الصلة بين الأدب والتاريخ والسياسة
نجمي عبدالمجيد:يقول وزير خارجية إسرائيل السابق أبا أيبان : (لقد عرفنا نفسية الإنسان المصري من أدب نجيب محفوظ) ولم يقل من خطابات جمال عبدالناصر أو أنور السادات.عبارة توضح مكانة الأدب في الأحداث السياسية وقراءة التاريخ وتدل على أن الأدب هو التاريخ الاجتماعي والسياسي للشعوب.وكانت العديد من الدراسات والبحوث قد وضحت هذه الصلة عبر حقب من الأزمنة،فعند الأحداث الكبرى في مجرى الأمم ترصد الآداب والفنون ما ينقل هذه المجتمعات من مرحلة إلى آخرى، بل هناك من الأدب ما يرصد نفسية الفرد وكذلك الأمة والغوص في عمق عقيدتها التي تكون أبعادها النفسية ،ولنا في كتابات الأديب اليهودي (كافكا )مثال في دراسة نفسية اليهودي الذي يقدم في أعماله الأدبية مأزق التصادم بين التاريخ والسياسة حتى في أدنى حدود الانفراد النفسي عندما تصبح الذات هي التاريخ والحدث هو السياسة.يقدم دليل القارئ إلى الأدب العالمي تعريفه بأدب كافكا (-883 1924م) بما يلي: (روائي ألماني عاش في عهد الإمبراطورية النمساوية الهنغارية لم يمارس مهنة القانون بالرغم من تخرجه من كلية الحقوق رضي بوظيفة في دائرة تعويض العمال أعطته هذه الوظيفة فهماً عميقاً للبيروقراطية وللشريط الأحمر! عجزه عن تحقيق ذاته في العالم ميز كل أعماله التي زاولها، كتب ورفض نشر ما كتب بالرغم من أن كتاباته حازت على إعجاب أصدقائه الذين كان يقرأ لهم، لم يستطع الاقدام على الزواج مع أنه خطب مرات عديدة.كان مصاباً بالسل الرئوي في فترة مبكرة من حياته فترك رغباته لوصيه ماكس بروباتلاف مخطوطاته لم تكن أية رواية مكتملة وحتى في حالتها هذه فقد أسرت الخيال الأوروبي. كان يعاني من لاعقلانية الدكتاتورية مثل المحاكمة / 1925م و/ القلعة / 1926م/ تناولت أعماله عالماً وسلطة خياليين خاصة عندما يجد البطل نفسه مكبلاً بشكل لا يمكن تفسيره تمثل إحدى أولى أعماله دراسات فرو يد للأحلام لقد تمكن كافكا من ترجمتها في رواية كما هي الحال في قصته القصيرة طيب الريف كان مختلفاً عن كتاب تيار الوعي لقد تناول العالم الداخلي الذي لا يدرك وكأنه حقيقة تحدث في وضح النهار يشعر المرء أنه ليس متيقناً أبداً فيما إذا أنه في داخل خيال الشخصية أو أن أمامه وصفاً لواقع فعلي .يترك العنصر المحلي والبيئة في حالة غير يقينية لكن الكتابة محكمة وموضوعية توثق رواياته من يعانون من هاجس الشعور بالذنب يوقعون أنفسهم غير مدركين لهو يتهم تجاه السلطة قدم كافكاً صورة حية لرعبه الداخلي في مجلاته و»رسالته» الشهيرة 1949م التي وجهها إلى والده.توثق الرسالة اللاعقلانية التي كان عليه أن يعاني منها في منزل والديه كان تأثيره مضللاً غير واضح وذلك ليس كنتيجة لطبيعة أعماله الرمزية اللاواعية التي رمزت إلى مأزق الإنسان في عالم لا عقلاني لدول بوليسية قمعية بل ينشره المحكم البارع الذي أسر العالم الذي يتحدث الانجليزية في ترجمات أدوين وويلامور.يقدم قصة «الجحر» لكافكا قراءات متعددة لعمق الأزمة النفسية لشخصية اليهودي المتصادمة مع التاريخ والسياسة.فالرمزية في هذا النص الأدبي الحيوان الصغير المختفي تحت الأرض والعالم الخارجي وحالة الخوف من عدو مجهول يأتي في أي وقت قد يطول انتظاره أو يقصر والعمل المستمر على بناء وتوسيع المخارج في ذلك الجحر إلى درجة الإنهاك ذلك يعبر عن التصادم بين تاريخ الشخصية اليهودي وبين سياسة المواجهة القائمة دائماً هناك عدو قادم، التاريخ يؤكد هذا أما الغفلة عنه فهي الموت الانتهاء وكل التجارب والصراعات وضحت أن الاسترخاء ولو لبعض الوقت قد تكون فيه خسارة موجهة إن لم تكن ساحقة. هنا يصبح التاريخ في النص الأدبي هو الفرد الذات الانطوا والسياسة هي الحدر وعدم الوقوف عند حدود معينة بل يصبح التحرك حالة بضمان عدم تحول إلى هدف ثابت لذلك يعمل الحيوان على تصور شكل العدو من خلال حجم المساحة من الخارج كلما كان الفضاء متسعاً ربما يكون الحجم أكبر ومن هنا يتجسد الوهم عنده إلى حد الرعب وتتحول أصوات الطبيعة إلى صوراً للعدو تفقد الطبيعة دورها في استئناس المشاعر وتصبح من عوامل الضغط المفجر لكل مشاعر الحقد والخوف والكراهية والرغبة في جر هذا العدو إلى متاهات الحجر التي قد تقوده إلى الموت في هذا القبر دون مواجهة مع الآخر توضح الباحثة بديعة أمين بعض التفسيرات عند النقاد لقصة الحجر قائلة: (مثل أي عمل من أعمال كافكا ظلت قصة الجحر موضع تفسيرات متباينة من قبل النقاد الذين تناولونها بالشرح والتحليل).وبالرغم من أن الموضوعات التي استخلصوها من هذه القصة القصيرة والتفسيرات والاستنتاجات التي توصلوا إليها قد تكون متقاربة أو متماثلة في عمومياتها وقد لا تكون وما هذا إلا بالأمر الطبيعي بالنسبة لأدب كافكا وإلا لماكان لأي ناقد من سبب يقدم له إغراء كافياً ليضيع وقته في محاولة فك ما سبقه إليه آخرون من رموز هذا الكاتب أقول برغم تقارب أو تماثل تلك التفسيرات والاستنتاجات أو عدمه فالذي يبدو لي أن هناك بعض الموضوعات التي طرحها كافكا في هذه القصة ممالا يزال بحاجة لأن ينال خطه من حسن أو سوء فهم من يعنى بأدب كافكا.لقد وجه النقاد الذين تناولوا هذه القصة بالدراسة والتحليل اهتمامهم إلى المغزى الذي تنطوي عليه أو إلى ما تمثله الرموز المطروحة فيها وإلى البحث عن ماهية ذلك العدو الخفي الذي يبحث عنه كافكا أيضاً ويحاول أن يتقيه في أن واحد في المحور الأساسي لهذه القصة: توفير حجر أمين فتشارلز أو زبورن يقول لنا: «أن الحجر هي عمل من أعمال المرارة واليأس والتنديد بالنفس والتشاؤم والخوف وهي على نحو ما نشرت ناقصة والنسخة الكاملة تنتهي بانهيار الحجر وهزيمة شاغله من جراء احتلال العدو للجحر والعدو كما نعرف الآن وكما كان يعرفه كافكا في ذاك الوقت هو الموت.أن التفسير الذي يطرحه أو زبورن هو تفسير عام ينطبق على أي عملمن أعمال كافكا والمفاهيم التي يطرحها المرارة.. اليأس.. التنديد بالنفس .. التشاؤم والخوف هي في واقع الأمر جزء لا يتجزأ من مفاهيم عدة أخرى وموضوعات فلسفية ورؤى تشكل نسيج مجمل أعمال هذا الكاتب : لحمة ومدى وتعكس نظرة كافكا وقناعاته بصدد الإنسان وموقعه في الكون والمجتمع.الحيوان الصغير يبحث عن مأوى يقيه شر العدو ويمنحه الطمأنينة والسلام والمنعة والقوة ويبني له جحراً يحفر فيه ممرات ودهاليز وحجراً صغيرة متباعدة إلى جانب حجرة رئيسة تقوم مقام قلعة الطعام الرئيسة ويغطي المدخل الحقيقي للجحر بكومة من الطحلب لتضليل الأعداء ويملأ جحره بالطعام وبعد أن ينتهي من بناء قلعته الحصينة يظل مشغولاً بخططه وإجراءاته الدفاعية يراقب المدخل يفتش الحجرات والممرات يتفقد مخزونه من المؤونة ويعيد توزيعها في الحجرات الصغيرة ليعيده بعد ذلك إلى القلعة الرئيسة وهكذا وبرعم أن حيواننا المسكين كان بارعاً في تنفيذ مشروعه وبنائه بحدق كلي إلا أنه يظل غريق تصوراته وبحثه المستمر عن العدو الذي يتربص به شراً والذي قد يهاجمه في أية لحظة من حيث لا يتوقع.في الأدب العربي المعاصرقدمت النصوص الروائية عند قراءات لعلاقة الأدب بالتاريخ والسياسة وتعد روايات الكاتب غسان كنفاني وقصصه القصيرة من التجارب الإبداعية الهامة في قراءة الصلة بين الأدب والسياسة والتاريخ تطرح علينا كتاباته حالة الأزمة التي تحدث بين السياسة والتاريخ ففي رواياته يطرح السؤال الذي لا يستقر عند إجابة واحدة حيت تظل الإجابات حالة مفتوحة مع استمرار الزمن، زمن قد يعود إلى الخلف بحثاً عن التاريخ الذي قهرته السياسة ومسخت معالمه وعندما يأتي زمن الاستعادة يصبح مجرد محاولة مشلولة لا يمتلك أرضية قوية تقف عليها.رواية (عائد إلى حيفا) الصادرة عام 1969م تعيد اتجاه التاريخ نحو الماضي ،نكبة عام 1948م الأحداث السياسية تتلاحق قيام دولة إسرائيل ،قوة الموت هي من يصنع الحدث فلا طريق..الهروب هو المخرج ولكن التاريخ لا يقف عند الماضي والحاضر الزوج والزوجة في لحظة الفرار من الرعب يتركان طفلتهما الرضيعة في المنزل تحت نيران القصف سياسة لا تطرح معادلة جديدة في فرض التاريخ من منطلق القوة هي من يصنع الحياة ولكنها سعت إلى قطع مستقبل فلسطين (الطفل) وتحويله إلى جزء من كيان الدفاع الإسرائيلي الطفل الفلسطيني الذي عاش مع أسرة يهودية تحول إلى جندي يقاتل من أجل إسرائيل قمة التصادم بين التاريخ والسياسة عشرون عاماً على الغياب عن حيفا وعندما جاءت العودة بحثاً عن الطفل لم يجدا في المنزل سوى بعضا من غبار الماضي وأشياء فقدت ملامحها أما اليوم لا يوجد غير اليهود من يترك الأرض والمنزل لا يوجد غير الحرمان من حقه ،الطفل خلدون أصبح اليوم هو دوف الجندي اليهودي الذي يقتل كل ما هو عربي ولا يعرف غير حق الصهاينة في هذه الأرض.تاريخ يتحدث بأكثر من لغة أب وأم جاءا بحثاً عن ابنهما بعد سنوات هل يجوز لصاحب الحق المطالبة بعد كل هذه الفترة وما هو هذا الحق؟إنه إنسان ابن هذه الأرض فلسطين صاحب الحق التاريخي فيها.ولكن السياسة جعلت منه جندياً يقتل أصحاب الأرض ويمزق جذورهم منها وهنا تقهر السياسة التاريخ فلا عودة للمنزل أو الأرض وحتى الطفل تشكل في إطار الزمن المرعب وهنا تكون الماسأة ليست خاصة بهذه الأسرة ولكنها صورة عن وطن فقد فيه الإنسان قبل الأشياء.المراجع :- دليل القارئ إلى الأدب العالمي مجموعة كتاب ترجمة :- محمد الجورا : الطبعة الأولى 1986م دار الحقائق - بيروت -هل ينبغي إحراق كافكا تأليف :- بديعة أمين الطبعة الأولى 1983م المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت.