نبض القلم
كان كفار مكة قد ضاقوا ذرعاً بمحمد صلى الله عليه وسلم عندما رأوا دعوته بدأت تأخذ طريقها للانتشار سراً في أوساط المجتمع المكي ، فاجتمعوا للمشاورة في درء الخطر الداهم الذي يتخيلونه نازلاً بهم في مستقبل أيامهم إذا تركوه يستمر في نشر دعوته . فعقدوا اجتماعاً في دار الندوة ليتدبروا أمرهم ، حيث شعر كفار مكة أن الدعوة المحمدية تهدد مواقعهم وتؤثر إزاحتهم عن مكانتهم الاجتماعية ، وانتهت مشورتهم إلى الأخذ برأي أبي جهل الجهنمي ، القاضي بأن يؤخذ من كل قبيلة شاب قوي جلد ، ويعطونه سيفاً باتراً ، وطلبوا إليهم أن يلتقوا جميعهم عند دار محمد فإذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمه بين القبائل ، ليعجز قومه عن الأخذ بثأره ، فيضطرون لقبول ديته . وبينما هم في تدبيرهم الشيطاني لم تكن القوة التي تجابههم قوة كبيرة ، وإنما هي قوة صغيرة تتمثل في عدد محدود من المؤمنين لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، ولكنها يد الله التي لا غالب لها.لقد شاءت إرادة الله تعالى أن يكون إلى جوار النبي محمد صلى الله عليه وسلم بضعة نفر مخلصين وقفوا على جانبه وِآزروه في أصعب المواقف وأحرجها ، وليس هناك موقف أصعب من الكمين الذي دبره كفار قريش لغرض قتله والخلاص منه ومن دعوته ، في الليلة التي عزم فيها على ترك مكة والهجرة إلى يثرب ، للنجاة بدعوته والخلاص من مكائد قريش ومؤامراتها.لقد أمره الله بالهجرة ، وألهمه الاعتماد على الله في رحلته ، ثم على بضعة نفر من أصحابه والمقربين له، الذين كان لهم عظيم الأثر في نجاح رحلته ، وتجاوز المخاطر المحدقة به في أثنائها.وكان أبوبكر الصديق هوأول هؤلاء الرجال الذين ساعدوا في إنجاح رحلة الهجرة ، لقد عرف بثاقب رأيه أن النبي محمداً لا بد أن يهجر مكة ذات يوم لكثرة الأذى الذي يتعرض له ، فراح يستعد لهذه الهجرة فاشترى راحلتين قويتين وراح يعلفهما بأحسن الأعلاف ليزدادا قوة على قوة ، دون أن يعلم أحد بما دبر وكأنه كان يعلم أن محمداً سيختاره دون سواه لمرافقته في هجرته ، وكان نعم الرفيق ويأتي بعد أبي بكر في إنجاح رحلة الهجرة غلام حدث ضرب مثلاً نادراً في التضحية والفداء ، ذلكم هو علي بن أبي طالب الذي قبل طائعاً مختاراً أن يتغطى ببردة النبي وينام مكانه حتى إذا جاء محاصروه من الكفار ، ونظروا إلى الداخل فظنوا أن النبي موجود في مكانه ، فاكتفوا بالانتظار حتى الصباح لينقضوا عليه عند خروجه فأفشل بذلك خطتهم الجهنمية.وهناك رجل ثالث كان له عظيم الأثر في إنجاح رحلة الهجرة ذلكم هو عبدالله بن أبي بكر الذي كان يتردد على نوادي قريش ليرصد أخبار المشركين ويبلغها للرسول وصاحبه ، ليأخذا حذرهما ضماناً لعدم تمكن قريش من الوصول إليهما.وهناك دور مهم كان لأسماء بنت أبي بكر التي كانت تعد لهما الطعام وتحمله إليهما في عتمة الليل ، آخذة حذرها من أن يراها أحد.ولا ننسى دور أبي بكر عامر بن فهيرة راعي الغنم الذي كان يأتي إليهما كل ليلة بالغنم ليحتلبا من لبنها ، ويذبحا منها لزادهما والأهم من ذلك أن تلك الأغنام كانت تمحو آثار أقدامهما، حتى لا تهتدي إليهما قريش.وهناك مهمة قام بها عبدالله بن أريقط لا تقل أهمية عن مهام غيره من المشاركين في إنجاح الهجرة النبوية ، والمتمثلة في خبرته وحذقه بمسالك الطريق ، ومعرفته بالدروب والفيافي والقفار الموصلة إلى المدينة، فأ ستطاع بذلك أن يوصلهم بسلام .ومن يقرأ السيرة النبوية الشريفة يجد أن أدوار كل واحد من هؤلاء مكملة لأدوار غيره ، وبتكامل الأدوار نجحت الهجرة ووصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بسلام ، رغم أن رحلته كانت محفوفة بالمخاطر .وينبغي في هذا الشأن أن نتذكر ما قام به سراقة بن مالك ذلك الرجل الخبير باقتفاء الأثر والمتمرس في قص الأثر وقد كان الرجل يمني نفسه في الحصول على جائزة قريش التي خصصتها لمن يأتيهم بمحمد حياً أو ميتاً ، حيث تمكن الرجل من اللحاق بالركب ، مع أن راحلته كانت تتعثر في الطريق، وكان بإمكانه الإمساك بالنبي ورفيقه إلا أن تعثر جواده حال دون الإمساك بهما، فقد رأى الأرض تبتلع قوائم جواده ، ولم ينفع كل محاولاته إنهاض جواده ، فأضطر للاستغاثة بالنبي وصاحبه وأعترف لهما بالمهمة التي كان مكلفاً بالقيام بها ، وطلب منهما الأمان وأعطياه ما طلب وعاد بعدها ليقص على قريش ما جرى له فكان ذلك سبباً من أسباب إيمانه ودخوله في الإسلام.[c1] خطيب جامع الهاشمي الشيخ عثمان[/c]