قصة قصيرة
روضة الفـــارسيتتلاعب الرياح بخصلات شعري التي تلامس دموع عيني المحمرتين، وترتطم أمواج البحر الثائرة بالصخور محدثة هديراً، ثم ينتشر الزبد الأبيض على الصفحة الزرقاء مصدراً وشوشة خافتة تتوحّد مع أصوات أخرى مختلفة وأكثر ارتفاعاً...بجانبي يقف شاردا حزينا متأملا الأمواج التي تنثر علينا رشات الماء من حين لآخر.في الأفق البعيد تبدو سفينة في الامتداد الأزرق، واخرى تظهر أكبر حجما بأشرعة ملونة وصوار عالية... سرب من النوارس يتطاير بعضها والبعض الآخر يسبح...على بعد أمتار ينتظر صياد ممسكا خيط صنارته بصبر وصمت...أحاول ابتلاع غصتي وكأني لا أحمل كل تلك الأوجاع في كياني وكأني متماسكة أمام هذا الوضع الجديد الذي ينتظرني لم يعد هناك من منفذ.ســ نــــ فــــ تـــ ر ق ...تبوح عينا رياض إلي بأشياء وأشياء رغم المجهود الذي يبذله لإخفاء مشاعره. ويطلق صدره زفرات بمرارة كبيرة وبهدوء ظاهري يخبئ ما بداخله من صراع . نتّفق أن تبقى البنتان مبدئيا معي...ينصرف حاملا معه الذرة الباقية من الأمل... مع تحرك خطواته تكتئب السماء وتتوحش الأمواج وتنوح النوارس... تحملني ساقاي إلى أن أجدني في الطريق بين السيارات غير مكترثة لأصوات منبهاتها ولا لتحرّش بعض المارة... أسير والدنيا تضيق وأنفاسي نعيق موحش، وقلبي قرع ريح على شجر ليلة ظلماء كئيبة.أنتبه أني وصلت حديقة منزلي وأني تحت شجرة البرتقالة الوحيدة، أبتلع ريقي الذي جف و حلقي وشفاهي ولساني.“يا إلهي لمَ ضاقت الروح واختفى الصبر ...و لم استيقظت أوجاع الماضي؟ آآآه. لقد ظهر من جديد الجرح الذي سببته لي يوما يا حبيبي. ولقد لمس جرحي دون وعي مني جراحا مرهفة خفية داخلك، أكيد أن الروتين والملل قتل حياتنا الزوجية ، ولكني أحبك رغم اختناقي وإهمالك لي وموتي المتعدد في حضرتك... أنا أيضا مسؤولة عما حدث، كان علي أن أجتهد كي لا يفترسني الوجع و كان علي أن أتعايش مع الألم، رغم أنك طالما كذبت علي، وكثيرا ما عاملتني بمنتهى الأنانية والقسوة ، كان علي أن أبذل مجهودا أكثر لتكون روحي أنقى وأنصع وأجمل، لكن يا حبيبي نحن النساء أيضا نمر بظروف نفسية قاسية ونحتاج لمن يواسينا ويمسح دموعنا، و الحزن الذي كثيراً ما كان يجتاحني، لم يجعلك كتفا وعونا لي كما توهمت يوما، بل زاد في ابتعادك عني وساهم في اتساع الهوة بيننا، كنت لا أطلب وقت ضيقي إلا أن أسمع منك (أنا معك، أنا حبيبك وسندك الذي كان وسيبقى). لو كنت فعلت ذلك لانقلب حالي وعدت لميس التي أحببت، لميس المفعمة بالحياة والحب و الخير والجمال، ولكنك لم تفعل ذلك أبداً وربما لن تفعل، لقد أخطأت كثيرا، إذ كان علي ألا أنتظر العون إلا مني ومن الوهاب الحكيم... ولكن ما قيمة التفكير في كل هذا الآن. لقد افترقنا وانتهى كل شيء، فيا لوحشة... أيامي دونك ويا لعذاب ليالي بعدك حبيبي)...بيد مرتبكة أدير المفتاح وأدخل البيت متكلة على الذي كان وعده مأتياً...تخرج سارة وريمان من غرفتهما مرحبتين. تسأل سارة البالغة الرابعة عشرة من العمر :ـ أين أبي يا ماما؟أقول بصوت مرتجف منخفض حزين:ـ إنه في بيت صديق.وتقول ريمان التي تصغر أختها بسنتين:ـ وهل سيتأخر عند هذا الصديق يا ماما، لقد اقترب موعد الغروب الآن؟أبذل مجهودا خارقا كي أتماسك:ـ نعم حبيبتي، سيتأخر عند صديقه اليوم ، فمنذ زمن لم يلتقيا، وربما سينام عنده أيضا.تقول عيون البنتين أشياء كثيرة ولكنهما تكتفيان بأن تعودا إلى دروسهما بصمت.تنتقل قدمي من غرفة إلى أخرى دون القيام بشيء محدد، و يخيم الحزن على كل الستائر والأثاث. تمر ساعات من الألم و الحزن . تزداد الكآبة حين تقول لي بنتاي تصبحين على خير ماما و تطفئان ضوء غرفتهما. يقول صوتي الباكي المتقطع “يا رحمان أريد أن أجد منفذا للخروج من هذا الاختناق. يا رب... أعني. “ الطقس ربيعي ولكني أحس بحرّ يكتم أنفاسي، أخرج متثاقلة للشرفة فأجد الإناء الذي تركته البارحة حين أمطرت قد امتلأ. أصبّه فوق جسمي وأقفز مرتعشة مصدرة صيحة غير مكتومة أتجه بعدها بسرعة لآخذ حمام دافئ. أفتح جهاز التلفاز علني أجد ما ينسيني أو يسليني. أتجول بين المحطات العربية... جل البرامج مزيفة يقدمها ويعدها أموات يتنفسون على الأرض، لعلها تدفع من يشاهدها إلى الانتحار أو الموت البطيء. أحس بالعطش، أنتبه إلى قارورة الماء الموجودة فوق الطاولة التي أمامي، أسكب كأس ماء بارد فأزداد عطشا. أشرب وأشرب، يتبلل ريقي وحلقي كثيرا لكن وجعي لا يكف ونيراني لا تبرد. ( إلهي لطفك، ما أقسى قلب الحياة، وما... أحد أنيابها، إلهي... أرجوك.. يا لله... دع ...النوم يريحني من عذاب... ووحشة هذه الليلة ). أواصل التنقل بين القنوات ، علي أظفر بفيلم أو مسلسل يلهيني ويفيدني ، لكني لا أجد سوى الأفلام التجارية الرديئة، أو المسلسلات المدبلجة التي تسلسل الوعي وترميه في بحر لا قرار له . وطبعا الإشهار الكثيف الممل الطاغي على كل شيء، الغارس سمه في العقول باسمرار... أتنهد مقهورة ثم أضحك بسخرية “مريح أن نثقل أنفسنا بالوهم وأن تغط في النوم العميق أبداً). أغلق الجهاز وأصابعي ترتعش وأعصابي تكاد تنفجر. ثم أدخل غرفة البنتين. الكتب والكراسات والأقلام مبعثرة على مكتبيهما، الشباك مفتوح قليلا، أما هما فتستسلمان للنوم. أغلق الشباك متنهدة ثم أغطيهما جيداً.. إثر ذلك أعدّ لنفسي كوبا من النعناع أحمله معي لغرفة النوم...أتمدد على الفراش، أتذكر كيف اخترنا أنا ورياض اليوم البحر لنتحدث على ضفافه بهدوء ونقرر مصيرنا، و ما من شك بأن البحر اليوم أحس وجعنا الشديد و تألم لألمنا، ذالك البحر الذي كان شاهداً يوما على بداية قصة حبنا الزاخرة بالأحلام والسعادة .. أسترجع بمرارة صور الأمواج الثائرة والصخور و الزبد الأبيض على الأمواج الزرقاء .وأسترجع وجه رياض الحزين مع صور النوارس الكئيبة النائحة.تمضي الساعة الأولى ثم الثانية وأنا أصارع التوتر والوجع والحرقة، حتى أني كدت لا أصدق حين أتت علامة غيث من ربي،... ها إن الوضوح في داخلي يضيء شيئا فشيا الروح ويذيب رواسب الفكر، .أترشف ما بقي من النعناع هامسة (الحمد لله)...و أخيرا أخلد للنوم..أجدني إلى جانب رياض في قاعة جميلة شاسعة نحتفل بعيد ميلادي، الزمن ليل، أرتدي فستانا أبيض مشعا باللآلئ و أتزين بطرحة و حلل جميلة. ويلبس كسوة رمادية فاخرة وقميصا أبيض باهرا زاد في وسامته، تضج القاعة بأنواع مختلفة من الورود الساحرة، وجمع من الناس يتأملنا وكعكة المرطبات الجميلة أمامنا والتي تزينها شموع مختلفة الألوان... نحاول أن نشعل الشموع فلا نجد قداحة... نحاول أن نستعير ممن معنا في الغرفة قداحة، لكنهم يتأسفون لعجزهم عن مساعدتنا... نتحسر كثيرا على سوء الحظ، ومع هذا أقول بيقين بأن الله لن يتخلى عني في ليلة عيد ميلادي،. فجأة تشعّ الكعكة بأنوار مذهلة مبهرة ساحرة ونستمع إلى صوت جميل مصدره غير مرئي يقول... ( فناديناها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا) .أفيق من حلمي على رنين المنبه... شيء ما يغمرني بالنور والفرح ، أوقظ بناتي بمنتهى الرقة والحنان كعادتي، أودعهما بابتسامة وهما تخرجان للدراسة، عبر الشرفة أتأملهما كل بشعرها المنسدل الأسود ومئزرها الأزرق، وحقيبتها الملونة، ثم أتأمل الحديقة التي تتحرك فيها شجرة البرتقال الوحيدة بمرح مع النباتات والزهور التي تبدو اليوم أكثر نضارة . أدخل البيت، أشغل المسجل فينبعث صوت فيروز الملائكي بأغنية نحبها أنا و زوجي كثيراً: سنرجع يوما إلى حينا)... بعد حين أتجه إلى المرآة، أتأمل قوامي الجميل ، ثم شعري الفاحم الطويل، أسرحه وأنا أتوغل في أعماق عيني الواسعتين الجذابتين ثم ألمس خدودي السمراء المتوردة، ثم شفاهي القرمزية، أضع بعض العطر فتمتلئ كل البيت بالرائحة اللذيذة. فجأة أسمع القفل يتحرك... يدخل رياض حاملا باقة ورد. يتقدم نحوي بعيون تلمع حباً، فأتجه صوبه وقلبي يكاد يخترق صدري.. قد تستمر علاقتنا الزوجية ولكن بطريقة جديدة مفعمة بالحياة والفرح، وقد تنتهي يوماً لتحل محلها علاقة أصفى وأجمل... لكن الآن، لا قرار، لا كلام ولا عتاب سوى أنفاس وخفقات و أحضان مرتبكة دافئة وروائح سحرية وحب يشع بأنوار ا هذا الكون وبعظمة هذا الوجود.