النقد موازٍ للنص وليس تابعاً له
دبي - حكم البابا::الكتاب واحد من أهم الكتب النقدية التي تناولت تجربة الشاعر الفسطيني محمود درويش، الصادر أخيراً للناقد المصري الدكتور صلاح فضل بعنوان “محمود درويش: حالة شعرية”، الذي يرصد خصائص تجربة أحد أكبر شعراء العربية المعاصرين، بدءاً من عدم ركونه إلى الاتكاء على القضية الفلسطينية كحامل ومسوّق لشعره،ومروراً بتجربته الطويلة والغنية في تطوير أدواته الشعرية، ووصوله بالشعر إلى تخوم الفلسفة، من دون أن تفقد قصائده غنائيتها المدهشة، ودفقتها الانفعالية الشجية، وصولاً إلى عبوره بالهمّ الوطني إلى الفضاء الإنساني الواسع.يعتبر كتاب الدكتور صلاح فضل “محمود درويش: حالة شعرية” الصادر بمناسبة مرور عام على رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير، علامة فارقة فيما كتب من نقد تناول السيرة الشعرية لمحمود درويش، الذي يعدّ حالة شعرية متميزة ومتفردة في مسيرة الشعر العربي المعاصر، فالدكتور فضل يقارب تجربة درويش بعين المحب والعاشق لشعره، وفي الوقت نفسه يقترب منها بأدوات وثقافة الناقد، فيكتشف من خلال غنى رموزها واتساع دلالاتها وحداثة تعابيرها ما يضيف إعجاباً ودهشةً وانبهاراً بشعر هذا الشاعر، الذي لم يركن طوال تجربته إلى أي نجاح وصل إليه، وأية جماهيرية حققها، وبقي طوال مسيرته يتجاوز نفسه، ويسابق قرّاء شعره، ويتقدم على نقاده.يروي الدكتور صلاح فضل في الصفحات القليلة التي أفردها لمقدمة كتابه سيرة تكوينية للشاعر الفلسطيني تتضمن رحلة نزوحه عن فلسطين مع عائلته، ثم عودتهم إليها، وصولاً إلى مغادرته الأرض المحتلة إلى مصر أولاً، ثم ليجوب أرجاء العالم، متنقلاً بين عدة مدن سكنها، ويقر الناقد بتجاوزه للكثير من قصائد درويش ومجموعاته الشعرية مثل “سرير الغريبة” و”أحمد الزعتر” و”عابرون في كلام عابر” وغيرها لكثرة ما كتب عنها، وبتجاوزه لتسلسل الأعمال الشعرية سواء زمنياً أو كمجموعات، وانطلاقه من عناوين ثلاثة -بحسب فصول الكتاب- تضم الحالات الشعرية الأهم في مسيرة الشاعر، حيث يستهل د.فضل الفصل الأول للكتاب “شعرية العشق” بدراسة قصائد درويش الأولى، التي تبنى فيها قضية شعبه، ويستشهد بقصيدته الشهيرة “بطاقة هوية” والتي عرفت بـ”سجل أنا عربي” عند حديثه عن تطور درويش شعرياً، فعلى الرغم من أن القصيدة عبّرت عن حالة مختلفة من التناول لقضية بأهمية القضية الفلسطينية، إلاّ أن كاتبها تجاوز الحالة الشعرية أو المرحلة التي أنتجت تلك القصيدة، بينما توقف عندها قراء وجمهور الشعر الدرويشي، ولم يغفروا له هذا التجاوز، ويتوقف د.فضل عند موتيفات عدة تتردد في قصائد درويش، هي عبارة عن رموز مكثفة يعيد خلقها بمهارة في كل قصيدة، بحيث لا يمكن اتهامه بالتكرار أبداً، كرمز القدس والبرتقال والبحر والحجر والعصافير على سبيل المثال، ويعتبر د.فضل أن مهارة درويش تظهر خاصةً في عدم تقييده لنفسه داخل إطار ضيق، فحداثته المميزة تكمن في قدرته على صياغة اللفتات التعبيرية الخاصة والإسنادات المجازية، والقدرة على بلورة الرؤية، واستحضار نماذج بصرية غنية بالمتخيل الشعري، وكفيلة بنقل حالة ألق خاصة بالمتلقي، ويركز د.فضل على قضية تعامل درويش مع الموت، ووقفته الطويلة في مواجهته في أكثر من قصيدة، والتي بلغت ذروتها في قصيدته “الجدارية” أو في ديوانه “كزهر اللوز أو أبعد”.في الفصل الثاني من كتابه الذي يسميه “عالم من التحولات” يرصد الدكتور صلاح فضل المراحل الشعرية التي يمكن أن يصنف ضمنها نتاج الشاعر، أو يوضع ضمن أطر أو منظومة من الثيمات الخاصة بكل مرحلة، خاصة أن الشاعر كان دائم الصعود في تجربته الشعرية، ودائم البحث عن صيغ وصور وحالات شعرية متجددة، معتبراً أن محمود درويش كان في قصيدته “بطاقة هوية” قد أسس وبحق لكل التحولات الشعرية القادمة في مسيرته الحافلة، فشعره خصوصاً في نموذج هذه القصيدة مثّل أكبر المشاغل براءة وأشدها خطورة في الآن ذاته، لا بمنطق الجدال العقلي والتاريخي، لكن بمنطق إيقاظ الحلم، وتسمية الأشياء بالكلمات العارية البسيطة، وهو هنا لا يعبر عن قضية بقدر ما يخلق المعادل الشعري لها، ويعتبر د.فضل أن تصريح محمود درويش الذي يقول فيه: “أنا منحاز للغناء في الشعر، لأن المناخ الإنساني الحزين يقتضي دائماً الشفافية في التعبير, وأحياناً لا أجد هذه الشفافية إلا في الغناء” مفتاحياً لفهم الغنائية التي وسمت شعر محمود درويش، خلال بحثه الدائم عما يطور به عالمه الشعري، ويتابع د.فضل بعد ذلك محمود درويش في دخوله مرحلة ما يسمى بشعر الرؤية.في الفصل الثالث “قراءات نصية: حالات الشعر والحصار” يستعرض د.صلاح فضل عدداً من العناوين الفرعية للخروج بمفاهيم نقدية، تقترب من الحالة الشعرية المسيطرة في شعر درويش، وأول هذه العناوين “قصيدة درامية شاملة” التي يتناول فيها الناقد بنية القصيدة عند محمود درويش وتعدد الأصوات ضمن النص الواحد، وكيف انتزع الشاعر من مختلف الفنون الشعرية ما صاغه في قالب واحد متآلف، لتقديم تركيبة جديدة متطورة للنص الشعري، ويعتبر د.فضل أن ديوان “حالة حصار” هو نموذج ملتهب لنص تتعدد فيه الأصوات والشخوص واللفتات والمواقف، ويضم حوارات متخيلة ومتماسكة تصنع رؤية شاملة لحالات الشعر والحصار، ويرى د.فضل ضمن عنوان “لمسات الحداثة” أنه على الرغم من أن الأبرز في شعر الحداثة هو غياب الموضوع وتشتت الدلالة، إلا أن القصيدة عند درويش تقترب أكثر من الشعر التعبيري، من خلال مجموعة من الدلالات والإسنادات المجازية التي تخلق توتر الحالة الشعرية، وتتجاوز المعنى العادي المألوف، وعبر تعدد العناوين -وجميعها لتوصيف بعضاً من الإحالات إلى قصائد الشاعر- يجول الناقد فضل في بانوراما سريعة على أبرز الملامح في نص القصيدة وفي مجمل الإنتاج الشعري لدى محمود درويش الغني بالتراكيب والمفردات والحالات الشعرية التي قل أن يوجد مثيل لها عند شاعر واحد، معتبراً أن ما يميز شعر درويش هو هذه اللغة المتفردة، وهذه العبارات الأنيقة التي تضيف للشعر شعراً آخر، ينفتح على أفق فسيح يتجاوز المألوف ليضع قارئه على تخوم الملحمة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، هذه الملحمة التي كانت طموح الشاعر، وعمل جاهداً حتى يصل إلى هذا النوع الشعري الغني والعاصف، ما جعله في كل ما كتب نثراً أو شعراً حالة شعرية متفردة في مسيرة الشعر العربي، سيفتقد الأدب العربي حضوره المبدع لأعوام طويلة.كتاب “محمود درويش حالة شعرية” غني في موضوعاته وعناوينه المتنوعة، وجهد مؤلفه الدكتور صلاح فضل واضح فيه، سواء في متابعته للإرجاعات التاريخية والأسطورية والشخصيات البطولية في متن قصائد درويش رغم تنوعها وكثرتها، أو في متابعته الدقيقة للجهد اللغوي الذي برع فيه الشاعر، ويمكن للقارئ أن يكتشف (من خلال الوقفات التفسيرية الطويلة لقصائد درويش التي استوقفته) إعجاب د.فضل بمجمل نتاج الشاعر، خصوصاً في نصوصه الأخيرة، مقراً في النهاية بأن محمود درويش كان من أكثر الشعراء اهتماماً لدى النقاد، وطالما لقي حفاوة نقدية في كل ما كتب، شأنهم في ذلك شأن جمهوره الذي تابعه في كل المحطات بالاهتمام والترحاب والإعجاب نفسه، رغم رأي درويش في نقاد شعره حين يصنفهم في إحدى قصائده كأشخاص ساكنين راكنين لمنجزه القديم، لا يريدون له أن يتخطاه، فيما هو شاعر متجدد يحاول دائماً اختراق السقف الذي وصل إليه، لأنه لا يعترف بسقف أمام الشاعر، كما يقول في قصيدته: يغتالني النقاد أحياناًيريدون القصيدة ذاتها/ والاستعارة ذاتها..فإذا مشيت على طريق جانبي شارداً/ قالوا لقد خان الطريق.وإن عثرت على بلاغة عشبة/ قالوا تخلى عن عناد السنديان.وإذا نظرت إلى السماء لكي أرى/ ما لا يُرى/ قالوا تعالى الشعر عن أغراضه.