ومما استأثر باهتمامي، ولازال عالقا في الذاكرة منذ تلك الأيام من نهاية الخمسينيات من القرن الماضي. المساجد، وأشهرها: الجامع القديم، ومسجد الروضة بناه عمر المشهور ببو علامة بن علي بن شيخ بن أحمد بن علي بن الشيخ أبي بكر بن سالم المتوفَّى في شبام سنة 1278هـ، وجامع السلطان عمر، ومسجد النور، ويميز مساجد المكلا لونها الأبيض البهي، ومناراتها الصاعدة إلى السماء بجلال وبهاء، والتي تصدح بالأذان للصلوات، وقبل اختراع الميكرفون كان المؤذنون يصعدون يوميا ولسنوات درجات كثيرة لا اعلم عددها ليصلوا إلى أعلى قمةفي شرفات تلك المآذن ويرفعوا منها الأذان حتى يصل للمصلين إلى أبعد مدى ممكن، وقبل ذلك الى مملكة السماء.وكانوا يقومون بذلك خمس مرات في اليوم ولأعوام قد تمتد كل العمر ما لم يقعدهم مرض او موت !! دون أجر غير طلب الأجر من الله..
وهل هناك ماهو أعظم أجرا من الله.؟!
تلك كانت بعض المكلا القديمة زمن السلطنة والسلطان القعيطي..الزمن الذي كان الناس يصنعون ذاكرةالمدينة، ويحفظون اسماء احيائها القديمة، وشوارعها ومطاريقها القديمة التي لم يكن لها اسماء..
الناس هم الذين يعطون المدينة والشوارع والاماكن ملامحها..المدن هي الناس..
الزيارة الثانية ليست كالأولى.. تكون قد كبرت قليلا في العمر، إنها سنوات التكوين وكل يوم تزداد معرفة لاباس بها في الحياة والناس.. المدينة نفسها حين تأتيها تكون في طور التغير في بعض الأشياء هنا وهناك.. لكن انطباع الزيارة الأولى، يظل ملازما لك، عالقا في الذاكرة...
زرت المكلا بعد ذلك مرات في اوقات متباعدة، وكلها كانت قصيرة، وإحداها تفصل بينها وبين آخر زيارة نحو ثلاثين سنة تقريبا.. وفي كل مرة كنت اكتشف أشياء جديدة، واكسب اصدقاء خلال مراحل العمر المختلفة. كانت المدينة تشهد مزيدا من العمران، وتتمدد شرقا وغربا حيث نشأت احياء جديدة، وفي نفس الوقت تتفاعل فيها افكار العصر وتيارات سياسية وفكرية مختلفة منتقلة إليها من عدن والقاهرة ودمشق وبيروت، وغيرها وتنقلها بدورها إلى سواها من المدن وبقية حضرموت، وتتابع احداث العالم الكبرى...
كانت المكلا والسلطنة القعيطية من الإمارات الجنوبية القليلة التي أعطت اهتماما للتعليم وانشأت المدارس حتى المستوى الثانوي ومعاهد المعلمين منذ عهد السلطان المصلح صالح بن غالب القعيطي، وعرفت تعليم البنات مبكرا...ونشأت فيها الصحف واشهرها الطليعة، والرائد، والرأي العام، ولعبت دورا في عملية الوعي والتنوير، وتعكس حالة المجتمع السياسية والثقافية. كما نشأت فيها دور السينما، والأندية الرياضية الثقافية، ودواوين الحكومة، ونظام مالي واداري، ومجتمع مدني، والحضارم بطبعهم ميالون للالتزام بالنظام واحترام القانون والجنوح إلى السلم.