نبض القلم
جاء في الحديث الشريف عن ثابت عن أنس رضي الله عنهما قال: “أتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا العب مع الغلمان فسلم علينا، فبعثني رسول الله في حاجته، فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله في حاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تخبرن بسر رسول الله أحداً، قال أنس: والله لو كنت حدثت به أحداً لحدثتك يا ثابت”.وإذا تأملنا في هذا الحديث الشريف لوجدنا أنموذجاً من أنموذجات التربية النبوية، وعرفنا أثر التربية الدينية في الطفل المسلم، فأنس بن مالك كان حينها طفلاً في العاشرة من عمره، مهمته خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخادم مهمته الأساسية ملازمة من يتولى خدمته، ولقد أحتاج الرسول لخادمه ليرسله في مهمة ملحة فلم يجده، لأنه كان يلعب مع الغلمان، فخرج بنفسه يبحث عنه، ولم يجد غضاضة في البحث عن غلامه، ولما وجده يلعب مع الصبيان لم ينهره، ولم يعاقبه لأنه يعرف أن الطفل في مثل سنه يحتاج إلى اللعب كحاجته للطعام والشراب، ولابد أن تلبى هذه الحاجة، ولذلك لم يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزمجر أو يتوعد - كما يفعل بعض الناس في هذا الموقف - بل قدم إلى الأطفال وهم يلعبون، وسلم عليهم، فهل خطر في أذهان المربين في عصرنا أن يسلموا على تلاميذهم عند اللقاء بهم؟ وهل يفعل ذلك أرباب الأعمال مع مستخدميهم؟.ولقد شعر أنس بثقة كبيرة في نفسه، وأحس بالاعتزاز حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختاره ويسارَّه ويبعثه في حاجته، وكأنما أراد بذلك أن يختبر أنساً في حفظ السر، وقد نجح أنس في الاختبار وهو ما أخبرنا به في نهاية الحديث في أنه ظل محتفظاً بالسر إلى الأبد.قال أنس: (فأبطأت على أمي) بما يفيد شعوره بالمسؤولية تجاه أمه، وهو سلوك إيجابي يدل على أن أنس كان يراعي شعور أمه وقلقها عليه عندما تأخر عنها، ولكنه تناسى ذلك أمام اهتمامه الكبير بتلبية حاجة رسول الله، وهو ما يسميه رجال التربية الحديثة بإثارة اهتمام الطفل، بحيث يتصرف من تلقاء ذاته لا من دوافع خارجية مفروضة عليه.قال أنس: “فلما جئت قالت أمي: ما حبسك؟” أي ما الذي أخرك عن المجيء قبل هذا الوقت؟ وفي ذلك إشارة إلى دور الأسرة في مساءلة الطفل عن أعماله، ومسؤوليتها عن متابعة شؤونه، وملاحظة ما يطرأ من تغيير في سلوكه. فرد أنس على أمه قائلاً: “كنت أقضي حاجة لرسول الله” ولم يفصح عن نوع تلك الحاجة، ولم يقل ما هي، لأن ذلك سر من الأسرار التي لا يجوز الإفشاء بها حتى لأقرب المقربين إليه، وهذا دليل على نمو الشخصية لديه، فصار يعتز بشخصيته، ويثق بنفسه، فعلى الرغم من كونه يحب أمه ويحترمها إلا أنه عندما سألته عن الحاجة التي قضاها لرسول الله رد عليها بكل أدب (إنها سر) أي لا يجوز الإفصاح عن سر خصه به رسول الله، فهو يعتذر لها لكونه لا يريد أن يكشفه لأحد، لأن المنهج النبوي في التربية علمه ذلك.وماذا كان رد الأم إزاء امتناع طفلها عن إخبارها بالسر؟ ربما يتبادر إلى الذهن أنها ضربته أو شتمته، ولكن واقع الحال يقول خلاف ذلك، لقد قالت له أمه: “لا تخبرن بسر رسول الله أحداً” وهذا ما يسمى بالتعزيز في التربية الحديثة، أي تعزيز ثقة الطفل بنفسه، ليستطيع مواجهة المواقف المختلفة بمفرده، فهي تشعر بالفخر والاعتزاز أن ابنها قد صار محط سر رسول الله ومحل ثقته، فلا تريد أن تزعزع تلك الثقة.فيا لها من تربية إسلامية رفيعة فشلت كل أساليب التربية الحديثة في الوصول إليها، وما يؤكدها قول أنس لثابت في آخر الحديث: “والله لو حدثت به أحداً لحدثتك به يا ثابت”.ويمضي الزمن، وينتقل أنس من الطفولة إلى المراهقة ومن الفتوة إلى الشباب، ومن الشباب إلى الكهولة فالشيخوخة، ويعيش أنس قرابة مائة عام، ومع ذلك بقي حافظاً سر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل إنسان.وبعد، كم نحن بحاجة إلى دراسة تراثنا الإسلامي، ونتعمق في فهم ديننا، ففيه من أنماط التربية والسلوك أكثر مما في عالم التربية المعاصرة.[c1]*خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]