[c1]د. احمد عبدالله صالح[/c]فوجئت صبيحة يوم صيفي قائض وانا اطالع احدى الصحف المحلية بنبأ وفاة الاخ والصديق الثائر احمد غالب سيف بن حلبوب، وذلك من خلال نشر احدى التعازي بوفاته فما ان وقع نظري على تلك التعزية حتى اصبت بالحيرة، والذهول ففيما تسمرت العينان أمام تلكم التعزية فان أصابع اليدين تيبست، ووقفت جميعها عاجزة عن تقليب الصفحات جرياً على العادة، وما أظن ان مرض الاعتلال العصبي والتهاب العصب السكري هو السبب فانا أطالع الأيام صبيحة كل يوم، فذلك ربما بسبب هول الفاجعة، وفداحة المصاب فقد وجدت نفسي أتمتم بطريقة لا شعورية واردد البيت الشعري الشهير ستنبئك الأيام بما كنت جاهلاً وتأتيك بالأخبار ما لم تزوديا له من نبأ شديد القساوة والألم فقد أثار حزني وأشجاني وبعث في نفسي لواعج الشوق لمتابعة أخبار من تبقى على قيد الحياة من صحبة الكرام، وهم كثر، يتقدمهم الشيخ الجليل الحبيب احمد قاسم راجح أطال الله في عمره.كانت المفاجئة وياليتها ما كانت فقد شعرت معها بندم وأسف لا نظير لهما، لأسباب كثيرة أهمها انقطاعي عن الصديق احمد غالب سيف لفترة تزيد عن عشرين عاماً، فلا أنا أعرف أين استقر به المقام وربما هو أيضاً لا يعرف عني شيئاً، فبعد أن تفرقت أيادي سبأ فلم يعد هذا يعرف عن ذاك شيئاً ولا العكس أيضاً.لا أخفي ان حالة الندم التي شعرت بها تعود إلى عامل المفاجئة التي كانت بمثابة كرة من نار القيت على وجهي من غير سابق انذار، وثانياً إلى شعورى بالتقصير إزاء هذه الشخصية الفذة والهامة العالية المعروفة باحمد غالب سيف بن حلبوب اليافعي.ليس من الصواب الاستنتاج مما سبق انني أعني أو ادعي بأنني رفيقه في الكفاح من أجل حرية الوطن واستقلاله، فقد سبقني إلى هذا الشرف الرفيع بسنوات عديدة فأحمد غالب سيف كما يشهد له العديد من زملائه ورفاقه كان واحداً من الرعيل الأول من الوطنيين الذين حملوا أرواحهم على أكفهم، وقارعوا المحتلين البريطانيين بما أستطاعوا إلى ذلك سبيلا، أما أنا فحسبي أنني كنت في تلك الأيام مجرد طالب في الصفوف الدراسية لا أقل ولأ أكثر حتى وان عرف العديد من الأصدقاء انني اليوم أدلف في السنة الخامسة والخمسين من عمري، فأن هذه الحقيقة لا تغير من جوهر الأمر شيئاً يذكر، ففيما كان احمد غالب بن حلبوب يتنقل راجلاً من جيل إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى يحمل الزاد والعتاد لثوار ردفان الميامين، كنت اتنقل من مدرسة إلى أخرى بين الضالع وقعطبة، وفي احدى المرات إلى مدينة تعز الزاهرة، ولكن بحثاً عن الدرس والكتاب، لا عن القنبلة والبندقية التي كان يبحث عنهما المرحوم احمد غالب سيف وأمثاله.وهذا ما كنا نحن معشر الطلاب نحسدهم عليه، مع انهم أي احمد غالب وأمثاله من الثوار كانوا يبحثون عن القنابل والبنادق لا حباً في أدوات الموت هذه، ولكن لأنهم كانوا يرون فيها وسيلة ملائمة لمقارعة الاحتلال وإرغامه على الرحيل من ديارنا.وعودة على بدء فأن معرفتي بالصديق المرحوم احمد غالب سيف تعود إلى السبعينات من القرن الماضي، حيث عملنا معاً وأقمنا صداقة رسخت مداميكها رفقة العمل المشترك في الإدارة المحلية في محافظة لحج الخضراء يومها كان الأخ احمد غالب يعمل نائباً للمأمور في مديرية حالمين، وأنا أعمل مساعداً لسكرتير محافظ المحافظة، هذا العمل المشترك ساعدنا على التعرف على بعضنا البعض عن قرب، فالأخ احمد غالب بن حلبوب كان الأكبر من حيث السن والأغنى من حيث التجربة والخبرة، فقد عرفت فيما بعد انه استطاع أن ينال قدراً لا بأس به من التعليم بجهد ذاتي حيث التحق كما قيل لي بالمعلامة وتعلم فيها أصول القراءة والكتابة ودرس علوم القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، هذا فضلاً عن انه استطاع ان ينال ولو قدراً مناسباً من المعارف السياسية بحكم تنقله بين المراكز الحضرية وتحديداً مدينة عدن، التي كانت حاضرة اليمن شمالاً وجنوباً، وكذلك مدينة تعز وهي مدينة حضرية أيضاً، وكانت في التاريخ القديم عاصمة الدولة الرسولية، وفي سنوات حكم الإمامة مثلت حسب راي عاصمة ثانية للمملكة المتوكلية اليمنية. هذه العوامل وغيرها ساعدت المرحوم احمد غالب على تنمية معارفه العلمية والسياسية أو التي تضاعفت أكثر بعد ان انخرط بالعمل السياسي، سواءً في الجمعيات الخيرية وجمعيات الإصلاح بين ذات البين في يافع أو في التكوينات الأولى للحركات القومية والوطنية في اليمن وهكذا تكونت شخصية الأخ المجاهد احمد غالب سيف وأكسبته صفات القائد والإنسان.وللقارئ ان يتصور الظروف العصيبة التي تولى فيها المرحوم احمد غالب سيف مسؤولياته الإدارية في مديريات ردفان وتحديداً في مديرية حالمين التي كانت تفتقد لمبنى إداري ملائم وتفتقد لأدنى واقل مستلزمات العمل الإداري، فلا وسائل للنقل ولا نفقات تشغيلية ولا نثريات أو بدل انتقال والمكاتب التي بنيت على عجل سميت مكاتب مجازاً لأنها اقرب إلى المحراس الذي يبنيه المزارعون أطراف مزارعهم (ديمة) ومع ذلك فانها كانت عارية من الاثاث المكتبي الضروري جداً لأي عمل إداري، وان وجدت طاولة أو أكثر فانك لا تجد ما تجلس عليه، ولا سبيل أمامك إلا أن تظل واقفاً كي تكتب أو تتحدث مع هذا أو ذاك من المواطنين، ولا أخفي ان بعض الموظفين الإداريين في المحاكم مثلاً استخدموا صفائح الغاز الفارغة "التنك" للجلوس عليه وكتابة الدعوى والإجابة وتدوين الأحكام والوثائق سواءً الأحكام الشرعية أو العرفية التي يصدرها القضاة المعنيون.ومع ذلك ظهرت صعوبات كبيرة في الاحتفاظ بتلك الوثائق والمراسلات المتبادلة لغياب مستلزمات ومتطلبات الأرشفة والتوثيق سواءً لدى إدارة نائب المأمور أو لدى المحاكم وقد عرفت يومذاك من بعض كتبة المحاكم ان الشوالة أو الجونية او الصناديق الخشبية والشنط الحديدة المستعارة في معظمها من القوات المسلحة الشعبية هي مكان الاحتفاظ بتلكم الوثائق، اما الدواليب والكباتات والطاولات المتعددة الادراج فالحديث عنها ضرب من المستحيل.ليس هذا الوصف من نسيج الخيال فلهذا الواقع له جذوره الموضوعية لان مديريات رفان جميعها مختلفة عن غيرها من مديريات محافظة لحج لان ردفان وحالمين كانتا في الواقع مناطق محررة ولم يصل إليهما المستعمرون في سنوات الاحتلال البريطاني لجنوب بلادنا،ولم تقم بهما إدارة معينة ولو حتى بدائية وهذا الواقع يختلف عن مديريات محافظة لحج الأخرى مثل الضالع والشعيب وخلة ولحج وطور الباحة وغيرها، ففي الضالع والشعيب وخلة وهي مديريات قريبة من حالمين وجدت فيها نظم واعراف وتقاليد إدارية وكانت أفضل بما لا يقاس من حيث المباني الإدارية المؤثثة بشكل مناسب ففي الضالع مثلاً كان يوجد مبنى إداري مناسب جداً بمعايير الزمان والمكان واستطاع المسؤولون عن السلطة المحلية في الضالع ان يستفيدوا استفادة قصوى مما ورثوه من الإدارة القديمة التي رحلت مع رحيل الاحتلال وما أذكره هنا ارشيف إدارة المأمور في الضالع كان أفضل من أرشيف إدارة المحافظة في لحج، فجميع الوثائق والمراسلات والاضابير موضوعه في أماكن أمنة وفوق ذلك فان الإداري الموهوب الصديق عبداللاه مثنى حسين أستطاع ان يفهرس ذلكم الأرشيف وينظمه بأعلى ما يكون عليه التنظيم في وقتنا الراهن.نستنتج مما تقدم ان الوضع في ردفان من الناحية الإدارية وغيرها من النواحي قد كان في غاية السوء قياساً بما كان عليه الوضع في بقية المديريات ووضع ردفان كان موروثاً من المراحل التي سبقت استقلال الشطر الجنوبي من الوطن، وما زاد من صعوبة العمل في مديرية حالمين ان المركز الإداري أي عاصمة المديرية حالمين قد أختير يومذاك على عجل، وتم تحديد منطقة حبيل الريدة كي تكون اصمة المديرية وهي منطقة غير مأهولة وبعيدة عن القرى والبلدان ذات الكثافة السكانية المنتشرة على سلسلة جبال حالمين الشاهقة المترامية الأطراف والممتدة من أطراف مديريتي حبيل الجبر والحبيلين إلى مديرية الشعيب.هذا الواقع اسهم بهذا القدر أو ذاك في إضعاف صلة المواطن بمسؤولي السلطة المحلية في حالمين فالمواطن الحالمي في جبل القضاة وما جاوره أو القرى الحالمية الواقعة ما وراء جبل حرير إذا أراد الوصول إلى نائب المأمور أو إلى ما كنا نسميه الحاكم العرفي او حتى المأذون الشرعي فعليه ان يقطع مسافة يومين مشياً على الاقدام لذلك فان مواطني حالمين كانوا يفضلون البقاء في قراهم وحل مشاكلهم مع بعضهم بالتراضي والصلح إلا ما كان معقداً من تلك المشاكل ومستدعي تدخل السلطة المحلية فأن أصحابها يضطرون مكرهين لا مخيرين على السير راجلين إلى حبيل الريدة والبعض منهم كانوا يختارون ما أصطلح على تسميتها بطريق رأس الرجاء الصالح أي الوصول إلى عاصمة مديرية حالمين عبر الشعيب الضالع أوعبر جبل حرير الضالع وذلك اهون الشرين.ليس ثمة مبالغة في القول ان العمل في مثل هذه الظروف هو بمثابة اقتحام للمستحيل وهو ما افلح في اقحامه بنجاح الأخ المرحوم احمد غالب سيف بن حلبوب اليافعي، ومن الدلائل الهامة على فراسته السياسية والإدارية انه عندما أدرك بقدرته القيادية وخبرته العملية ان القسم الأعظم من مواطني حالمين لا يترددون مثل غيرهم على مركزهم الإداري ولا يكترثون بمتابعة وانجاز القضايا والمشاكل التي تخصهم إلا لماماً قرر بن غالب سيف الرحيل إليهم والوصول إلى قراهم كاسراً القاعدة التي تعارف عليها الناس والقائلة ان صاحب الحاجة معنى بالطلب أي انه كان بمقدوره ان يظل قابعاً في مكتبه بانتظار القادرين على الوصول إليه لعرض قضاياهم ومشاكلهم لكنه اثر أن يصل إليهم في قراهم وبلداتهم مهما كان ذلك عسيراً وشاقاً، وهذا عمل لا يقدم عليه إلا قائد متواضع يتمتع بالشعور بالمسؤولية تجاه عمله ومواطنيه.لم تكن تلك الرحلات المكوكية التي كان يقوم بها نائب مأمور حالمين بين الفينة والأخرى إلى حيث يقيم مواطنوه من أبناء حالمين الكرام رحلات سعيدة إلا من حيث أهدافها ومهامها أما في الواقع فان الرحلة تتطلب منه صعود جبال شاهقة الارتفاع شديدة الانحدار ومع ذلك مجهول السبل.غير ان بن غالب لم يابه بتلك المصاعب فلديه خبرة في التنقل بين الجبال بكل إرادة وعزيمة للقيام بمثل هذه الرحلات التي كان يقضي في بعضها أسبوعين أو أكثر متنقلاً من قرية إلى أخرى حاملاً امتعته على ظهره رافضاً حتى استخدام الحمير في المناطق التي يمكن استخدامها وفي مناطق وقرى أخرى فلم تنفعه سوى قدماه وعندما يتطلب الأمر تسلق الجبال الأكثر مشقة فانه يستخدم القوائم الأربع.عرفت فيما بعد انه في كل مرة يزور فيها مواطنيه كان يستقبل بترحاب وتقدير رفيعين من جانب المواطنين في جميع القرى التي زارها مع انه لم يأتيهم بأكياس من الذهب والفضة، ومع ذلك كانت اللقاءات جميعها ودية وحميمة فهي من ناحية أكدت اهتمام السلطات المحلية بأوضاع المواطنين، ومن ناحية أخرى فأنها في تقديري شكل انجح من أشكال الاتصال بالمواطنين خاصة وانها أتت بثمارها اليانعة التي تمظهرت بتحشيد المواطنين وتجميعهم للعمل المشترك في استكمال وبناء الفصول الدراسية وشق الطرقات الجبلية لربط مناطق حالمين مع بعضها وتسهيل السيارات ووسائل النقل الأخرى إلى مناطق لا تسير فيها الخحمير إلا بشق النفس.عاد ذات مرة من احدى رحلاته وهو في غاية السعادة فقد كان تجاوب المواطنين مع ما طرحه من هموم وقضايا أكثر مما كان يتوقع ولم يطلب منه المواطنون سوى بعض المواد العينية والضرورية لشق ودك الصخور في هذه الطريق أو تلك أو عند بناء الفصول الدراسية والوحدات الصحية وكون ابناء حالمين في كل جبل وسيلة قد خرجوا إلى هذه المشاريع زرافات ووحداناً فان ذلك كان مبعث سعادته وفخره بعمله أما أنا فقد كانت سعادتي كبيرة عندما أخبرني انه عندما وصل إلى جبل حرير في طريق عودته إلى مقر عمله حرص على أن يسأل على منزل الأسرة وان يزور والدي المرحوم عبدالله صالح حسن وهذا جميل لم انساه للصديق احمد غالب سيف لانني رأيت في موقفه الإنساني هذا دلالة على التواضع ودماتةالاخلاق وحسن التعامل مع الزملاء والأصدقاء وهي المواقف التي جبل عليها بن غالب سيف منذ وقت طويل.نستنتج مما تقدم ان الأخ احمد غالب سيف عمل في وضع صعب بجميع المقاييس لكنه استطاع التغلب على جميع المصاعب بعد ان أظهر الجلد والصبر والحكمة في عمله وهذا ما ساعده على ان يحقق نجاح مبين في حياته العملية.
|
تقرير
احمد غالب سيف.. بين ظلم ذوي القربى واقتحام المستحيل
أخبار متعلقة