلتزم تلك القبائل البقاء في أماكنها، لكنها تزدهر عندما تقود تلك القبائل ضد الأطراف، أي المناطق الأكثر ثراءً. وهو ما فعلته الإمامة الزيدية طيلة القرون الفائتة، وبمراحل مُتفاوتة، ومن هنا برزت تسمية (المركز المُقدس)؛ على اعتبار أنَّ غالبية من حكموا اليمن خلال تلك المدة الطويلة لم يتجاوزوا المُربع الشمالي، وهو الأمر الذي دفع الأستاذ أحمد محمد نعمان أنْ يقول عن صنعاء عاصمة اليمن التاريخية، إنَّها عصية القلب، لا تُعطي ودها لحاكم من خارج محُيطها.
وخلاصة القول: تبقى القبيلة عصا الإمامة الغليظة، حتى إذا ما ارتدَّت، عادت فوق رأس القبيلي، شجّته وأدمته، دون أن يكترث للأمر، أو يُحرك ساكنًا، فالأئمة السلاليون - وعلى مدى تاريخهم - جعلوا منه عَبدًا مُطيعًا، بلا روح وطنية، بلا نزعة استقلالية، يرتمي في أحضان هذا الإمام أو ذاك، وينتصر في الغالب لمن يدفع أكثر!
استنهض الأحرار اليمنيون - وما يزالون - الذات اليمنية عند هؤلاء المُغيبين، وسعوا جاهدين لتعريفهم بهويتهم الحقيقية، وتذكيرهم بمآثر أجدادهم العُظماء، من بنوا القلاع، وشيدوا السدود، وجعلوا بلدهم جنة من جنان الله. ويبقى الأمل - كل الأمل - أنْ يعود هؤلاء، بعد قرون من التيه والشتات، لرشدهم، وأنْ يستحضروا ماضيهم المُشرف، وينتصروا لكرامتهم المسلوبة، ويسلكوا طريق الحرية، وأنْ يتحولوا لعصًا غليظة فوق رؤوس من استعبدوهم، وأذلوهم، وصيروهم وقودًا لمعاركهم المُقدسة.
* رئيس مجلس إدارة مؤسسة الجمهورية للصحافة والطباعة والنشر - رئيس التحرير