كمال محمود علي اليماني :أتحفتنا مجلة دبي الثقافية في كتابها الملحق لشهر يوينو المنصرم ، بكتاب شعري بديع لكوكبة من شعراء الشرق والغرب ، في قصائد جد جميلة ورائعة كتبها ثلاثة وعشرون شاعر وشاعرة من أقطار وقارات مختلفة ، اختارها الشاعر الجميل الأستاذ د. شهاب محمد عبده غانم . والترجمة كما يعلم كثير من القراء موصوفة في الغالب بالخيانة للنص المترجم ، إذ مهما حاول المترجم وبذل من جهد في تقريب المعاني الجمالية أوردها أرودها هذا المبدع أو ذاك في نصه ، فإن الفارق الجمالي بين اللغتين المترجم منها والمترجم إليها ، تظل عائقا لوصول المترجم إلى مأربه في إتقان أمانة النقل ، نعم فذاك مأرب دونه خرط القتاد. لكن الهوة تغدو معقولة ، وتصبح الخيانة على قدر مقبول جداً حين يكون المترجم متخصصا في فن الترجمة كحال شاعرنا شهاب غانم ، وتزداد الهوة ضيقا وتتقارب الحافتان إذا ماكان النص المترجم شعراً ، وكان ناقله للعربية شاعراً مجيداً مشهوداً له بالبراعة الشعرية . لذا يجد القارئ لهذا الكتاب متعة فائقة وهو يتنقل من جو شاعري إلى آخر ، فمرة يكون مع شاعر الهند الكبير طاغور ، ومرة مع بابلو نيرودا من تشيلي ، وتارة يأخذك في رحلة أبوية كما في قصيدة ( وداع ابنتي عندزواجها) مع الشاعر الهندي كيلاش ماهر ، وتارة أخرى تجد ذاتك في زنزانة انفرادية كما في قصيدة الشاعر الرائع قيس غانم أخي الشاعر شهاب القاطن في كندا ، وهو يكتب الشعر باللغتين العربية والإنجليزية ، والحق أنه بمراجعة النص الإنجليزي للقصيدة وجدت أن الشاعر قيس لم يشر إلى هذا العنوان الذي اختاره أخوه للقصيدة ، فقد كان العنوان حسب ماجاء في موقع مدونات أزمنة العرب ARAB TIMES BLOGSهو جوانتنامو ، أي اسم المعسكر الإعتقالي ، غير أن العنوان البديل ، كما أرى ، قد أوحى به الجو الوصفي العام ، حتى أنه بدا موفقا جدا ، يمنح القاريء فرصة أن يتخيل بطل القصيدة وهو في حديثه مع الصرصار وحيدا منفردا لا أنيس له في وحدته ووحشتة سوى هذا الصرصار ، وكان الشاعر قيس موفقا جدا ، ايضا ، في وصف معاناة بطل القصيدة بشكل بديع ورائع ، إذ تمكن من خلال الحديث الأحادي من نقل مشاعر القهر والذل التي يحياها فاقد أنسانيته في ذلكم السجن الإنفرادي . القصيدة في الأصل مكونة من ثلاثة عشرا مقطعا ، ظهر منها ثمانية فقط ، واختفت خمسة مقاطع في النص المترجم ، على أهميتهما القصوى في تقديري ، والحق أن الشاعر شهاب غانم لم يكن قد أغفلها عمداً ، لكنها كانت رغبة الشاعر قيس ذاته ؛ إذ قرأها في مهرجان القلب الشاعري الثالث في دبي على تلك الشاكلة ، كما فهمت من توضيح المترجم ذاته في تواصل بريدي معه .القصائد في ثنايا الكتاب منتقاة بعناية فائقة ، وبحس شاعر مرهف ، وأكاد أجد صعوبة في الحديث عن هذه القصيدة أو تلك ، وعدم الإلتفات إلى غيرها من القصائد ، حتى بت أخشى أن أقع في دائرة الظلم ، لذا أستميح المترجم والشعراء عذرا إن أنا نوهت إلى بعض من القصائد ، وأغفلت الإشارة إلى الأخريات ، لا رغبة عنهن ، ولكن المجال لايسمح بتناول الكل ، وحسبك أيها القارئ الكريم أن ترشف من دن العسل رشفة أو رشفات لتأخذك لذة ماتبقى .لقد حفل الكتاب بقصائد لشعراء قرأنا لهم من قبل ، وِشعراء أخرين لم نقرأ لهم ،بل أكاد أزعم أننا لم نسمع بهم ، وهذه ميزة حميدة تحسب للمترجم ، إذ الترجمة وسيلة غايتها الربط بين ثقافات العالم ، فها أنت تقرأ للشاعر الهندي شيمانام تشاكو قصائد سياسية تفضح التعصب ورفض الآخر كما في قصيدة ( ابتسامة الهيكل العظمي ) أو تفضح الوزراء والمسئولين الفاسدين وتمسكهم بالكراسي كما في قصيدة ( تلوث دم ).وتقرأ قصيدة عاطفية جد محزنة كما في قصيدة هيرمان هسة ( من دونك ) ،وتجد متعة منقطعة النظير ، وأنت تطالع قصائد الشاعر الياباني دايساكو إيكيدا، ولقد أخذني العجب أيما مأخذ وأنا أقرأ ثلاث قصائد لشاعر يمني رمز إلى اسمه بعوض ، ولم يذكر اسمه كاملا حال نشر قصائده مخافة الوقوع في القبضة البوليسية للحكم الشمولي في جنوب الوطن بعيد الإستقلال ، وسر تعجبي أن القصائد وصفت حال البلد أنذاك وصفا دقيقا حتى أني قلت في نفسي ، إن هذا الذي أقرأه اللحظةَ كان يحدث في بلدي قديما ، فهل تشابهت التجارب في بلدي وفي بلدان أخرى،ظناً مني أنها لكاتب أجنبي ، وزال عني العجب حين تبين أن الشاعر كان يمنيا وكتب قصائده بالإنجليزية خوفا من البطش به .أما قصيدة ( مطر الليل ) فأحسب أن الشاعر شهاب غانم قد اختارها عنواناً لهذا الكتاب لأنها كانت درة التاج في مجمل القصائد ، ولأنها تشي بما يحمله الكتاب من أصناف شتى ، من المشاعر والأحاسيس والعواطف التي راحت تضمخ أجواء الكتاب بعبقها الساحر ، كيف لا ومطر الليل كما تقول مؤلفتها الشاعرة الهندية شجاثا كماري :يامطر الليل ، إنني أعرف موسيقاك الرقيقة والحزينةشفقتك وغضبك المكبوتمجيئك في الليلنحيبك وبكاءك في وحدتكوعند الفجرمسحك وجهك ، وتصنّع ابتسامةوتعجلك والتظاهر بأمر ما،كيف لي أن أعرف كل هذاياصديقي أنا مثلكمثلك مطر في الليل وهل كل ماجاء بين دفتي الكتاب من قصائد وأشعار ، انتقاها بعناية فائقة - كما أسلفت- الشاعر الجميل شهاب غانم ، إلا تصوير جلي وواضح لما ورد في الفقرة أعلاه من قصيدة مطر الليل .من أجواء الكتاب أقتطف :من قصيدة ( أغنتيتي ) لطاغور ..سوف تكون أغنيتي مثل جناحين لأحلامكوسوف تحمل قلبك إلى حافة المجهول .وسوف تكون مثل النجم المرافق في الأعاليعندما يكون الليل المظلم فوق طريقكسوف تسكن أغنيتي في بؤبؤ عينيكوسوف تحمل بصرك إلى قلب الأشياءوعندما يخرس الموت صوتيسوف تبقى أغنيتي تتحدث في قلبك الحي ومن قصيدة السجن الإنفرادي لقيس غانم( وهو يتحدث إلى صرصار ) :وكل ما أريده هو أن أراكتنظر نحوي بعينيك الضئيلتيناللتين تجولان في كل مكانودائما تحدقان في وجهيإنك لاتتصور المتعةالعظيمة التي أجنيهامن رؤيتك في وقت فراغكفهذا منظر ينم عن الحياة التي أثمنها .شكرا للشاعر والمترجم الجميل د. شهاب غانم هذا الكم الرائع من القصائد المتنوعة في منشئها وفي كتـّابها ، وفي أجوائها مواضيعها ، وشكرا لمجلة دبي الثقافية إهداءها كتابا قيما كهذا لقرائها .
|
ثقافة
شهاب غانم ومطره الليلي المضمخ بالعطر
أخبار متعلقة