نشرت صحيفة (الاهرام) المصرية حوارا مطولا مع المفكر العربي والعالمي الكبير محمد حسنين هيكل تناول بالقراءة والتحليل أبعاد وتفاصيل المشهد العربي الراهن .ونظرا لأهمية ما جاء في هذا الحوار الذي تداولته وسائل الاعلام العربية والعالمية ومراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية في الولايات المتحدة الاميركية وأوروبا وروسيا والصين واليابان والهند من خلال الترجمات الواسعة لهذا الحوار، يسر صحيفة ( 14 اكتوبر ) اعادة نشر هذا الحوار القيم تعميما للفائدة .[c1]أجرى الحوار : لبيب السباعي ، عبدالعظيم حماد ، عــبـــدالعـظـــــيم درويــش ،أنورعبداللطيف ، عبدالله عبدالسلام ، علاء العطار ، محمد حربي[/c] قبل أن أبدأ بالحديث معكم في قضايا اللحظة الراهنة، أريد أن ألفت نظركم إلى أنني أقتصد إلى أبعد مدي ممكن في الكلام لسببين: السبب الأول: إنني لا أريد أن أقاطع نقاشا يجريه أطراف جيل جديد مع بعضهم، وإنما أعترف دون تحرج بأنني أتابع عن قرب أحوال العصر، لكني ببساطة من جيل آخر، وهذه حقيقة عمر، وأنا رجل مهتم بمستقبل بلدي، ولكني أعرف أنني لست طرفا في هذا المستقبل، خصوصا سياساته، فالسياسة تدبير، والتدبير لا يكون إلا لمستقبل، وكل مستقبل له أحوال وتضاريس ومناخ، والذين يعيشون فيه هم الأقرب إلى حقائقه، والأقدر على رسم خرائطه. والسبب الثاني: إنني لا أريد أن ألح على التواجد في الصحافة المصرية إلا بقدر وبحد، وكثيرون منكم يعرفون وأولهم صديقي القديم وزميلي السابق لبيب السباعي أنني عندما تركت الأهرام سنة1974 لخلاف مع الرئيس السادات حول الإدارة السياسية لنتائج حرب اكتوبر، كنت أعرف من حقائق الأشياء ومن طبائع الأشياء أنني لا أستطيع أن أمارس حريتي في مصر إلا في إطار ما تسمح الطبائع والحقائق، وكذلك فإنني مع بقائي طول الوقت في مصر مارست عملي وبالتالي حريتي بالكتابة والنشر في الصحافة الدولية خارجها، وكذلك كان!! ثم حدث مع التحولات الكبرى في السياسة المصرية، وأيضا الخارجية أنني وجدت نفسي مشدودا للحديث والكتابة في مصر، وتحدثت وكتبت مرة أخرى في مصر وقت الرئيس السادات، وكتبت معارضا ملحا في المعارضة لسبب لم ينتبه إليه كثيرون، وهو ظني بأنني قمت بدور أساسي في مجيء السادات رئيسا بعد رحيل عبد الناصر، وبدور كذلك في تأييده في ظروف أحاطت بمصر أيامها، ثم إن ذلك جعلني أستشعر مسئولية أدبية ألحت على بداع أو بغير داع، وكذلك فإن معارضتي لسياسات الرئيس السادات كانت ظاهرة، ومن سوء الحظ أن بعضهم تصورها تصفية حسابات، بينما الحقيقة أنه لم يكن بيني وبين الرجل حسابات تصفى، فقد كان على المستوى الشخصي والإنساني صديقا حميما، وكنت بالنسبة له كذلك، وأشهد أنه حاول والسيدة قرينته شاهد أن يحتفظ بي قريبا منه بكل الطرق، ولكن المستجدات في سياسته كانت فجوة أكثر اتساعا من أي شيء آخر، وانتهي الأمر به بعد سبع سنوات من معارضتي لسياساته إلى وضعي في السجن مع نخبة من ساسة مصر ومفكريها ضمن حملة اعتقالات مشهورة في( سبتمبر1981). ويستغرق الأستاذ هيكل في لحظة سكون كأنه يستجمع سبل الدخول إلى عصر مبارك ويستطرد قائلا: حين جاء الرئيس حسني مبارك خلفا لـ (السادات)، فإن واحدا من أول قراراته كان الإفراج عن المعتقلين، ولقاء جماعة منهم حين خروجهم، ولقاء بعضهم فرادي معه بعد ذلك، وكنت واحدا ممن انتقاهم وجلست معه بمفردنا يوم السبت الثاني من ديسمبر1981 لمدة ست ساعات متواصلة، وقد تحدثت معه بقلب مفتوح في كل ما سألني عنه، وكان الرجل للأمانة راغبا في صلة بيننا، وكان بين عروضه تساؤل: إذا كنت لا تريد أن تعود للصحافة المصرية، فلماذا لا تجيء للعمل في الحزب الوطني؟! وأدهشني كلامه، وقلت له: إن اختلافي مع الرئيس السادات لم يكن شخصيا، وإنما خلاف جوهري عن السياسة المصرية وتوجهاتها الطارئة في حرب أكتوبر، وهذه السياسات مستمرة لم تتغير، وكذلك لم يتغير موقفي، وقلت له إنني وربما غيري نريد أن تترك له الفرصة ليدرس بنفسه ويتقصى ويتخير ما يرى، لأن كثيرين بقلوبهم معه يرون أن البلاد بعد عاصفة الدم التي أدت إلى اغتيال الرئيس السادات، وصاحبته، وموقف الاغتيال ترتب له حقا في فترة سماح يتيح له ما تحتاجه مصر من تهدئة تحافظ على السلم الأهلي وتحمي الوحدة الوطنية في كافة مواضعها. وظللت بعدها على اتصال ودي متقطع به، وأغلبه على التليفون، أو عن طريق أسامة الباز الذي كان ضمن هيئة مكتبي لزمن طويل، ثم أصبح مدير مكتب الرئيس حسني مبارك ومستشاره فيما بعد. وبعد مرور عام كامل أي في سبتمبر1982 طلب مني رئيس تحرير المصور وقتها وصديقي وزميلي الأستاذ مكرم محمد أحمد أن أكتب عن مبارك بعد سنة، وكتبت بالفعل مجموعة مقالات على شكل خطابات مفتوحة، وجاءني أسامة الباز باسم مبارك يسألني عن تأجيل النشر، لأن النشر يحرج الرئيس بشدة في هذه الظروف، ووافقت، وإن كنت سألت أسامة إذا كان الرئيس قرأها، فرد بالإيجاب، وقلت إن ذلك يكفيني لأنه عرف رأيي، ورأى ما أتحدث فيه من وجهة نظري، وفي كل الأحوال لست أطلب إحراجه. وقد بقيت هذه المقالات الست محظورة حتى نشرتها في جريدة المصري اليوم، وكانت محاولة تقييم لسياسات الرجل، وفيها تحدثت عن ملامح فساد يزيد، وعن تصرفات وأخطاء تتراكم، وعن بطء في القرار له خسائره، وعن صلاته بالعالم العربي مضطربة، وعن علاقاته بالعالم الخارجي ينقصها التوازن. ولزمت الصمت فترة، ثم عدت بدعوة من الأستاذ إبراهيم سعدة فكتبت مجموعة مقالات لـ أخبار اليوم، وقد أخذت أتحدث فيها عن صنع القرار في مصر في عهد مبارك. وأثارت المقالات وقتها غضبا توجه معظمه إلى الأستاذ إبراهيم سعدة، وأوقفتها بعد مقالين، حرصا على الرجل، وقد كانت أمامه في ذلك الوقت فرصة لتولي رئاسة مجلس إدارة الدار. ولزمت الصمت مرة أخري. وفيما بدت بعض علامات الأسى على وجه الأستاذ قال: كان اعتقادي يتزايد مع الأيام بأن حركة وثورة العصر الحديث تطرح مستقبلا جديدا مع جيل آخر في زمن مختلف. لكن تردي الأحوال مع تراكم السنين وأثقالها في عهد مبارك كان يدعو كل مواطن إلى أن يقول كلمة إذا واتته فرصة، وكذلك كتبت، ثم حدث أن بدأت الرقابة تطول بعض ما كتبت بالحذف سطرا هنا وسطرين هناك. وتصادف وقتها أنني تعرفت مباشرة على السرطان، وبسببه أجريت عملية جراحية كبري في الولايات المتحدة الأمريكية، لكني بعد الجراحة تأكد لي ما كنت لمحته، ورحت أراقب من أول سنة2000 أن ملامح توريث قادمة على الأفق، ورأيت أن أطرحها صراحة في محاضرة في الجامعة الأمريكية يوم14 أكتوبر2002، وأذيعت المحاضرة وتكررت إذاعتها على قناة دريم، ولم ينتبه أحد في البداية، لأن الكل كانوا في مناسبة افتتاح مكتبة الإسكندرية، وحين تنبهوا للمحاضرة انقلبت الدنيا رأسا على عقب، وأغلقت كل المنافذ والنوافذ، وكذلك رأيت أن أعلن على الناس اعتزالي الكتابة والصحافة في مصر، ثم انهمكت بعدها في أحاديث عن تجربة حياة، رحت أتحدث فيها من قناة الجزيرة. وخلال أحاديث تجربة حياة لم يكن هناك مفر من إشارات كثيرة إلى الواقع والراهن في مصر، وشدني ذلك بين الحين والآخر إلى أحاديث مع صحف مصرية كثيرة. وكان واضحا أمامي مع تقدم السنوات الأولي من الألفية الجديدة أن الأوضاع في مصر على طريق مسدود، فالسياسة المصرية في السنوات العشر الأخيرة لم يعد لها مطلب غير التوريث، وقد تكيفت كل السياسات طبقا لهذا المطلب، وتعطلت مصر إلى درجة أصبح فيها التغيير واجبا، وبدا فيها أن التغيير قادم. وفي شهر نوفمبر2009 أجريت حديثا مطولا مع الأستاذ مجدي الجلاد نشره المصري اليوم، وكان الحديث عن الترتيب لانتقال السلطة، لأن النظام أحكم الأمور، واقترحت مجلس أمناء للدولة والدستور يستوفي ترتيب الانتقال من زمن إلى زمن، ومرة أخرى وليست أخيرة ثارت العواصف، ومرة أخرى وتلك ظاهرة مستجدة على الصحافة المصرية بدأت مع نهايات عصر السادات لم يكن هناك رأي يرد على رأي، أو حوار يدور على فكرة، وإنما تجاوزات يفقد بها الحوار قيمته، وتنتحر فيها الأخلاق والمعاني وحتى الألفاظ!! وحينما خرج الشباب في مطلع ثورة25 يناير2011، وحين خرجت كتل الجماهير معهم وحولهم تعطي لبشائر الثورة حجمها الحقيقي، وحين اتخذت القوات المسلحة موقفها الأصيل، وجدت نفسي أكتب كل يوم تقريبا، وما كتبته وقلته لايزال ماثلا في الذاكرة لا داعي للعودة له بالتفصيل. وبعدها وجدت من الحق ترك المستقبل لأطرافه والمتابعة من بعيد. وبرغم طلبات متكررة من أصدقاء من نجوم الصحافة والتليفزيون، فقد آثرت أن أترك الشهور دون مقاطعة، بل إنني طوال شهر أغسطس، وقبله، وبعده بأيام آثرت أن تكون متابعتي للشأن المصري من بعيد، وقضيت خمسة أسابيع كاملة، متنقلا بين مدن وعواصم أوروبا حتى انتهيت في الجزء الأخير من رحلتي أن أقصد إلى لندن، وهي في ظني أهم مركز للمراقبة والاستماع والحوار في كل شئون العالم في هذه الساحة الدولية الحافلة. ثم عدت قبل أيام وطرح الأستاذ لبيب السباعي فكرة لديه بحوار مع الأهرام، يستكمل حوارا سابقا مطولا أجريته معه قبل خمسة أشهر، وكان قد طرح الفكرة قبل سفري، ورجوته تأجيلها إلى ما بعد عودتي. ولقد رأى الأستاذ لبيب السباعي ورأيت معه أن يكون الحوار موسعا، وذلك يسعدني، وها أنا معكم اليوم وإن على استحياء، والسبب كما قلت لكم من الأول، وهو أن المستقبل له أصحاب أولي بالحديث عنه، من رجل مثلي، قالوا ويقول إن مستقبله وراءه، فهو ليس طرفا فيه، لكن هذا المستقبل يعنيه. بهذا المنطق أتحدث معكم فيما تشاءون!! وبتواضعه المعتاد قال: بإذنكم أقدم إيضاحا أقول فيه إنني مبكرا قصدت أن أبتعد عدة أسابيع من الصيف خارج مصر وذلك ما فعلته، وضمن طلبي أن أطل على الصورة من بعيد، وأن أقابل آخرين غير من نقابلهم في مصر، ونختبر ما يفكر فيه من هم خارج الصورة، مع ما نفكر فيه، نحن من داخلها. وحين عاتبني بعض الأصدقاء متسائلا عما إذا كان ذلك هو الوقت المناسب للغيبة، كان ردي أن وسائل العصر الحديث لا تفرض الغيبة على أحد حيثما كان، لأن الساحات كلها مفتوحة، والطرق كلها واصلة، والأخبار والأحداث والتصورات تسافر بأسرع مما تسافر الطائرات. ثم إننا يجب أن نستكشف جوانب أخرى من الصورة يعرفها غيرنا بأكثر مما نعرفها نحن. وكنت أضيف أنه في أغلب الأحيان لن يطرأ جديد، لأن الأحوال في مصر معوقة، داخلة في شبه مأزق يحتاج إلى جسارة فكر وفعل. وحين عدت بعد غياب ستة أسابيع، رحت أتقصي وأبحث ما فاتني، وتبدي لي أن ما جرى كان قريبا مما توقعته، مع إضافات في التفاصيل لا تغير كثيرا من الصورة العامة، ولعل أهم ما حدث في غيابي، وقد شاهدته كما شاهده الملايين غيري على شاشات التليفزيون هو ظهور الرئيس السابق حسني مبارك في قاعة المحاكمة، ممددا على سرير طبي، ويداه معقودتان على وجهه معظم الوقت، يريد تغطيته قدر ما يستطيع، وعيناه تلتفتان خلسة للنظر إلى ما حوله. وساءلت نفسي عشرات المرات وأنا جالس أمام التليفزيون في أحد فنادق سردينيا: لماذا قبل الرجل لنفسه هذه المهانة؟! وكان في مقدوره أن يمتنع عن حضور المحاكمة؟! ثم لماذا رضي لنفسه أن يجلس على هذا السرير؟! وأنا أعرف أنه والحمد لله قادر على المشي، وعلي الجلوس بما يلائم وضع رجل حكم مصر ثلاثين سنة، كذلك أدهشني أن الرجل عندما رد على المحكمة، رد كأي متهم عادي، كموظف سابق متهم بالاختلاس مثلا، ولم يحاول والميكروفون في يده أن يقول كلمة مشرفة للتاريخ، يعتذر يشرح يسجل ينطق بكلمة يحترم بها نفسه. ولم أجد تفسيرا إلا أن الرجل يتصرف في إطار معين في ذهنه لا يحسن إليه، ولا يحسن إلى غيره. إيضاح أردت أن أمهد به لما أعرض عليكم، باعتباره وقفة أمام مشهد كبير من موقع رجل يتابع من مسافة يريدها، عن اعتقاد بأنه في البداية والنهاية مستقبل وطن يهمه أمره، لكنه هو نفسه ليس فاعلا في هذا المستقبل، بوضوح لأن هذا المستقبل له أصحابه الأكثر اتساقا مع زمانه!!* وعقب لحظة صمت بادرت الأهرام بسؤاله.. بماذا تعلق على وصف المجلس العسكري أن مصر في محنة ؟ ورد الاستاذ: (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) وأنا أفضل هذه التسمية على الوصف الشائع بأنه (المجلس العسكري) على حق تماما حين قال في آخر بياناته إن الوطن في محنة، وهذا صحيح لسوء الحظ، ولنأمل وندعو أنها محنة من نوع موجات الخماسين. والخماسين موعدها الربيع في الطبيعة كما نعرف والآن في السياسة كما نرى. لكني أتوقف لحظة أمام أوصاف هذا المجلس، وأعتقد بوجوب التوقف طويلا وطويلا جدا أمامها! للتدقيق والتساؤل، لسبب أساسي واضح هو أن وصف (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) يوحي بأنه تكليف بمهمة، ووصف (المجلس العسكري) يوحي بأنها قبضة سلطة!! وهذه ليست مسألة ألفاظ، ولكنها مسألة نافذة في العمق، لأن اللفظ دلالة معنى. أي أنه إذا كان المجلس مكلفا بمهمة وليس ممسكا بقبضة سلطة، فلابد هنا من تحديد لا يحتمل الالتباس. ومن وجهة نظري فإن التكليف بمهمة أصدق وأدق في وصف المجلس، واعتقادي أن المهمة هي أمانة شرعية الدولة بتوجيه من الشعب في لحظة من تاريخه شديدة الخطر وشديدة التأثير في المستقبل. وفي ظني أيضا أنه حدث في وقت من الأوقات على مسار الثورة خلط قاد إلى مشكلة نحن فيها الآن. المشكلة التي أتحدث عنها هذه اللحظة ليست الاضطرابات التي وقعت ليل الجمعة الماضي، وتناقضت مع مليونية (تصحيح المسار) كما وصفها أصحابها، فقد سارت تلك المليونية كما أريد لها، نظيفة عفيفة حتى نزل الليل، فإذا غيرهم يخرج من المجهول، وإذا الأحوال تنقلب!! والمشكلة ليست في الاعتصامات والإضرابات والمطالب التي زاد عددها، وأربكت العمل الوطني وعوقت حركته. ولا هي في كل هذا الهدر العقيم في تيه الفضائيات، وصخب الأحزاب في الاجتماعات والمؤتمرات، وبهرجة عناوين الصحف بالأسود والأحمر والأخضر، وهدير المظاهرات في الشوارع والميادين. كل ذلك من أعراض خلط بدأ أساسا في التفكير والتوصيف، قبل أن يظهر في الفعل والتصرف. وإذا أردنا تحليل المقصود فإن الأمر يقتضي عودة إلى ما جرى، وذلك ما يقول به العقل من أنه إذا اختلطت على الناس أمور، فإن أول الحل تفكيك الموضوع إلى عناصره الأولى، ومن بداية وقوعه، وهذا يقتضي عودة إلى ما جرى بالضبط، وكيف جري؟! وكيف تشابك وتعقد حتى وصل بعد مائتي يوم من قيام الثورة إلى هذا الحال الذي نراه حولنا ويقلقنا، ومن الحق أن يقلقنا إلى درجة الرعب من تداعياته إذا نحن تركنا تفاعلاته دون درس وفحص. دعوني أطرح عليكم محاولة رؤية، ثم نتناقش كما تشاءون. أولا: أتصور أننا جميعا متفقون على أن مصر شهدت في يناير وفبراير من هذه السنة(2011) حدثا لا مثيل له في روعته وجلاله، فقد ظهرت فيها وتجلت ثورة مدهشة للعالم وللأمة ولها أعني لمصر نفسها وكانت حركة هذه الثورة مما لا يصدق، وكان أطرافها الفاعلون مباشرة ثلاثة:أولا: شعب كان يتململ ضيقا بأحواله، وبما يرى حوله من آثام ومظالم ويبحث عن خلاص، لكنه حائر في كيف يتحرك؟! وبمن؟!! ثانيا: هذا الشعب وجد طلائع من شبابه تتحرك بما لم يتحوط له أحد وسط مناخ أطبق عليه الظلم والظلام، فإذا هو يكسر الحواجز، ويعبر أرقى التعبير عن إرادته. ثالثا: هذا الشعب وجد القوة التي يحسب حسابها، وهي القوات المسلحة تنحاز إليه، مدركة أن الشرعية هي إرادة الشعب الحرة، وأن السلطة الحاكمة لم تعد تعبر عنها، لأن صاحبها الأصلي وهو الشعب سحبها منه، وبما أن القوات المسلحة هي سند الشرعية وأداتها، فإن القوات المسلحة حددت موقفها، متوافقا مع مصدر الشرعية وإرادته. أي أننا كنا أمام3 قوى بالتحديد هي الأعمدة الرئيسة للثورة: شعب في حالة ثورة، شباب في حالة جسارة، ثم قوات مسلحة في حالة اختبار نجحت فيه عندما تبينت موضع الشرعية، واختارت وحسمت. وبذلك كله وقع النجاح. لكن كل نجاح في دنيا الناس له منافعه وله أوهامه في نفس الوقت. والشاهد أن سلامة الأوطان خصوصا أثناء فترات الانتقال لحظات في التاريخ حرجة، لأن الفارق بين النجاح والفشل يكمن في الفرز الدقيق بين الحقائق والأوهام بعد النجاح الأولي ونشوته. والمشكلة أن نشوة النجاح مثل نشوة النصر مثل أي نشوة تغري بالانسياق مع الأوهام، أكثر مما تدعو إلى النظر في الحقائق. وهذه ظاهرة واجهت ثورات كثيرة، من أول كبرى الثورات في التاريخ الحديث، وهي الثورة الإنجليزية أيام (ويليام الأول) في القرن السادس عشر، والتي قفز فوقها المؤرخون الإنجليز، لكي تظهر إنجلترا وكأن تطورها إلى الديمقراطية كان سلميا لا تشوهه بقعة دم، في حين أن ضحايا تلك الثورة في أيام (ويليام) زادوا على ربع مليون إنسان بالقتل والسحل وتقطيع الرءوس، وبعدها آثر المؤرخون أن يبدأوا بالثورة الأمريكية. ومنها إلى الثورة الفرنسية ثم إلى الثورة الشيوعية في روسيا وفي الصين، إلى غيرها من الثورات الكبرى. كل الثورات واجهت هذه المشكلة مشكلة الأوهام، أو نوعا منها. لكن كل الثورات الكبرى تنبهت بسرعة إلى مزالق الأوهام، وحاولت تداركها، ولذلك احتفظت بالقيم الجوهرية للثورة، وحافظت عليها، وهذا ما فعلته الثورة الإنجليزية التي حافظت على فكرة الملكية الدستورية رمزا مع البرلمان فعلا رغم كل التقلبات حتى في عهد وصاية (كرومويل). وهذا أيضا ما فعلته الثورة الأمريكية، خصوصا في رئاسة (يفرسون) الذي لم يتردد في القول بأن مشكلة الديمقراطية أن الدساتير تصوغها أفضل العقول، ولكن تطبقها أسوأ الغرائز، وذلك عندما تصل الديمقراطية إلى المنافسات الانتخابية على الأصوات وأساليبها، وهذا ما حاول (يفرسون) أن يتلافاه بكم هائل من التوازنات والضوابط في نصوص الدستور الأمريكي عند صيغته النهائية، وهذا ما حدث للثورة الفرنسية بقوانين(نابليون)، وإن كان ذلك القائد الأسطوري ابن الثورة قد وقع بعدها في وهم الإمبراطورية لنفسه وأسرته!! والآن أود أن أنتقل للحديث عن ثورة مصر وأوضح أن نوعا من الخلط جرى عندنا في كل المحاولات الثورية، وآخرها هذه الثورة العظيمة يناير. 2011وضاعف من خطورة الوهم في ظروف الثورة المصرية، أن هذه الثورة لم تكن انتقالا من دولة احتلال مثلا إلى سيادة بلد مستقل. ولم تقع من نظام انحرف بمقاصده وأساليبه إلى نظام آخر أكثر صلاحا. وإنما جاءت الثورة ضد نظام تنازل عن كونه«نظام حكم» إلى «ميراث عائلة»، وهي تحكم مع أقارب وأصدقاء ومنتفعين وصلوا بالدولة إلى مجرد جماعات مصالح تباشر السلطة اعتمادا على قهر الأمن، مع انهيار كامل في قوائم نظام لم يعد دولة ولا شبه دولة، وإنما أصبح بالتعبير السياسي «أوليجاركي»( مجموعة مصالح تستند إلى أمن حديدي)، ولذلك فإن إزاحة قمته تركت بعده أطلالا تتهاوى، وأرضا خلاء، وأكاد أقول خرابا، حتى على الناحية الاقتصادية التي كان الحكم السابق يدعي أنه أحدث فيه تغييرا ملحوظا، وعندما نصل إلى حديث الاقتصاد بالتفصيل إذا شئتم، فسوف نكتشف أن هذا الذي يسمي فكرا جديدا كان سياسة تشبه ما صنعه رجل مثل (برنارد مادوف) الذي أنشأ في الولايات المتحدة نوعا من بيوت تلقي الأموال تعطي أرباحا سخية، على طريقة بيوت الأموال الإسلامية المشهورة التي ظهرت في مصر، وبأسلوب أن تأخذ من هنا لتغطي هناك، إلى أن ينكشف المستور بالضرورة وتنفضح الحقائق، ويكتشف الذين صدقوا ما سمعوا أنهم خسروا كل ما عندهم، والحقيقة أن كل ماسمي بالانفتاح جرى بتسييل الأصول الوطنية، ومثل خطف التوكيلات التجارية، ومثل نهب أراضي الدولة، ومثل التفريط في القطاع العام بسوء نية وسوء فعل، ثم بالاقتراض والديون حتى أصبح حجم الدين العام في مصر أكبر من حجم الإنتاج السنوي فيها. وفيما أشتعلت الرغبة في طرح الأسئلة بادر الأستاذ هيكل بالحديث عن3 أوهام تعيشها مصر فلم نملك إلا الصمت وطرح فكرته بإسهاب قائلا: ومن واقع المشكلة أن الانتقال لم يكن من دولة إلى دولة، أو من نظام إلى نظام، وإنما كان من شراكة عائلة وجماعات مصالح إلى بنيان دولة، في أجواء ثورة. فإن ذلك ساعد وإن لم يقصد على غواية الوهم. كان أول الوهم: أن الشعب الذي صنع الثورة بملايينه قدر أن الثورة تحققت، وأوان توزيع أرباحها قد وصل وحل، والشعب معذور لأن الحقائق بعيدة عنه، ثم إن أحوال معظم طبقاته دون المستوى بكثير، كما أن صبره طال حتى تقطعت الحبال!! والوهم الثاني: أن الشباب الذي فجر الزناد الثوري بجسارة واقتدار وقع في تصوره أنه وليس كتل الملايين من صنع الثورة، ومن حقه الآن أن تكون كلمته الأعلى. وكان يمكن أن يكون شيء من هذا إلى حد ما مفهوما لولا عدة أسباب: أولها: أن هذا الشباب لم ينظم نفسه، وإنما دفعه سباق الأوهام إلى التفرق على أكثر من مائتي جماعة، كل منها تحسب نفسها الأقوي والأكثر فعلا في الميدان. والثاني: أن اعتماد جماعات الشباب كان أساسا على وسائل الاتصال الحديثة، وهذه لها حدود، ذلك أن شبكات (الإنترنت) و (الفيس بوك) والـ (تويتر) تصلح وسائل حركة، لكنها ليست صانعة فكر، والحركة قد تكون لها دوافع وروافع، لكن استيعاب التاريخ قبل الحركة وبعدها مسألة ضرورية، لأن الثقافة التاريخية لازمة للفعل السياسي. وأكثر من ذلك:والثالث: أن الشباب لم يتوقف بشكل كاف للتعرف على الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والفكرية في البلد، وإنما أخذته النشوة إلى حد اعتبار ما يريده قانونا واجب النفاذ، حتى على واقع الأحوال.والرابع: ثم أن الشباب أخذ بمقولات جرى صكها في ملابسات سابقة عن دور القوات المسلحة في مجتمعات العالم الثالث بالتحديد طوال القرن العشرين، بداية من أمريكا اللاتينية في أوله وانتهاء بالعالم العربي قرب أواخره، فتصور أن القوات المسلحة مجرد مخزنجي لشرعية السلطة وفي أحسن الأحوال فإن عليه أن يصرف من المخزن بمجرد إذن صرف يكتبه صاحب الحق، وإذا لم يفعل معناها أنه يصادر الشرعية لحسابه أو يوشك، وكذلك فقد كثر الكلام عن (حكم العسكر)،أو جماعة اللواءات وتعبيرات من هذا النوع ليست دقيقة وليست مفيدة، ثم إنها تنتمي إما إلى عصر الاستعمار، أو إلى عصر الحرب الباردة، وحتى الآن في عصر لاحق لابد من دراسته بجد وعمق!! ومن المهم هنا أن يتذكر الأطراف جميعا أن القوات المسلحة المصرية هي في هذه اللحظة قوة وحيدة تقف حاجزا بين مصر وبين الفوضى الشاملة، والحفاظ على الكيان الوطني سابق في جدول الأولويات عما عداه!!أما أكبر الأوهام فهو يخص المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ذلك أن هذا المجلس وقد آلت إليه أمانة الشرعية وقع في تناقض ، لأنه يتصور في بعض الأحيان أنه سلطة الدولة، وهذا واقع في جزء منه، لكنها سلطة الانتقال، أي سلطة التمهيد لما هو قادم. ثم هو يعلن في أحيان أخرى أنه لا يستطيع أن يتصرف خارج حدود معينة، لأن مسئولية القرارات الكبرى ليست عنده، وإنما في انتظار سلطة مدنية تجيء فيما بعد. وما بين حيازة سلطة الدولة فعلا، وما بين التردد بمقولة انتظار سلطة مدنية قادمة حدث كثير من التردد والتناقض والتخبط بين القرار والانتظار. وإلى حد ما كانت للأطراف الثلاثة أعذار. أولها: أن الأطراف الثلاثة: كتل الجماهير وجموع الشباب المجلس الأعلى للقوات المسلحة فوجئوا بما لم يكن، ولم تكن المفاجأة باندلاع الثورة فقط، ولكن بما بان لهم من الواقع المتردي الذي تكشف معها، وهكذا راح كثيرون يوظفون غير الممكن في طلب غير الموجود، وهو وضع بالغ الحرج!! وثانيا: أن أحدا من الأطراف الثلاثة لم يكن مهيأ للتعامل مع هذا الواقع، لا بالتصورات ولابالسياسة ولابالتنفيذ. وثالثا: أن طبائع الأحوال في هذه الظروف صنعت شكوكا بين الأطراف لم يتصد لها أحد بحوار متكافئ عميق ومستنير. وكذلك وقع التباعد، والتناقض بين الأطراف الثلاثة!! وبعد لحظات من الصمت استطرد: ومع الشكوك بدأ نوع من الإحباط يزحف على الساحة السياسية المصرية لتباين الطرق: 1- الشعب يشعر أن مطالبه لا تلقي العناية الكافية، والملايين التي خرجت وصنعت الثورة فعلا ثم عادت إلى حياتها الطبيعية بدأت تري أن العمل السياسي الذي يجري في العاصمة سباق قوة مشغول بما هو فيه، دون التفات إلى موجبات دخول الجماهير الواسعة إلى الساحة، بما أدي إلى سقوط السلطة القديمة وقيام سلطة جديدة، وفي غياب الحقائق لا يتحدث بها أحد إلا بالتهويل فيها أو بالتقليل منها، وفي الحالتين لقصد أو لغرض فإن هذه الجماهير أصابها نوع من ضيق الصدر ونفاد الصبر وبان قلقها. 2- ثم إن الشباب حتى وهو يقع في شراك التشرذم في صفوفه وبين فرقه راح يتصور أن هناك إنكارا لدوره، وتجاهلا لقوته وهو صانع الثورة، ناسيا حقيقة مهمة وهي أنه ليس هناك عنوان له يستطيع من يريد مخاطبته أن يدق على بابه ويتشاور معه. وقد كانت هناك في البداية ظاهرة استجابة سريعة لكل مطلب من مطالب الشباب، لكن الاستجابة خفتت عندما زادت المطالب، وتوزعت جهات المطالبة على مواقع كثيرة ومتفرقة، وأحيانا متباعدة ومتباغضة. 3 - وكانت مشكلة الطرف الثالث وهو المجلس الأعلى للقوات المسلحة أصعب، فقد راوده الشعور بأنه يواجه حالة إنكار للجميل، لأنه لولا حمايته للثورة لما استطاعت حماية نفسها، وكانت في هذا التصور مبالغة!! صحيح أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة وفر الحماية للشباب وللجماهير، لكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يذكر على لسان كل عضو فيه كما هو منشور وذائع أنه كان يعارض التوريث، وأنه أعد العدة لمواجهته ومنعه، عندما تجيء لحظته، واتخذ قراره بأن يتحرك ضده. ولو أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تحرك وحده ضد السلطة القائمة وقتها، لكانت حركته نوعا من الانقلاب العسكري- أو كذلك يمكن أن يقال. لكن خروج جموع الشباب وحولها في كل أرجاء مصر كتل الجماهير، وفر للمجلس الأعلى غطاء مشروعا يسمح له أن يحقق فعله بالاعتراض على التوريث، دون أن يكون ذلك بانقلاب، وإنما ضمن ثورة شعب!! وإذن فإنه إذا كانت القوات قد أعطت لحركة الشباب والجماهير أمانا، فإن حركة هذا الشباب وكتل الجماهير وفرت للمجلس الأعلى مشروعية قانونية. ثم تزيد هنا إضافة مؤداها أن العلاقات توترت بين الشباب وبين المجلس أكثر حين جرت إحالات إلى القضاء العسكري دون مبرر، أو على الأقل دون مبرر يمكن تقديره وقبوله. وإحالة مدني إلى القضاء العسكري في حد ذاتها، وبصرف النظر عما يجيء بعدها قرار سياسي، لأنه ينطوي على اعتبار أن المخالفة موضوع القضية جرى نقلها من حيز الإساءة المجتمعية إلى حيز الإضرار بالأمن القومي. وهذا في حد ذاته قرار سياسي في وقت جرى فيه استبعاد منطق الحساب السياسي من الأساس، حتى في شأن جرائم كبرى أثرت فعلا في الأمن القومي، وأنا أتفهم الرغبة في الحسم السريع، لكن مثل ذلك كان لابد له من حل آخر غير الإحالة للقضاء العسكري، إلا إذا ثبت أن هناك ضررا فعليا بالأمن القومي يمكن شرح وقائعه وتوثيقها. على أنه وبسبب عدم الاعتراف فإن الاعتماد كان متبادلا، والفضل في قيام الثورة ونجاحها وحمايتها مشاع بين الجميع. فإن المجلس الأعلى للقوات المسلحة كان معاتبا حيث لا داعي للعتاب، متضايقا حيث لا موجب للضيق. والحقيقة أن هذا المجلس كان يواجه في ناحية أخرى ما لا يشعر به غيره، لأنه في وضع يسمح له بالمعرفة الأدق، وكذلك فإن هذا المجلس كان الطرف الوحيد من الأطراف الثلاثة الذي يواجه الحقائق عارية كما هي على الطبيعة: * يواجه موقفا اقتصاديا واجتماعيا في منتهي الصعوبة، ولا يري الموارد التي تسد الاحتياجات العاجل منها والآجل. * يرى الانفلات الأمني وهو طبيعي في حالات التغييرات الكبرى، وتهاوي سلطة وظهور سلطة أخرى، ولا يجد لديه أهلية التدخل فيها، بمنطق أن سلاح القوات (سلاح قتال)، وليس (سلاح أمن)، وإذا تدخل بسلاح القتال فهو (قتل)، وذلك ما تتحاشاه القوات، وسوف تتحاشاه مهما تكن الظروف، فواجب القوات المسلحة حماية الناس وليس قتلهم، وفي دول العالم كلها فإن الأمن عند الشرطة ووسائلها، وليست عند الجيش وعتاده!! * ومن ناحية أخرى فإن الشرطة ومن وقت مبكر أقحمت ربما بقصد في علاقة عداء مع الناس، وقد استحكمت العقد بين الطرفين، وكان لابد لها من نهاية، إنصافا لفكرة الشرطة وضروراتها وحقوقها، بصرف النظر عما أقحمت فيه ومصائبه. لكن ذلك تأخر في حركة صراع القوى، خصوصا مع وجود قضية هي في الواقع أخطر قضايا هذه اللحظة وأصعبها، تلك هي أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة حدد فترة الانتقال بعدة شهور: ستة شهور زادت إلى ثمانية، في بلد جف فيه بحر السياسة، وماتت الحيوية السياسية فيه، ثم حدث الفوران فجأة، واندفع الطوفان يريد أن يلحق الأجل ويسبقه إن استطاع، وفوق وجه الموج المتدافع عوالق كثيرة ورواسب مما كان قائما على القاع خفيا أو كارثيا. وحدث ـ وهو ما يحدث عادة في مثل هذه الظروف- أن عناصر كثيرة متفرقة ومتباعدة ومختلفة ومعظمها طاف على السطح بلا جذور في العمق، هرولت تتسابق بأقصى سرعة لتلحق بأجل محدد وقريب، ولم تتردد في استعمال كل الوسائل لكي تسبق غيرها إليه، وكذلك دخل التخويف سلاحا، والإرهاب سلاحا، والتخوين سلاحا، والشتم سلاحا، بل ولسوء الحظ فإن الدين دفع به إلى الساحة ضمن الأسلحة، ولولا لمحة من العقل تجلت في وثيقة الأزهر الشريف لوقعت إساءة إلى الجلال الذي يجب أن يحيط بقدسية الدين ورسالته الهادية والتنويرية. > بالإضافة إلى ذلك كله فقد كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو الأقرب إلى مواجهة أوضاع إقليمية في منتهي الصعوبة والتعقيد، وإلي أوضاع دولية في منتهى الخطورة والتهديد. (وهذه صورة نعود إليها فيما بعد بالتفصيل). وكانت المشكلة أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة وجد نفسه أمام تحد لم يستعد له أو يخطط، والجيوش عادة مؤسسات نظامية ترتب نفسها على احتمالات معروفة لديها سلفا، وتضع في خزائنها السرية خططا جاهزة لمصادر التهديد التي تتحسب لها، لكنها لا يمكن أن تكون مطالبة بالتحسب والتخطيط لمجهول لم يكن في حسابها ولا حساب غيرها. وهنا فإن بعض الظواهر تحكمت واستحكمت: 1 - إن المجلس الأعلي- كما يبدو لمراقب مثلي من بعيد- لا يريد أن يبت في مشكلة حقيقية، وإنما يعتمد سياسة تأجيل المشكلات أو ترحيلها، بمقولة انتظار من يملك شرعيا ودستوريا مسئولية القرار فيها عندما يجيء وقته. 2 - إنه لا يكف فيما يقول به عن تعجل الأيام لتسليم السلطة، لأنه لا يريد للقوات أن تتصل بالحياة المدنية وليونتها وتفقد قدرتها على خشونة شن الحرب. 3 - إنه ينتظر من المدنيين إذن أن يتحملوا مسئوليات كثيرة في التعامل مع الظروف ومستجداتها وطوارئها. والمأزق أنه يريد من المدنيين أن يتحملوا بذلك، دون سند وكذلك دون غطاء، فالمجلس يقول ويعلن كل يوم أنه سوف ينسحب في الأجل المحدد، لكن المدنيين المطالبين بتحمل المسئولية عليهم أن يفعلوا ما هو مطلوب وبعضه خطر، ثم أن يتحملوا وحدهم عواقب الخطر بلا غطاء ولا حماية ولا ضمان من مبدأ دستوري أو قانوني ملزم ومحترم، أو من قوة ضامنة وحامية، والمفارقة أن زمن (مبارك) كان يعطي الضمان والحماية للفساد، والآن ليس هناك ضمان أو حماية للإصلاح!! ثم هنا قضية أخرى من أخطر قضايا اللحظة، مؤداها أن كثيرين من المؤهلين على أعلى مستوى، والقادرين بالتجربة والكفاءة اعتذروا حين عرضت عليهم الخدمة العامة في هذه الظروف، لأن المطلوب منهم كما قلت خطير، لكن عليهم أن يقوموا به دون سند أو غطاء أو حماية، وإذا كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة نفسه سوف ينسحب بعد شهور، فكيف يمكن لمدني أن يؤدي دورا بالجسارة المطلوبة- إذا كان بعد شهور قليلة سوف يواجه سلطة لا يعرفها من قوى معظمها بلا جذور، وفي ظروف عاصفة لا أحد يعرف مصادر رياحها، ولا سرعة حركتها، ولا طبيعة المسئولين عنها!!! تتصل بذلك نقطة مهمة وهي أن الظروف التي مرت بها مصر في السنوات الثلاثين الأخيرة على وجه الخصوص، لم تؤد إلى جفاف بحر السياسة فحسب، وإنما أدت إلى ضحالة شديدة في كل شيء، بما في ذلك كفاءة الإدارة التنفيذية. وفي العادة فإن بعض البلدان في مواجهة فترات التحول تستعين بخبرة أجنبية. كذلك فعل> محمد علي> في مشروع القناطر الخيرية مثلا- وكذلك فعل> جمال عبد الناصر> في مشروع السد العالي في مثال آخر. والخبرة الأجنبية في هذه الظروف الدولية قد تكون موضع شك أو شكوك، لكن السؤال هل كان ممكنا تعويضها بمصريين من الخارج؟! وفي تجربتي شخصيا فقد حضرت ذات يوم مؤتمرا للخريجين العرب من الجامعات الأمريكية عقد في (شيكاجو)، وهناك عرفت أن في الولايات المتحدة وحدها قرابة ربع مليون رجل وامرأة يحملون شهادتي الدكتوراه والماجستير، وقد بقوا هناك ولم يعودوا بسبب ظروف طاردة أحسوا بها في الوطن المصري، لكنهم هناك موجودون في أرقى الجامعات، وبعضهم في أرقى المناصب، ولديهم أعلى مستوى من الخبرة، وبعضهم على استعداد لأن يخدم وطنه الأم، لكن بعض الناس في الوطن لا يريدون، بدعوي ازدواجية الجنسية، أو بدعوى الزواج من أجنبية، وهذه بالضبط حالة رجل مثل> أحمد زويل> وغيره آلاف وعشرات ألوف على بقاع الدنيا، وذلك مدد إنساني وذخيرة بغير حدود، لأن معظم هؤلاء يتمنون لو استطاعوا أن يردوا الجميل للوطن الأم!! والملخص أننا في حاجة إلى خبرة من الخارج، تعوض تآكلا في الداخل أصبح مخيفا!! لكننا لا نستطيع استخدام خبراء أجانب. ثم إننا لا نريد مصريين من الخارج. ثم إن الأكفاء داخل مصر عرايا من غطاء مدني أو سياسي يسند ويحمي. وتلك معادلة غريبة، مؤداها أن تظل أحوال الفراغ تدور حول نفسها حتى تصاب بالدوار وتقع على الأرض!! وتلك كلها وغيرها مسائل لا يريد المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يبت فيها أثناء فترة الانتقال، بفهم أن فترة الانتقال عابرة، في حين أن فترة الانتقال في أي مفهوم طبيعي- هي فترة تؤسس لما بعدها، وتمهد طرق التحول، وهو بداية طريق جديد. كل ذلك شكل أزمة، لكن الأزمة زادت عليها مضاعفات أشد خطورة، فقد كانت الأزمة ثلاثية الأطراف، فإذا هي تصبح مضاعفة عدة مرات، لأن أطرافا إضافية دخلت إلى الساحة وزادت من أثقال حمولاتها. ويستكمل الأستاذ صورة اللحظة الراهنة قائلا: كانت هناك ثلاثة أطراف تتحرك في الحالة الثورية المصرية وتعقيداتها، وزاد عليها بعد الثورة أطراف مستجدة، وكان الأمل أن تكون زيادة عدد الأطراف بالإيجاب، لكنها لسوء الحظ أضافت إلى العقد أكثر مما ساعدت على حلها. أولى الزيادات التي جاءت إلى الموقف المعقد وزادته تعقيدا كانت أوضاع السلطة التنفيذية. كانت الظروف والضرورات تستدعي أقوي الوزارات في تاريخ مصر لمواجهة واحدة من أصعب مراحل تطورها، لكن الوزارات التي جاءت أقل من المطلوب، دون إغفال لقدر أحد من المشاركين فيها. الأولي: كانت وزارة (أحمد شفيق)، والرجل صاحب همة أقدرها له بصرف النظر عن اختلاف المواقف، لكن الرجل جاء متأخرا فلم يعط ما عنده، ثم إنه بدأ حين جاء بصرف وقته في أحاديث ولقاءات صحفية مستفيضة، وفي مقابلات ومداخلات تليفزيونية بالساعات، وقد كنت أتساءل مرات متي يكون لديه وقت للعمل، والغريب أنه بقدر ما اعتمد على التليفزيون ليؤثر به، كان التليفزيون هو الموضع الذي تعثر فيه وسقطت عليه وزارته، ثم إن الرجل كذلك لم يكن موفقا في خياراته لمعاونيه، وربما لم يكن له دخل في اختيارهم، وربما، وربما، لكن العهد لم يطل به، والرجل ـ برغم كل ما يشاع عنه صاحب تجربة عسكرية ومدنية لها قيمتها، ثم إنه ليس صنيعة (مبارك) كما يتصور كثيرون. ولعل تاريخه السياسي كان يختلف لو أن الفرصة التي واتته لرئاسة الوزارة وصلت إليه في ظرف مختلف، وفي كل الأحوال فإن الرجل لم يبق في الرئاسة غير أسابيع، ثم نزل الستار فجأة، وانطفأت أضواء التليفزيون، واختفت وزارة (شفيق)!! وجاء الدور على وزارة الدكتور (عصام شرف)، وقيل للناس وفي بعض القول مسحة صدق إنه جاء من الميدان، أي ميدان التحرير، ومع أنه ليس من شأن الميدان أن يختار رؤساء الوزارات، فقد أشيع أن جماعات من الشباب رشحته للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي علم واستجاب. وأنا شخصيا لا أعرف الدكتور (عصام شرف)، وإن سمعت الكثير عن دماثة خلقه، لكني في نفس الوقت أستطيع من بعيد قياس أداء وزارته، ورغم وجود عدد من الشخصيات لها قدرها في نظري ضمن فريق فإن الأداء في مجمله غير مقنع، خصوصا في مثل هذه الظروف. وفي كل الأحوال فإن السلطة التنفيذية التي كان عليها أن تعوض أوجها للقصور في الصورة العامة أصبحت هي نفسها جزءا من المشكلة، بدلا من أن تكون جزءا من الحل. ولست أريد أن أظلم الدكتور (شرف) بغير داع، فأنا لا أعرف ما هي علاقته مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولا درجة الانسجام بين وزرائه، ولا سلطة مجلسه في رسم سياسات المرحلة، وما يبدو لي من بعيد أنها هي الأخري تحت وهم أن مرحلة الانتقال مساحة فراغ بين ضفتين، وذلك خلاف لمنطق الانتقال حين يكون المطلوب هو بناء جسور للتحول. ولكي تزداد الصورة اتساعا وعمقا فتح الأستاذ ملف الاعلام وقال: وأصل إلى زيادة أخرى نفذت الي صميم الأزمة، وأقصد هنا الإعلام، وأريد أن أقول بوضوح إنني لم أعرف لنفسي طوال حياتي وعلي امتداد عملي- مهنة أخرى غير الصحافة، ولم أرض بديلا عنها، حتى لو كان أكبر المناصب في الدولة، وإذن فإنني منحاز للمهنة ولحريتها بغير حدود- لكن أمانة المهنة حتى قبل أمانة الحقيقة تفرض على أن أقول أن الإعلام المصري ليس موجودا حيث يتمني له أصدقاؤه وأحبابه، والدليل دون مكابرة أن قوة التأثير فارقته، وتوجهت إلى غيره، وقد ساعد عصر(مبارك) على ذلك الفراق رغم وجود مساحة من الحرية ـ لابد من الاعتراف بها ـ صنعت نجوما يستحقون إعجاب قرائهم ومشاهديهم. لكن هناك مشكلة غائرة لا يريد أحد أن يتحدث فيها، وهي ملكية وسائل الإعلام. ما يسمى بالإعلام القومي مرئيا ومسموعا ومقروءا واقع في أزمة، لأنه لا يعرف لنفسه صاحبا، وعندما تقدم إليه من ادعي بالملكية- مثل مجلس الشورى مثلا في وقت من الأوقات- فإن الاقتراب من الإعلام جاء فجا، وأحيانا بذيئا!! ومن ناحية أخرى فإن الإعلام الخاص- مع درجة من الفوران لا يصح إنكارها- مملوك بالكامل- تقريبا- لرءوس أموال لها مصالحها، وأستحيي أن أذكر الأسماء، فقد يكون في ذكرها شيء من الاستعداء أو الإساءة، لكن علينا أن نتذكر مقولة شهيرة ملخصها: «قل ما هي مصالح أي رجل، وأنا أقل لك ما هي أفكاره!!». أي أنهم جميعا أصحاب مصالح يريدون حولها سورا واقيا من النفوذ والتأثير. ويشير بعضهم في صدد مناقشة هذا الموضوع إلي> روبرت ميردوخ> صاحب شبكة (سكاي)، وصاحب أكبر الجرائد في أمريكا وأوروبا، لكن علينا أن نتذكر هنا مسألتين: الأولى: أن( ميردوخ) لا يستثمر أمواله في غير الإعلام بأنواعه، من الحرف إلى الصورة، ومن الصحيفة إلى الشبكة، وإذن فقصارى مصالحه هو الترويج، ومع ذلك فقد دفع به طلب الترويج إلى حافة الجريمة بجرائد يملكها وتحقق سبقها بالتنصت على شبكات التليفون المحمول لنجوم السياسة والمجتمع والرياضة، وهو داخل اليوم للمساءلة القانونية لهذا السبب، كما دخل من قبله أحد كبار ملاك الصحف وهو اللورد كونراد بلاك- أحد أصحاب مجموعة التلجراف. وفي المقابل فإن الإعلام المصري الخاص بغالبيته الساحقة مملوك لاستثمارات تعتبره وسيلة لمصالح أخرى، وبصراحة فإن (ميردوخ) ليس داخلا لا في أراض، ولا في صناعة، ولا في مقاولات، ولا في الصادر والوارد، وإنما استثماره في رواج وسائله الإعلامية. الثانية أنه مع أن (ميردوخ) متورط إلى أبعد مدى في التأثير على القرار السياسي خصوصا في الولايات المتحدة وفي بريطانيا بهدف النفوذ السياسي، فإن رجال الأعمال في مصر ممن يهتمون بالإعلام يفعلون ذلك لتعظيم مكاسبهم وأرباحهم في تجاراتهم وصناعاتهم الخاصة، وكذلك طلبا لنفوذ يحمي المصالح وأصحابها. وذلك أمر يحتاج إلى مراجعة، لأن الإعلام الخاص- كما الإعلام العام- دخل طرفا في تعقيدات الأزمة ومستجداتها، وأضيفت إلى الخلط المتراكم شحنة أخرى، واصلة للناس بحمولاتها كل صباح، مؤثرة عليهم بذات الهم كل مساء، والهم آخره كابوس مخيف حتى وإن بدا في أوله حلما جميلا!! ولست أريد قيدا على الإعلام الخاص، ولكني أتمنى أولا شفافية معلنة في الملكية، ومسافة واضحة بين الملكية والتحرير- مسافة محققة وقانونية وعاقلة، وهذه مشكلة واجهتها الصحافة البريطانية وغيرها، في الفصل بين الملكية والتحرير، وبين مصالح المال وقرار السياسة!! وربما أن التجربة الإنجليزية تستحق الدرس!! وأتذكر أنني حضرت اجتماعا أول الستينيات في مقر جريدة التايمز، وفي مكتب دنيس هاميلتون رئيس التحرير في ذلك الوقت. وكان بين حضوره هارولد ماكميلان رئيس وزراء بريطانيا وقتها واللورد روي تومسون الذي كان يتفاوض لشراء صحف التايمز والصنداي تايمز. وأتذكر أن رئيس الوزراء البريطاني وهو هارولد ماكميلان راح امامنا يقول لتومسون: أن الرأي العام البريطاني لن يقبل أن تكون جرائده مجرد ملكية رأسمال وإنما سوف يسألنا الناخبون عن القيم والقواعد التي تتصل بالتأثير على الرأي العام ودقة معلوماته. ونظر ماكميلان الي اللورد تومسون وهو يخاطبه باسمه الأول: روي.. الصحافة ليست سوقا. ثم كرر القول بقصد التأكيد مرتين. ولاأريد أن أتزيد ولكن قد أتجاوز وأقول إن هناك نشاطا واسعا بشأن ملكية وشراكة وسائل الإعلام المصرية يجري الآن في لندن، بل وهناك اشارات من أصحاب الصحف من داخل طرة.. هل أضيف أيضا أن3 رجال وليس أكثر يتحكمون اآن في الاعتمادات التي تخصص للاعلان في مصر وحجمها يقارب المليار جنيه. وهذه الاعتمادات الاعلانية وفي غيبة مقاييس علمية لتخصيص الاعلانات تستطيع انجاح صحف وفضائيات وتستطيع اعدام صحف أخرى وفضائيات، وهذه قضية تحتاج إلى حسن تقدير قبل أن تحتاج الى تسرع في الاجراءات وحملات كراهية ضد المسئولين عنها بلا لزوم.ويبقى الجانب القانوني بشقه السياسي الذي لم ينسه الأستاذ وقال: هناك عنصر آخر شديد الحساسية وهو يتمثل في الإسراع إلى تصدير دور القانون، حيث كان الواجب أن يتصدر، لأن السياسة حاولت أن تتجنب الحرج. والذي حدث أنه حين وقعت الثورة كان قانون التاريخ قبل أي قانون يفرض حسابا وجزاء، لأن ما تعرض له هذا البلد من أهوال كان من صنع السياسة، وكذلك كان الحساب والجزاء المطلوب قبل غيره هو الحساب السياسي. وكان مطلوبا من السياسة أن تدقق في جوانب ما جرى في الداخل وفي الإقليم والخارج. وكلها مجالات مرشوقة بجرائم كبرى، وكان يجب بعد التدقيق أن يحدث فرز يحيل ما هو سياسي إلى هيئة قادرة ومخولة لمناقشته وطرحه على الناس، وتبيان أوجه الخلل فيه، والحساب عنه كجرائم سياسية، بما في ذلك جريمة تطويع القوانين والتلاعب بها، وتفصيلها لحساب غرض وهوى. وفي الوقت نفسه فإن ذلك لا يمس ولا يصح أن يمس كل الوقائع المحققة جنائيا، أي التصرفات التي تورطت في الفساد واستباحت حرمة المال العام، وتعودت استغلال النفوذ، ونهب الموارد، وانتهاك حقوق الإنسان وغير ذلك من الآثام والخطايا. كل تلك جرائم جنائية يتصرف حيالها القانون، وبالإجراءات العادية والطبيعية. بمعنى أن العدوان على قيم النظام الجمهوري أكبر من أن تكون المحاسبة عليه بدعوى ملكية بيت هنا أو بيت هناك. ما يمس النظام الجمهوري في حيز السياسة، والفساد وإلافساد حتى إن تغطى بنص في حيز النيابة وتحقيقاتها وسلطاتها. لكن المجلس الأعلى فيما يبدو أراد إعفاء نفسه من مشكلة الحساب والجزاء، وكذلك جرى ترك كل شيء إلى النيابة العامة، وإلى جهاز الكسب غير المشروع، ووجد النائب العام وزميله في جهاز الكسب غير المشروع أنفسهم أمام طوفان من البلاغات، بعضها جدي وبعضها كيدي، وهو أمر طبيعي في مثل تلك الأحوال. ثم إن بعضها سياسي ليس في اختصاص من أحيلت إليه، كما أن كثيرا منهم ارتكب جرمه الفادح في حماية نص قانوني مصنوع لهذا الغرض. وإذا كان قرار السياسة قد أراد إعفاء نفسه من الحسم، في هذه المسألة الكبرى فإن النيابة العامة وغيرها من أجهزة التحقيق القانوني لم تجد بدا من حماية نفسها بالنظر في كل شيء خصوصا وهي تريد أن تنفي عن أجهزتها شبهة ممالأة النظام السابق وتضمن توسيع وتسرع الإجراءات لتجنب الوقوع في الخطأ مع لحظة بدا فيها وكأن ما يجري مطاردة للساحرات كما يقولون في تاريخ أوروبا قبل النهضة، عملية Witchhunt، وكانت هذه العملية فادحة التكاليف على مؤسسات كبيرة وعلى اعصاب رجال ونساء وعلى سمعتهم، وربما أنها كانت من الأسباب الرئيسة في تعطل صدور قرارات كثيرة في مجالات بعيدة، سواء في مجالات الأمن أو الاقتصاد، لأن كثيرين لم يرضوا لأنفسهم أن يعيشوا تحت سيف بلاغ يتصرف فيه من يتلقاه بالإجراءات أولا، ثم يجري تعليق مصيره حتى يجيء دور التحقيق في شأن ما وجه إليه. ثم زادت حمولة أخرى. في هذه الأجواء وما حولها فإن عناصر كثيرة وجدتها فرصة لتستولي على الشارع، جماعات ذات أهداف سياسية متباينة، وأيضا ذات مقاصد ونوايا مختلفة، لكن الأخطر أن هذا الزحام أوجد مسرحا لانفلات أمني كما يقولون وحتى لجرائم من النوع العادي، وفيه قطع الطرق، والسطو المسلح، والابتزاز، واستبيح الشارع لأغراض متصارعة، وهذا كله طبيعي عرفته الثورات، بل إن هذا الانفلات كان هو سبب ظاهرة’ نابليون’ التي جاءت لوضع حد للفوضي، وكانت نتيجة تدخل’ نابليون’ هي الاستيلاء على الجمعية الوطنية الفرنسية ذاتها، لأن هذا المحفل العريق سيطرت عليه في النهاية مجموعات متشددة- إرهابية- دموية- انتهازية، وأصبحت قاعة الجمعية الوطنية ذاتها مسرحا ضاع فيه الصالح مع الطالح، وذاب فيه الثوري مع الدموي، وتصدر فيه الفاسد وهو ضد الثورة عمليا، لكنه بالصوت العالي أخذ منبر الجمعية الوطنية واحتكره، وأبعد عنه كل صوت للحق والمبدأ. ولقد شاهدت بعيني سواء على الطبيعة أو في الصور مشاهد لا تصدق مما يجري في الشارع المصري، وكان شعوري أن القائمين بها لا ينتمون إلى الثورة، وأخف الضرر فيما يفعلون أنهم يعطون الذريعة والمبرر لكل المطالبين بالقمع والقهر، بمقولة الاستقرار والأمن. وفي هذه الأجواء لم تكن مصر داخل أنبوبة معقمة، كان العالم حولها مليئا بالقوى، التي وجدت في حالة السيولة والفوضى- فرصة تمد إليها أصابعها، تحاول أن تأخذ، أو تحاول أن تبث، أو تحاول أن تطوع. بعض التدخل الخارجي جاء من قوى كبرى وجدت في الربيع العربي الذي فاجأها في’ تونس’ و’مصر’ فرصة نادرة للاستغلال، وكذلك فعلت أمريكا وفرنسا وإنجلترا، وكلها رفعت ألوية حق يراد به باطل، ثم جاء هذا التدخل أيضا من الإقليم، فقد كان في الجوار المباشر وغير المباشر من المتدخلين كثيرون، وأعرف لسوء الحظ أن ملايين من الدولارات وصلت إلى من لا أعرف، وملايين أخرى أشك أنه وقع’ دسها في جيوب ناقليها’ قبل أن تصل إلى عناوينها، وذلك فصل من أغرب الفصول في قصة الربيع العربي. وان كان لايصح معها القاء التهم جزافا، وعلى أي حال فقد عرف التاريخ الانساني من قبل تجارة في دم الناس وفي بيع وتهريب السلاح وتجارات في فضائل العفة والاخلاق باغراءات الجنس، كذلك عرف التاريخ تجارة في عواطف وآمال وطموحات الشعوب والأمم. اننا استعرضنا معا صورة لملامح المشهد العام ودعونا نتذكر مرة أخرى ونحن نناقش مناخ الربيع المصري والربيع العربي أنه حتى وإن بدا لنا أن مانراه الآن ليس ربيعا بالضبط فلنذكر أن الخماسين- عواصفها ورمالها وترابها وعتمة الليل عند الظهر أثناءها- هي ظاهرة موعدها الربيع ولذلك فلنقل انه الربيع لايزال.. لكنها هذه اللحظة موجة خماسين. والآن ما العمل؟! وهنا أترك لكم الحوار تديرونه كما ترون.[c1](يتبع يوم الإثنين القادم)
ليـس ربـيعـا عـربـيـا بـــــــــــل سـايـكس ــ بـيـكو جـديـد (1- 3)
أخبار متعلقة