نبض القلم
إن تسييس الدين أو تلويث الدين بالسياسة عمل من أعمال الجهلة بالدين، وأسلوب من أساليب الانتهازية السياسية المقيتة، فالدين يستشرف في الإنسان أرقى ما فيه، وأسمى ما يمكن أن يصل إليه، في حين أن السياسة تستثير في الإنسان أحط ما يمكن أن ينزل إليه، وأدنى ما يمكن أن يهبط فيه، ذلك أن ممارسة السياسة باسم الدين يحول الدين إلى صراعات لا تنتهي، وتحزبات لا تتوقف، وأن مباشرة الدين بأسلوب السياسة يحيل الدين إلى تجاذبات تفرق الأمة ولا توحدها.وعندما كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يسوس المؤمنين بالدين، كان يفعل ذلك من وحي القرآن الكريم الذي كان ينزل عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يمارس السياسة بإرشاد الوحي ورقابته، سواء كان ذلك في القول أو الفعل، أو التصرفات، فحكومة النبي صلى الله عليه وسلم إن صح تجاوزاً أن تسمى حكومة كانت تسير طبقاً للوحي وتبعاً له، والحاكم فيها النبي المختار من الله، وليس للمحكومين أي (المؤمنين) أن يعترضوا على هذا الاختيار، فمتى نطقوا بالشهادتين فقد ارتضوا النبي قائداً لسياسة أمورهم الدينية والدنيوية، فكان الناس ينفذون أوامر النبي راضين وطائعين، لاعتقادهم أن السلطة التي أقامها النبي في المدينة المنورة قائمة على المبادئ الأخلاقية السامية والقيم النبيلة التي دعا إليها القرآن الكريم، وهي لذلك لم تجنح لسلوكيات السياسة.وعندما اختلط الدين بالسياسة في عهود الدولة الإسلامية اللاحقة غلبت السياسة على الدين، وأصبح الدين ملوثاً بالسياسة، فصار كل عمل يعمله الحاكم الإسلامي شرعياً، بصرف النظر عن صوابه من خطئه، وصار كل عمل أو قول للخصوم غير شرعي، واستنبط له من النصوص ما يؤكده أو يرفضه.ومع اختلاط الدين بالسياسة وتشابكهما صار كثير من المسلمين يعتقدون - خطأ - أن النظام السياسي جزء من الدين، الأمر الذي أدى إلى تحزب المسلمين وتشيعهم وتفرقهم إلى مذاهب وفرق شتى، نجم عنها صراعات بين المذاهب، واختلاف بين الفرق، واقتتال القبائل مع بعضها، وتنازع الطوائف فيما بينها، لاختلاط الفهم الديني، بالفهم السياسي، وكان من جراء هذا الخلط أن أحيط الحاكم بنوع من القداسة الدينية، لا يجوز المساس بها أو الخروج عن طاعته.ومع مرور السنوات تركز العمل السياسي في غالبيته على بعض الحركات السياسية، فكادت تنطفئ شعلة الدين، عندما صبغ التيار الديني بألوان السياسة، وإغراء المال، وبريق الوجاهة وجعجعة التحزب، وطنطنة الشعارات، حتى بدا وكأنه لا توجد خيارات أخرى.ولذلك لا عجب أن يصبغ كل أمر من حياتنا بصبغة دينية مسيسة، وانعكس ذلك على بعض الفتاوى الدينية المغلفة بغلاف سياسي.وعندما ثار الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) قالوا: نحن نريد حكم الله، فقال علي رداً عليهم: إنهم يريدون بحكم الله أن ينزل الله ليحكم بينهم، وهذا لن يتأتى، إذ لابد للناس من والٍ يسوس أمورهم.ولقد سئل الفضيل بن عياض (رضي الله عنه) ما عقوبة العالم؟ قال: موت القلب، قيل له: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بالآخرة.[c1]* خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]