صباح الخير
تنزع الحركات الشمولية الكلية، على غرار الأنظمة التي تحمل المسمى والمضمون نفسيهما، «مؤمنة» كانت أو «ملحدة»، نحو قطع كل علاقة بالماضي ، حالما تبسط نفوذها على بلد ما أو مساحة جغرافية ، صغر حجمها أو كبر، وانكار كل ما سبق وصولها الى السلطة في عملية «غسل دماغ» جماعية، بحيث يبدأ «التاريخ» معها ولا ينتهي الا معها.هذا ما فعله «الرفاق» في دول الكتلة الشيوعية السابقة ، حين كانت تعاد كتابة المناهج المدرسية مع تبدل الزعامات، وتزال وجوه «المنحرفين» من الصور الرسمية ويمحى اي أثر لهم في ادبيات الحزب الحاكم. وهذا أيضاً ما فعلته حركة «طالبان» الافغانية التي نسفت تماثيل تراثية عمرها يزيد عن 1500 عام، لأنها كانت تذكر الافغانيين بتاريخ لهم، قبل ان تمسك الحركة الاصولية بتلابيبهم وتقطع صلاتهم بالعالم. ولا حاجة بالطبع للحديث عن مناهج التعليم والتمييز ضد المرأة في ظل الحركة التي أعادت الافغانيين قرونا الى الوراء.وفي جنوب لبنان ، طبق «حزب الله» القطيعة نفسها مع من سبقوه الى مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، فمنع وجودهم بالقوة والاغتيال، وبينهم حلفاء ومتعاونون مع راعيته سورية، ورفض الاعتراف بدورهم في اطلاق شرارة العداء للمحتل، واحتكر لنفسه حق تمثيل الجنوبيين، بل اللبنانيين كلهم، على اختلاف انتماءاتهم. وهو يحاول بعد التحرير ان يطبق استراتيجية الغاء الآخر نفسها في السياسة الداخلية.وكان آخر العنقود في منطقتنا، حركة «حماس» المنقلبة على شعبها بالسلاح والسياسة، وانتصارها «الالهي» في قطاع غزة المنكوب. فقد وُزعت صور لمقاتليها وهم يصلّون بعد استيلائهم على مقر الامن الوقائي، وجثث القتلى من اخوانهم لا تزال بداخله، وكأنهم حرروا بيت المقدس. ثم لم يلبث هؤلاء «المنتصرون» الاشاوس ان نسفوا تمثال «الجندي المجهول» الذي يفترض انه يمثل كل الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا مقاومين ضد الاحتلال الاسرائيلي، بمن فيهم شهداء «حماس» نفسها، ولم يتوانوا عن دوس صور الزعيم الراحل ياسر عرفات الذي ارتقى بالفلسطينيين من شعب لاجئ الى شعب مقاوم.لكن لا بد من تذكير «حماس» بأن من لا تاريخ له لا مستقبل له، ومصائر الذين سبقوها الى محاولة تركيب «ماض» على قياسهم خير دليل. وقد يكون لأي فلسطيني ملاحظات وتحفظات على حكم عرفات وادائه وسياساته وتطبيقه لمعادلات القوة والنفوذ، لكن احداً لا يستطيع ان ينكر تاريخية دوره في قيادة شعبه والنهوض بقضيته، حتى اسرائيل نفسها، او ان يلغي بجرة قلم ما حققه على مدى أربعة عقود من قيادته النضال الفلسطيني بإجباره العالم على الاعتراف بالقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.فانقلاب «حماس» لا يتعلق فقط بـ « تطهير» رقعة ارض من «العملاء» على حد زعمها، بل يطال مسيرة النضال الفلسطيني منذ انطلاق الرصاصة الأولى، وفي هذا الاطار يندرج رفضها اتفاقات أوسلو التي تظل على رغم خروق اسرائيل، معاهدة دولية لا يمكن لأحد التنصل عنها. و «حماس» نفسها استفادت منها، في انتهازية انتقائية، لتخوض انتخابات تشريعية منحتها الاكثرية في البرلمان ورئاسة الحكومة.وكان لافتاً منذ «تحرير» غزة ان مقاتلي «حماس» الذين دأبوا على اطلاق الصواريخ على اسرائيل لاستجلاب رد فعل عنيف يقوض الهدنة القائمة ويبرهن ان فكرة التفاوض خاطئة من أساسها، توقفوا عن ذلك بعدما صار القطاع في ايديهم.