إذا وقف المرء على الضوء المشتعل المنبعث من شمس كوكب الصين وصوّب نظره في زاوية معينة باتجاه الهوة التي ظللنا نحفرها على مدى عقود، ثم قرر فجأة قياس الفجوة الممتدة بين الشمس الصينية التي يمكن أن تتحول في لحظة ما إلى عذاب أزلي يسلطه كوكب الصين نحو العدو الماثل أو البقاع القاصية، فسيجد نفسه يقف وجها لوجه أمام معضلة ليست فقط رياضية، ولكنها معضلة مركبة تاريخية، نفسية، ثقافية، سياسية ملتبسة وزمانية حرجة.
في الأول من أكتوبر1949، ظهرت إلى الوجود جمهورية الصين الشعبية. صين اليوم هي إرث إمبراطورية مترامية الأطراف، وتلك الإمبراطورية نفسها كانت إرثا لممالك ثلاث سبقتها (تشو، تشين، هان)، وهذه مهدت سبيل الانبعاث الأول. دعونا لا نخوض في ذلك التاريخ، بل لنشهد كيف انبعثت الروح دفعة واحدة بعد زوال كان محققا بفعل متغيرات كبيرة وكثيرة وعاصفة.
بين عودة الصين الجديدة من ركام الأفيون والحروب - أي 1949 - وبين إعلان جمهورية السلال وجمهورية قحطان (13 عاما و18 عاما على التوالي)، المجموع بالمحصلة ثمانية عشر عاما، إنه فرق طفيف بحسبة التاريخ والمؤرخين وحتى بحسبة الأعمار والأجيال.
لا تدعي الصين أنها قومية واحدة كما نفعل. تتعايش 56 قومية في هذه الدولة دون أن تدعي واحدة منها بأنها الأحق بالملك من غيرها، أو أنها مصطفاة دون غيرها. لم تقل أي منها إن (بوذا) أو (كونفوشيوس) قد محضها دون غيرها من القوميات لتكون الملاك الحارس لكل الصين وكل صيني.
بدأت الصين تعمير اقتصادها من الريف بحكم طبيعة المجتمع الإقطاعي الزراعي الذي ساد فيها، بدأت بالمنجل اليدوي (الشريم)، ولم تعمل الآلة في الزراعة الصينية إلا بعد أن صنعتها بنفسها، ثم هرولت بصمت دون ضجيج قدما. لم تكتشف أمريكا والغرب أن الصين هي التهديد الاستراتيجي إلا في ساعة متأخرة من ليل كانت فيه المناطيد الصينية تجوب سماءهم.
ست وخمسون قومية وعدد من الأقليات لم تتجرأ أي منها الادعاء لنفسها بالحق الخالص بالسلطة والثروة والدين والإله أيا كان مصدره.
أشعر بالفزع فعلا وأنا أتخيل بيني وبيني، وبعيدا عن ذاتي والآخرين، أن زعيم قومية ما من تلك القوميات قد أطلق لنفسه العنان وأعلن نفسه ندا للدولة الصينية وأصبح يفرض عليها ما يجب أن يكون أو لا يكون في أرض قوميته، ليكون نموذجا لما يجب أن تكون عليه الدولة بأسرها.
تخيلت أن شيخا صينيا أرعن جمع كل أفراد القبيلة ساقهم إلى العاصمة بكين مدججين بسلاح أغدق به الجيران عليهم. يا لهول ما رأيت في تخيلي ذاك. كان السد الهائل قد انفجر وتدفق السيل البشري هادرا مقتحما الوهاد والهضاب والجبال متجاوزا كل حدود الدول، بل أن السيل قد جرف في طريقه الدول وطمرها في هوة سحيقة. فقدت الدول وجودها وفقدت الصين نفسها وأكل الناس بعضهم في موجة الجوع المتخلق من نزوة شيخ أرعن. من حسن حظ الصين أن ليس لها جار سوء بمقدوره النفخ في صدور أبنائها بالمال والسلاح، أو ربما هي دولة يقظة بما فيه الكفاية.
في لحظة ما كنا والصين في ظرف تاريخي واحد في نقطة البداية. يفصل بيننا وبينهم ثمانية عشر عاما. مناضلونا ومشايخنا وساداتنا وكبراؤنا لم يستكينوا ولم تهدأ بؤرة النضال في نفوسهم كل من زاويته... ليس لدينا نضال مجاني، النضال يقابله منصب وجاه ونفوذ وحسد. انبجست من قومية من بين ركام النضال ووهج الثورات لكل قرية، ولكل بيت في كل قرية أينع زعيم ملهم.
في الصين بردت الرؤوس، وفي لحظة حاسمة توقفت الثورة الدائمة المشتعلة، حينما أدرك الكل أن الثورة الدائمة تحرق كل نبتة تزهر في الأرض، وإنما الثورة الحقة جاءت لتفسر الاخضرار والنضارة في الحقول والوجوه... فنمت الأجنحة وحلقت الصين عاليا. بينما ظللنا بسبب من حرارة منفلتة نحفر تحت أقدامنا، فإذا بالحفرة تصبح بئرا وإذا بالبئر تبتلعنا.
ولم يعد أحد يهتم بالفاصل الحالي بيننا وبين الصين، لأنه حساب فوق كل طاقة ومقدرة، لم يعد أبدا كما نتخيله... إنها سنوات ضوئية لا يمكن تجاوزها بغير آلة الزمن.
