لم أكتب لأُردّد مقولة: ليت الزمان الأول يعود لنعيش فيه، بل لأستحضر قيمًا منسية كانت تسكن مشاعرنا. ولم أقف هاهنا متمنّيًا، متأمّلًا، عودة أيامٍ مضت، وإن كانت – في حقيقتها – قد تركتنا نبحث عنها في ذاكرةٍ لا تنام.
كان الوفاء بين الجيران نقشًا على جبين القلوب، يُرسَم بكلّ تفاصيله، وكان جبرُ الخواطر لغةً شائعة، يتداولها الناس بالفطرة، ويجيد حديث فلسفتها الجميع.
في زمنٍ مضى ثم تركنا، كان للجيران نكهةٌ لا تُضاهى، كحليب أمهاتنا؛ نشمّها عند عودتنا من مدارسنا، أو حين نلج أزقّة حاراتنا قادمين من بعيد، ويزهو بنا شذاها في ممرّات الحارة، حين نرى آباءنا في ما بينهم يتنافسون على اقتسام مساحة الظل.
وكانت كفوف أمهاتنا نغمةَ التواصل فيما بينهنّ؛ تبدأ مع أول خيوط الفجر عبر شرفات النوافذ العتيقة. ينشدن أخبار أهل البحر والبرّ: هذه تسأل بمحبةٍ عن جيرانها، وتلك تتساءل بلهفةٍ عن خالٍ يسكن هنا، أو عمّةٍ تسكن هناك، أو أخٍ أنهكته صروف الاغتراب. ويرسلن السلام على جناح الشوق محاكاة، إن لم يجدن رسولًا.
كان الناس أهلًا؛ يستنشقون الأكسجين من دفء الجيرة، ويقتاتون من طمأنينة السؤال عن بعضهم: «كيف أصبحت؟»؛ كانت عهدًا، ومناجاةً، ودعاءً في ظهر الغيب. يفرحون لفرح بعضهم، ويحزنون لحزن بعضهم. فإذا نزلت مصيبةُ الفقد بأحد البيوت، خيّم الحزن على مدرّجات الحارة، كأنّ الفقيد قد خرج من كل بيت. كانوا يحفظون وجوه بعضهم، لا سجلات هواتفهم، وبيسرٍ كانوا يميّزون أواني الجيران من كثرة العطاء المتبادل، حين كانت الأواني تنتقل من بيتٍ إلى بيتٍ من غير استئذان.
نعم، كنّا أهلًا، يا عبد الرحمن، يا أحمد، يا حسين، يا خالد… لعلكم لا تزالون تذكرون تلك الليالي الباسمات التي كنّا نسهر فيها في بيوت بعضنا. وإذا غلبنا النعاس، نمنا عند الجيران بعلم أهلنا، ويأتي المنادي على الطريقة المألوفة: «اتركوه يرقد عندنا إلى الصباح»، فنصحو على رائحة خبز أمهاتنا.
كان خبز أمي، يا محمد، يشبه خبز أمك؛ في اللون، وفي المذاق، وفي الشكل؛ لأن أمهاتنا كنّ متشابهات في الطيبة، في الحنان، في الوفاء، والمروءة؛ في فنجان قهوة، وتمرات، وكسرة خمير، تُقدَّم لآبائنا بابتسامة.

