أضواء
يناقش البروفيسور صموئيل هانتجتون في كتابه (صراع الحضارات) مفهوم الحضارة العالمية والحداثة (والغربنة)، ويؤكد أن الحداثة لا تعني الغربنة، فيمكن للمجتمعات اللاغربية أن تحتضن الحداثة بدون أن تتخلى عن ثقافتها، وبدون أن تتبنى القيم الغربية ومؤسساتها وممارساتها، بل ممكن أن تقوى هذه الثقافات بالحداثة، وتقلل من قوة الغرب النسبية، وقد بدأ العالم يصبح أكثر حداثة وأقل غربنة. وهناك صورتان متضادتان اليوم لقوة الغرب، فتبرز في الصورة الأولى هيمنة الغرب على السياسة والاقتصاد والإعلام والقوة العسكرية، بينما تتضح في الصورة الثانية ملامح تراجع حضارة الغرب، وانخفاض قوته السياسية والاقتصادية والعسكرية. فقد تباطأ نمو الغرب الاقتصادي، وتوقف نموه السكاني، وزادت نسب البطالة فيه، ويعاني من نسبة عجز هائلة في الميزانية، وترد في أخلاقيات العمل، وانخفاض نسب التوفير، وزيادة الجريمة والإدمان، كما بدأت تنتقل القوة الاقتصادية بسرعة لآسيا، وستتبعها القوة السياسية والعسكرية، وانتهت رغبة العالم في القبول بالهيمنة الغربية، وتبخرت ثقة الغرب بنفسه ورغبته في الهيمنة. فقد سيطر الغرب على نصف أراضي العالم في عام 1920، لتنخفض هذه النسبة في عام 1993 للربع. وأرتفع الإنتاج الصناعي الغربي في عام 1928 إلى 84.2 % من الإنتاج الصناعي العالمي، ولينخفض في عام 1980 إلى 57.8 %، وليرجع الى ما كان عليه في عام 1860.كما انخفض الناتج المحلي الإجمالي الغربي من 64.1 % من الناتج العالمي في عام 1900، إلى 48.9 % في عام 1992، وانخفضت قوته العسكرية من 43.7 % إلى 21.1 % في عام 1991. فباختصار شديد، سيبقى الغرب الحضارة الأقوى حتى العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين، وبعدها قد يبقى رائدا في الإبداع العلمي، وفي قدراته البحثية والتطويرية، وفي الاختراعات المدنية والعسكرية، ولكن ستقل سيطرته على موارد القوة الأخرى، التي بدأت تتشتت بتصاعد دول خارج الحضارة الغربية. فقد وصلت سيطرة الغرب لهذه الموارد الى ذروتها في العقد الثاني من القرن العشرين، ومن المحتمل أن يسيطر الغرب في عام 2020 على 24 % من أراضي العالم و 10 % من سكانه و 30 % من إنتاجه الاقتصادي الذي كان في ذروته 70 %، و 25 % من طاقة تصنيعه التي كانت في ذروتها 84 %، وأقل من 10 % من قوته العسكرية. فقد حكم الرئيس الأمريكي ودرو ولسون، ورئيس الوزراء البريطاني لويد جورجس، والرئيس الفرنسي جورج كليمنسيو العالم في عام 1919. فحينما كانوا يجتمعون في باريس، كانوا يقررون أي بلد ستبقى على وجه الكرة الأرضية، وأي بلد ستختفي، وأية بلد ستخلق، وما حدود كل منها ومن سيحكمها، بل وكيف سيتقاسمون الشرق الأوسط والأجزاء الأخرى من العالم، وكيف سيتدخلون عسكريا في روسيا، وما هي الامتيازات التي سينتزعونها من الصين. وبعد مائة عام من ذلك التاريخ، لن تستطيع أي مجموعة صغيرة أخرى من القيادات أن تحظى بهذه القوة، فعصر سيطرة الغرب قد انتهى، وفي الوقت نفسه، سيعزز غروب الغرب وشروق الشرق انبعاث الثقافة اللاغربية. فعادة تتبع الثقافة القوة، وعبر التاريخ، ترافق انتشار الحضارة مع ازدهار الثقافة، كما استخدمت الثقافة لنشر قيم الحضارة وممارساتها ومؤسساتها في المجتمعات الأخرى. والحضارة العالمية تحتاج الى قوة عالمية، وقد انتهى الاستعمار الأوربي، وتلاشت الهيمنة الأمريكية، وسيتبعهما تآكل الثقافة الغربية، وستبرز من جديد اللغات والعقائد والمؤسسات المحلية الأصيلة، وسيؤدي نمو حداثة المجتمعات اللاغربية إلى عولمة ثقافاتها من جديد. لقد توجهت معظم قيادات الشرق للدراسة في دول الغرب في القرن العشرين، فاستفادوا من علوم الغرب وتدربوا في مختبراته العلمية ومصانعه، وذهلوا لقوته العلمية والاقتصادية والعسكرية، وتأثروا بثقافاته وقيمه. وبعد أن بدأت تتلاشى هيمنة الغرب، وتطور التعليم والبحوث والصناعات في الدول اللاغربية، قل الاهتمام بتعليم الغرب، وبقيت معظم قيادات الشرق المستقبلية في بلدانها، تستقي العلوم والتكنولوجيا من مؤسساتها، ولم تعد مجتمعات الغرب محطاً للأنظار والأحلام، وبدأوا البحث عن النجاح في مجتمعاتهم، وتعلموا التكيف مع قيمها وثقافتها. وبدت عملية الرجوع إلى الأصل تغير المجتمعات اللاغربية، ليبدأ شبابها دراسة تاريخهم وحضارتهم ومعتقداتهم وقيمهم، لكي يحققوا حداثة مرتبطة بواقعهم وثقافتهم، لتستقر وتزدهر بلدانهم. ويبقى السؤال المحير: هل سيستطيع العرب تحقيق الحداثة بدون الغربنة؟ وهل الدين فعلا لا يتضارب مع الحداثة؟ وما هو نمط الحداثة التي يتمناها العرب لتحقيق أمنهم وتنميتهم الاقتصادية والاجتماعية؟ وهل يمكنهم تجنب ديمقراطية الغرب الليبرالية لكي يحققوا هذه الحداثة، أم سيحتاجون لانتخابات الغرب ومؤسساته المدنية وطريقة حكمه ونظرياته الليبرالية. يعلق البروفيسور هانتنجتون على هذه الأسئلة فيقول: «نشهد اليوم نهاية عصر تهيمن عليه الايديولوجيات الغربية، ونتحرك لعصر ستتفاعل فيه حضارات مختلفة، لتتنافس وتتعايش وتتقبل وتتكيف بعضها مع البعض، وستؤدي عولمة الرجوع للأصل لإحياء الدين من جديد، خاصة بالانبعاث الثقافي في الدول الأسيوية والإسلامية بسبب نشاطاتهم الاقتصادية والديموغرافية. فقد افترض المثقفون، في النصف الأول من القرن العشرين، ان الحداثة الاقتصادية والاجتماعية ستؤدي لإنهاء دور الدين في الوجود الإنساني، وستكون المجتمعات الصاعدة أكثر تحملا للاختلاف، ومنطقية، وبراغماتية، ومتطورة، وإنسانية، وعلمانية، وتبين في النصف الثاني من القرن العشرين، بأن هذه الأمنيات والمخاوف لا أساس لها من الصحة. فقد أصبحت الحداثة الاقتصادية والاجتماعية عالمية، وفي الوقت نفسه، انبعث الدين عالميا من جديد، في كل قارة، وكل حضارة، وفعليا، في كل بلد. وقد لاحظ البروفيسور كيبل، في منتصف السبعينيات، انعكاس موجة العلمانية، إلى موجة تكيف الدين مع العلمانية، لتتشكل طريقة دينية جديدة غير مهتمة بالقيم العلمانية، بل اهتمت باسترداد القواعد الروحانية لتنظيم المجتمع، تم التعبير عنها بطرق مختلفة، إما بترك الحداثة التي أكدت فشلها بسبب انفصالها عن الدين وقيمه الأخلاقية، أو بأسلمة الحداثة، بدل محاولات حداثة الإسلام. كما أدى الانبعاث الديني إلى انتشار بعض الأديان، وزيادة المؤمنين بها، وأعطى معاني جديدة للقيم الدينية التقليدية، فعاشت المسيحية والإسلام واليهودية والهندوسية والبوذية، موجة جديدة من الالتزام والثقة والممارسة، وبرزت فيها حركات أصولية متزمتة وملتزمة التنقية القتالية للعقائد الدينية ومؤسساتها، ومراجعة السلوك الشخصي والاجتماعي والعام وتشكيله بصبغة عقائدية دينية». فقد أصبحت الحركات الأصولية مثيرة، ويمكن أن يكون لها صدمات سياسية مؤثرة، وهي في السطح موجة أعطت معنى مختلفاً للحياة البشرية في نهاية القرن العشرين، وأدى تجدد الدين في جميع أنحاء العالم، إلى سمو نشاطات الأصوليين المتطرفين، وتجلى ذلك في مجتمع تلو الآخر في حياتهم اليومية، وفي العمل، وفي المشاريع الحكومية التي تهم الناس، واختفت علمنة العالم، لتصبح حقيقة اجتماعية في أواخر القرن العشرين، كما توقعها جورج ويجل. ويتساءل الكاتب: ما الذي غير العالم بأكمله من العلمانية إلى الدين؟. فالظاهرة العالمية تحتاج لتفسير عالمي، ويبدو بأن السبب الرئيسي هو السبب نفسه الذي كان من المفروض أن ينهي الدين من العالم، وهو عملية الحداثة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي اجتاحت العالم في النصف الثاني من القرن العشرين. فقد تخلخلت منابع الهوية وأنظمة السلطة، بتحرك الشعوب من القرية إلى المدينة، فانفصلت عن جذورها وانشغلت بأعمال جديدة، وتفاعلت مع مجموعات من الغرباء، وتعرضت لأنواع جديدة من التواصل والعلاقات، واحتاجت إلى منبع جديد للهوية، ونوع جديد من مجتمع مستقر، ومفاهيم أخلاقية جديدة، توفر الإحساس بمعنى الحياة والهدف منها. وقد استطاع الدين بجناحيه التقليدي والأصولي أن يحقق هذه الحاجيات، وقد عبر عن ذلك رئيس وزراء سنغافورة السابق، لي كوان يو، بقوله: «نحن مجتمع زراعي، تقدم في التصنيع خلال جيل أو جيلين، فالذي تم في الغرب خلال قرنين من الزمن، تم في مجتمعاتنا خلال أقل من نصف قرن. فقد اكتظ وتهشم هذا التقدم في وقت قصير، ومن الأكيد أنه سينتهي بالتفكك والاضطراب الوظيفي. ولو تأملنا الدول الصاعدة: كوريا وتايلاند وهونج كونج وسنغافورة، نجد ظاهرة ملفتة للنظر، وهي ظاهرة شروق الدين، فالعادات القديمة وأديان عبادة الأسلاف ومذاهب الاعتقاد بالشياطين لم تعد مقنعة، وهناك حاجة لتفسير أسمى لمعنى الحياة وهدف وجودنا فيها، وقد ترافق كل ذلك مع صدمة قلق هائلة في المجتمع». فلم يعد يعيش الإنسان بمنطق العلم فقط، ولن يستطيع التقدير والتصرف بعقلانية لتحقيق مصالحه الشخصية إلا بعد أن يعرف نفسه، فرغبته في السياسة، تعبر عن اهتمامه بهويتهم، وفي أوقات التغيرات الاجتماعية السريعة، تختفي الهوية، ونحتاج إلى التعرف على أنفسنا من جديد وخلق هويتنا الجديدة، وحينما نواجه السؤال: من أنا؟ ولمن أنتمي؟ يوفر الدين أجوبة مفروضة، أو قهرية، والجماعات الدينية توفر مجتمعاً صغيراً لتعوض ما فقده الإنسان في هجرة التمدن. وجميع الأديان، تزود البشر بالإحساس بالهوية والتوجيه في الحياة، ومن خلال هذه العملية، يكتشف أو يخلق البشر هويتها التاريخية الجديدة. ومهما تكن أهداف البشر العالمية، يوفر الدين هوية تميز المؤمنين منهم عن غير المؤمنين، وتفرق بين الأفاضل والمنحطين، وبينما زاد حزم الآسيويين في نموهم الاقتصادي، توجه المسلمون للإسلام كمنبع لهويتهم واستقرارهم وتشريعهم وتنميتهم وقوتهم وآمالهم ومعنى لحياتهم، واختصر ذلك في شعار: «الإسلام هو الحل»، بقبول الحداثة، ورفض ثقافة الغرب، والالتزام بالإسلام كدليل للحياة في عالمنا المعاصر. وقد عبر عن ذلك أحد المسؤولين السعوديين بقوله: «المنتجات الأجنبية مصقولة وجميلة وتكنولوجيتها متميزة، ولكن استيراد المؤسسات الاجتماعية والسياسية من مكان آخر قد يكون قاتلاً، والإسلام ليس فقط دين بل هو طريق للحياة، ونحن السعوديين نريد الحداثة ولكننا لا نريد الغربنة». وانبعاث الإسلام هو جهد المسلمين للوصول إلى هذا الهدف، وهو حركة واسعة ذهنية وثقافية واجتماعية وسياسية سائدة في العالم الإسلامي بأجمعه. ويبقى السؤال: كيف سيحقق العرب تنميتهم الاقتصادية والاجتماعية في الألفية الثالثة؟. هل سيطورون حداثة تجمع بين روحانية الدين ومنطقية العلم؟ وهل ستساعد ديمقراطية الغرب الليبرالية على تحقيق حداثة العرب أم ستعرقلها؟، ولنا لقاء. [c1]* عن موقع( إيلاف) الالكتروني[/c]