أول عربي يستخدم « الغرانيوليت»
إعداد/ ميسون عدنان الصادقتظل الروح هي الكيان الآسر في عالم البشر وهي الطاقة الخلاقة داخل الجسد لتدفعه دوماً إلى أتون الحياة بكل متغيراتها وقد بقي الشرق متفرداً بإنتاجه الإبداعي على رغم العواصف التي اعتصرته على مر تاريخه وذلك لتعلق الروح فيه دائماً بالسماء لذا لم يكن غريباً أن تتنوع خامات المبدع الشرقي الباحث عن الخلود بين الغرانيت والبازلت والخشب والصدف والعاج والنحاس والفضة والذهب.على درب السلف يأتي الفنان المصري الكبير وفيق المنذر ليقدم إبداعاته التصويرية بخامة “الغرانيوليت” التي لم يستخدمها غيره حتى الآن في ربوع الشرق وهي عبارة عن حبيبات رملية ملونة تتراص بجوار بعضها على السطح الخشبي وتثبت عليه بمادة الغراء وهذه الخامة تحتاج إلى صبر شديد في الأداء لأن اللمسة الأولى فيها هي الحاسمة وذلك لعدم استطاعة الفنان محو ما وضعه على السطح واللافت للانتباه إن المنذر يميل إلى الخامات الجانحة نحو الخلود فهو أيضاً أحد رواد الموزاييك في مصر منذ أربعة عقود وإجادته لهذا الفن أثرت فيما بعد في نسق أدائه مع خامة الغرانيوليت التي بدأ التعامل معها في نهاية السبعينات ويكتشف في أعمال هذا الفنان أن هناك علاقة وطيدة بين الخامة كمعبر تقني وبين الثقافة الروحية التي أحاطت به منذ مطلع شبابه حيث مساجد الإمام الشافعي والسيدة نفيسة والإمام الحسين فهو يتعامل مع السطح التصويري بتؤدة تصل إلى درجة الخشوع والنقاء النفسي حتى يخيل إليك أنه يتعبد على سجادة من الغرانيوليت.والمرأة في أعمال وفيق تحتل موقعاً محورياً تتركز حوله كل عناصر الصورة فهي عنده منذ النشأة الأم والحبيبة والزوجة وتحرك في مشاهده بشكل ترددي بين التاريخي الواقعي وبين المنصرم والراهن فيستطيع ببراعة اختزال تلك المسافة الزمنية في لحظة تصويرية راسخة تحتضن العين بدفء الجسد الناطق بالخصوبة هذا المنقلب بين نفرتيتي وخضرة وبين ايزيس وبهية بين عجينة طبعة في قبضة الرجل وكهف حصين يلوذ به من قسوة الزمان كذلك نجد المرأة في أعماله جسداً بلا رأس وأحياناً أخرى متوجة بطائر شارد النظرات يهم بالطيران صوب السراب.تتنوع أيضاً نساء المتدربين فلاحات وريفيات وقاهريات نتيجة تنقله بين بيئة وأخرى منذ صباه فقد عين بعد تخرجه في كلية الفنون التطبيقية قسم الزخرفة عام 1960م مدرساً بالتعليم الفني الصناعي بمدينة ميت غمر بمحافظة الدقهلية حيث سحر الطبيعة والنيل الذي يسكن ظهرها ثم عاد بعد ذلك إلى القاهرة ففي عمل «امرأتان في حضن الشمس» تسمى الأعمال من وحي الكاتب - يظهر مدى التحام المرأة عند وفيق المنذر بجسد الأرض وجغرافيا الوطن وذلك من خلال فلاحتين تحملان على رأسيهما مشنتين مملوءتين بالثمار وقد وقفتا وسط مساحة زراعية مترامية الأطراف كنخلتين باسقتين في حالة مخاض من أحشاء الطين مثل النخيل البادي في عمق المنظر ولأنه وشم على لحم الأفق وقد أحيطت المرأتان بنباتات مختلفة الجنس وبعض الماعز متنوع الإيقاع الحركي وتظهر الشمس في أعلى يمين الصورة كنص من العقيق على صدر المشهد.والعمل رغم انتمائه في ظاهره إلى التجريدية الواقعية إلا إنه محاك بخيوط رمزية خفية وهو البعد الرابع داخل التكوين الذي يغلف الثلاثة أبعاد الشكلية حيث يطلق على هذا الأسلوب الرمزية الواقعية التي تبدأ ملامحها من أسفل الصورة حيث تمايز درجات اللون البني الموحي بخصوبة الأرض ثم تصعد العين إلى أعلى ماسحة على جسدي المرأتين اللذين يحللهما الفنان إلى تقاسيم لونية بالغة التوهج من البرتقالي والأحمر والأصفر وهي ألوان ترص الشمس نفسها إضافة إلى بعض البني مع قليل من الأزرق السماوي كمعادل لهذا اللهيب الجسدي.وفي حركة عكسية يعود المنذر ليبجل عقل المرأة واقعياً وتاريخياً على مصطبة الروح وذلك في عمل “ التاج” من خلال تركيزه على الوجه الأنثوي المتقد والذي يحاور طائراً أبيض في حراسة الشمس داخل تكوين بدأ كنقش تاريخي على جدر منهكة نطقت بكفاح حواء أما بقية الجسد فيزحف على اللون الأزرق من أسفل وكأن النيل في لحظة فيضان تلتهم النار وتوج حورس رأس ايزيس وفي الخلفية ظلت الشمس منظومة النخيل في لحظة شفق فبدأ وكأنه يقذف من أحشاء الأنثى وتعاشقت كل هذه المفردات بشكل تعبيري ارابيسكي تماهت فيه الأرض والقمر في وسط جو أبيض يسأل كماء الحياة.لقد أدرك وفيق المنذر بستان الروح وقطف منه ثماراً من نور مذاب نقش بها نمارقه المصفوفة من مخدع الخلود الأبدي.