أضواء
مرام عبد الرحمن مكاويمن الأمور التي تميز بها الإسلام عن سواه من الأديان أنه دين صالح لكل زمان ومكان، أمر تعلمناه ابتداء في مدارسنا السعودية، ولذلك كلما قرأت أو سمعت أو شاهدت أمراً دنيوياً حيوياً يتم تصعيبه أو تعقيده بحجة دينية أدركت أن ثمة خللاً ما! وبما أن الدين الإسلامي كما جاء في القرآن وصحيح السنة النبوية منزه عن الخلل والنقصان، فلا بد أن يكون الخلل إذن في الفهم أو الفتوى أو التطبيق من قبل المسلمين.وكلما شاهدت المسلمين الراغبين في اتباع دينهم يزدادون حيرة وحرجاً مع التطور والتغير في شؤون الحياة ومقارنة بالعالم حولهم، عرفتُ أن مرد ذلك إغلاق باب الاجتهاد مع أن ذلك يتعارض بالأصل مع ميزة الصلاحية الأبدية للشريعة المحمدية. وإذا كانت الأمور التي نواجه فيها مثل هذا الوضع كثيرة ومتشعبة ابتداء من بعض أركان الحج مروراً بهلال رمضان وليس انتهاء بقضايا الحكم والجهاد، فإن الموضوع الذي ناله أكبر قدر من الحرج والتعقيد والاختلاف هو موضوع المرأة. فمن حجابها إلى زواجها إلى عملها إلى طلاقها إلى مشاركتها في القضاء والفتيا والحكم والسياسة إلى سفرها إلى دراستها إلى قيادتها للسيارة، وجد العالم الإسلامي نفسه منقسماً ومختلفاً.. بل ومتحارباً مع بعضه أحياناً!قضية سفر المرأة كما ذكرت هي واحدة من القضايا التي عانت منها المرأة المسلمة. كان التحريم المطلق للقضية يظهر بوضوح شديد مدى انفصال العلماء في العالم الإسلامي عن مشكلات شعوبهم وواقع الناس وأمور حياتهم. فلنأخذ مثلاً الخادمات المسلمات اللاتي يضطررن للسفر للعمل في مهنة شريفة مهما اعتبرها البعض وضيعة من أجل إطعام عائلات بأكملها، حين لم يتوفر لديهن بديل حلال في بلدانهن، هل يعقل أن نطلب أن يوصلهن محرم من جاكرتا إلى جدة؟ أو من مانيلا إلى الرياض؟ ومن يدفع تذكرته؟ والأمر نفسه ينطبق على مهن أخرى تضطر فيها المرأة للسفر وحدها، مثلاً إذا كانت تعمل مضيفة جوية أو كابتن طيار أو دبلوماسية أو مراسلة إذاعية، أو حتى موظفة في شركة تقوم بإيفاد موظفيها لدورات قصيرة أو طويلة الأمد خارج مقر الإقامة. فهناك نساء محافظات ملتزمات ومحجبات يعملن في هذه المهن لسبب أو لآخر، ونحن لا نناقش هنا العمل ذاته، لكن حكم السفر وحدها في هذه الأحوال. وما ينطبق على العمل ينطبق على الدراسة أيضاً، فكلنا يعلم بأن العالم الإسلامي يقبع حالياً في ذيل الأمم، وأن جامعاته في ذيل القوائم العالمية، وبالتالي فالسفر للدراسة وأخذ العلم من أفضل الجامعات ومن ثم العودة لإعمار البلدان الإسلامية ضرورة حتمية إذا كنا نريد أن نجد لأنفسنا مكاناً تحت الشمس. فحين يتم تعقيد سفر المرأة وحدها للدراسة للخارج عملياً أو حتى معنوياً (عن طريق إفهامها بأن ما تقوم به هو ذنب كبير)، فذلك برأيي يتعارض مع مقاصد الشريعة العليا من إعمار الأرض، واستعمال نعمة العقل إلى أقصى مدى ممكن في تحقيق ذلك. وكم عانت المبتعثات العربيات خصوصاً ليس فقط من التعقيد الرسمي الذي يمكن تجاوزه، وإنما من نظرة المجتمع لهن أولاً، ومن بعض زملائهن المبتعثين الذين لم يتوانوا في محاربتهن والتضييق عليهن بكل وسيلة متاحة. فمن التحدث بما لا يليق عن أخواتهم، إلى إرسال الشكاوى الكيدية للملحقيات الثقافية كما في التجربة السعودية، بل وتطور الوضع حين يئس هؤلاء من استجابة مسؤولي الملحقية لشكاويهم غير المعقولة، فلجؤوا إلى إرسال البرقيات إلى وزارة التعليم العالي مباشرة بأن: (هناك طالبة سعودية في مدينة كذا بأمريكا أو بريطانيا أو أستراليا أو نيوزيلاندا، من غير محرم، فالرجاء اتخاذ ما يلزم!). والعجيب في الموضوع أن من يقوم بذلك في العادة هم من الشباب الأصغر سناً، ممن يهمل بعضهم صلاته، أو يعاقر كأسه، أو يخرج مع فتاته للسينما!وبعد هذا كله لا يستغرب الارتياح الكبير الذي ستشعر به أي امرأة اضطرتها الظروف للسفر وحدها، والغضب في الطرف المقابل الذي سيشعر به المغالون والتكفيريون، حين يقرؤون فتوى الشيخ العبيكان حول جواز سفر المرأة بدون محرم إذا أمنت الفتنة، ومثال ذلك السفر بالطائرة. ومع أن ما جاء به الشيخ ليس جديداً فقد قال به علماء كثر من المتقدمين والمتأخرين، ولكن أهمية الفتوى السعودية أنها تصدر من شيخ سعودي معروف له وزنه ومكانته في المجتمع.يقول الشيخ في فتواه التي نشرتها صحيفة الحياة بتاريخ الاثنين ( 22-12-2008) الموافق (24-12-1429)، وأعاد نشرها موقع العربية - نت: “علّة تحريم سفر المرأة من غير محرم، هي الخوف على المرأة من الاعتداء على شرفها، خصوصاً في السفر قديماً بوسائله التي يحصل فيها الخوف (...) أما الوسائل الحديثة مثل الطائرة فالمدة في الغالب يسيرة، ولا يستطيع أحد الاعتداء على المرأة لوجود الطاقم والناس حولها، وأما التحرش بالكلام ونحوه، فهو يحصل في السوق وعبر الهاتف وفي كل مكان، وليس هذا هو المقصود، فإن علّة التحريم فيها تكون منتفية”.وهذا الرأي هو ما كان الكثيرون يرددونه، وتحتج به النساء خاصة حين تتم مهاجمتهن بل وتفسيقهن على سفرهن، فكانت التهم المعلبة الجاهزة بالعلمانية والليبرالية والسفور والفسوق والتغريب، معدة سلفاً. فما القول إذن حين تأتي الفتوى اليوم، ليس من القاهرة أو الرباط أو جاكرتا، بل من الرياض ومن أحد شيوخ المدرسة الفقهية الحنبلية؟ كنت مهتمة جداً بقراءة التعليقات على الخبر، فوجدت غالبيتها تثني على الشيخ، وتبرر الفتوى، وتقول بأنها بالفعل موافقة للفطرة وللحاجة وللواقع المعاش. وهذا ليس بمستغرب فقد خبرنا الأمر هذا سابقاً في أمور عديدة، وخاصة في أمور المرأة. وبالرغم من ذلك سيكون هناك من يهاجمون الشيخ، ويتهمونه بأنه يفصل فتوى على المقاس، ويحذرون من فتاوى آخر الزمان، بالرغم من أن هؤلاء بعينهم كانوا سيباركون كلام الشيخ لو أنه تحدث في شأن آخر مستحدث مثل زواج المسيار. وهنا تطرح قضية تقديم الهوى النفسي على الحكم الشرعي، ولفظة الهوى تستخدم عادة في كتب الشريعة لتشير إلى المحرمات والمفاسد، في حين أن التشدد والتنطع والتعصب للرأي هو أيضاً “هوى” باطل.فتوى الشيخ العبيكان هذه فرصة لنراجع بقية أحكام الشريعة وتلك المتعلقة بالمرأة بوجه خاص، فللدين ثوابت لا غبار عليها، ولا يجب أن تمس. فوحدانية الله أساس الإسلام، ومعها أركانه، وعباداته، وحتى الثابت من معاملاته كما في الكتاب وصحيح السنة. لكن بالمقابل حين يأتي الأمر لتشريعات اختلف فيها ابتداء كبار الصحابة قبلنا، فيجب فتح باب النقاش فيها، وطرح مختلف الآراء ، فالإنسان في الإسلام له حرية الاختيار. وعودة إلى قضية سفر المرأة، أود في الختام أن أطرح سؤالاً على المختصين: على أي أساس تضع الدولة قوانيها بخصوص المرأة، وعلى أية أساس تراجعها؟ مثلاً هل ستؤدي هذه الفتوى إلى أن تراجع وزارة الداخلية والجوازات عن شرط موافقة ولي الأمر على سفر المرأة فوق سن الحادية والعشرين وحدها؟ وهل ستراجع وزارة التعليم العالي شرط المحرم أيضاً للمبتعثات؟ أم إن الدولة في تنظيماتها الإدارية ملزمة فقط بأن تأخذ بالرأي الأكثر تشدداً؟[c1]*عن/ جريدة “الوطن” السعودية[/c]