جميلة عدن، وأجمل ما فيها البحر والناس الطيبون الذين يصرون على الحياة رغم كل المنغصات والنواقص التي تحيط بهم وبها، ومع ذلك يتمسكون بمدينتهم، العيش فيها والدفاع عنها عندما يتطلب الأمر ذلك حتى آخر رمق .
أول مرة رأيت فيها عدن أذهلتني، كما تذهل كل من يراها ويعيش فيها ولو لفترة قصيرة. كان ذلك في نهاية خمسينيات وبدايات ستينيات القرن العشرين الفائت. كانت مدينة عصرية، فيها كل سمات المدن الحديثة، من عمارات ونمط عيش وحياة، وتعليم، وطرق معبدة، وسيارات، وكهرباء، وتجارة حرة، وميناء صنف حينها بثاني ميناء في العالم بعد نيويورك، ومطار وحركة طيران، ومنظومة هاتف، وبرق ولاسلكي، وبريد، وبنوك، وشركات تجارة وتموين وتأمين، وشحن وتفريغ، ومصانع، ومصافي زيت، واذاعة، وتلفزيون، ومطابع، وصحف ومكتبات وأسواق، ودور سينما، وفنادق، وكل مايخطر في البال من بضاعة العالم، تستوردها وتعيد تصديرها حاملة ماركة (ميدن عدن) وكانت الموئل لنقابات العمال، والجمعيات الأهلية، والأندية الرياضية، والمنتديات الأدبية والثقافية. والأحزاب السياسية. فصارت وجهةالناس من طالبي العلم، والباحثين عن العمل، وأحلام الثروة يأتون إليها من الهند، وشرق افريقيا، وحتى من أوروبا بالإضافة إلى أبناء البلاد . فإذا سرت في شوارع وأحياء وحارات المدينة كنت تمشي وسط فسيفساء من الأجناس واللغات والألوان والأزياء من القارات الخمس تقريباً، وجميعهم يعيشون في وئام وسلام، لهم دور عبادتهم، من مساجد ومعابد وكنائس وكنيس . أرض طيبة ورب غفور، يعبدون الله على طريقة ( الدين لله والوطن للجميع ).
*******
ورأيتها مرة أخرى والبحر ينحسر عنها والتجارة. منذ نهاية الستينيات من نفس القرن العشرين حين أخذت تفقد مكانتها، وطابعها العصري كمدينة عالمية، تفقد ميناءها الحر وأسواقها وتجارتها الحرة. وتتحول من مدينة تجذب إليها جنسيات العالم، إلى مدينة طاردة حتى لأبنائها والقاطنين.
في لحظة تعسفوها وأرادوها أن تكون اشتراكية قبل أن تكون فيها بروليتاريا، واجهضوا بدايات نمو رأسمالية وطنية، ونشوء طبقة وسطى تواصل عصر التنوير وعجلة التغيير، فقفز إلى السلطة من يملك القوة ويفتقر إلى العلم والبصر والبصيرة، فعجزوا عن إقامة الحكم الرشيد، فلم يكونوا بحق إلاَّ كما تنبأ جدنا الحضرمي الأعظم ابن خلدون أكثر من(بدو) ليتاريا أعمتهم شهوة السلطة فتقاتلوا عليها فدمروا الحضارة، وخلفوا وراءهم خراباً يصعب إصلاحه، وصهر حكم الفساد الذي جاء بعدهم بنيرانه ماتبقى من نظام وإدارة ومال ووظيفة وخدمات فلم يخلفوا للناس شيئاً غير الفقروالجهل ! فصارت «تحجل» مثل الغراب الذي قلد مشية الطاووس ففشل، وعندما اراد ان يعود إلى مشيته الأصلية لم يعرف !
وفاقمت صراعات السلطة والحروب الأهلية المتتالية والصراع فيها وعليها، الأوضاع وجعلتها تزداد سوءًا.
*******
وفي حين كانت الدول والمدن تتطور من حولها، كانت عدن تتراجع حتى صارت (قرية كبيرة) بفعل فاعل، تعاني من أزمات خانقة لم تكن تعرفها في عصرها الحديث: أزمة كهرباء ومياه، وطفح مجاري، ووقود، وغلاء فاحش، وتدهور عملة، وطفح مجاري، وانتشار الأمراض والأوبئة والسلاح والجريمة . ومع كل هذا الذي جرى لعدن، ولأبناء عدن والقاطنين فيها، لاتزال عدن تملك روح المدينة التي لاتمتلكها أية مدينة أخرى، بهذه الروح تحيا وتقاوم جحافل الظلام، وخفافيش الليل .
*******
«غدا تستيقظ على هدير تناغم أمواجها الضاحكة .
تلبس
وحدها عدن مدينة الحلم المفرح منذ ميلاد الحياة، لم تركع، ولم تقدس حاكما...
محيت كل الأسماء التي طلبت ودها..
عدن بلا مرادفات
بلا تاريخ ميلاد
لأنها ولدت قبل المرادفات، وقبل ميلاد الحياة.»
( من قصيدة الشاعر صالح العطفي :
عدن مدينة الحلم )