نبض القلم
تميز الإسلام بمنهجه الفريد في مكافحة الجريمة واستئصالها من جذورها من خلال خطين متلازمين ومتوازيين ألا وهما الجانب الوقائي والجانب العلاجي.أما الجانب الوقائي فهو يمثل الخط الأعرض والأهم في معالجة ظاهرة الجريمة وأسبابها وظروفها، فالإسلام لا ينتظر وقوع الجريمة حتى يتصدى لها، وإنما يتخذ لها كل الإجراءات والتدابير، وكل ما من شأنه الحيلولة دون وقوعها.أما الجانب العلاجي فهو لا يكون إلا نهاية الأمر، على طريقة (آخر العلاج الكي)، والحق أن الإيمان والعبادات والأخلاق في الإسلام تمثل المنطلقات الأساسية في صياغة الإنسان المسلم الصالح الطاهر العفيف في بناء مجتمعه وبناء الحضارة الراشدة.إن الإنسان المؤمن لا يقتل ولا يسرق ولا يكذب ولا يشرب الخمر، ولا يتعاطى المخدرات، لأن إيمانه يردعه ويصده عن فعل المحرمات، كما أن الطاعة والعبادة التي يقوم بأدائها تصده عن الوقوع في الإثم والمعصية، فصاحب الخلق الحميد تمنعه أخلاقه عن اقتراف المعاصي وارتكاب الجرائم، فالإسلام يسعى إلى بناء العقيدة في النفوس وغرس الفضيلة والخوف من الله، ويعتمد الإسلام على المجتمع أيما اعتماد ويعلق عليه آمالاً كبيرة في الوقوف والتصدي لكل أشكال الجريمة، فهو يعتمد على أفراد المجتمع جميعهم في محاربة الجريمة والحيلولة دون وقوعها أو تمادي أصحابها، وذلك بإنكار المنكر والفساد من ناحية ومقاطعة أهله من ناحية أخرى.فالمجتمع الإسلامي يسعى إلى تحسس أوجاع وحاجات أبنائه، فيكون المجتمع بذلك كالجسد الواحد اذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، بالإضافة إلى سد الأبواب والنوافذ المؤدية للفساد والشرور، ودرء الحدود بالشبهات، والإسلام يوفر العيش الكريم والعمل الشريف، ويرعى الفقراء والمساكين قبل أن يقيم حد السرقة أو يقطع الأيدي، كما يأمر بغض البصر وينهى عن الخلوة بالمرأة الأجنبية، ويمنع صور العري والعلاقات الجنسية المشبوهة، ويأمر بالسترة، ويسهل الزواج قبل إقامة حد الزاني من خلال التشريعات الخاصة والعامة.ومن أهم ملامح الجانب الوقائي كذلك إصلاح الجاني وفتح أبواب الفضيلة والستر أمامه، وكذلك فتح أبواب التوبة للعصاة والمجرمين، ولم يجعل الإسلام لليأس طريقاً إلى قلوبهم. قال تعالى: “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم” (الزمر 53).وكان بعض الناس قد أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل هرب، فأرادوا إقامة الحدود عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: هلا تركتموه يهرب؟ ويتوب ويتوب الله عليه” (رواه أحمد).وعندما لم يفلح الجانب الوقائي في إصلاح الأفراد وتهذيب النفوس يصبح من المؤكد وجوب الأخذ بالجانب العلاجي في الإسلام الذي يرتب لكل جناية عقوبة قال تعالى: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب” (البقرة 179).ويحدثنا التاريخ عن أشخاص كانوا من عتاة المجرمين، ثم هداهم الله فتابوا واستقاموا وحسن دينهم وسلوكهم، ورسخت عقيدتهم وأصبحوا من كبار الزهاد والعباد، فها هو الفضيل بن عياض (رحمه الله) كان قاطعاً للطريق خرج ذات ليلة يقطع الطريق، فسمع أحدهم يقرأ قوله تعالى: “ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق” (الحديد 16) فقال: بلى والله قد آن. فكان هذا مبتدأ توبته وإصلاحه.ثم إن الإسلام قد حذر المجتمع والدولة من تبعات الجريمة وخطر انتشارها، والتي ربما يشارك المجتمع في تفشيها ويساهم في وقوعها، وها هو العلامة ابن القيم يقول في أحد كتبه إنه إذا مات إنسان في بيته من الجوع ألزم الإمام أهل ذلك المكان بدفع الدية، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما آمن بي من مات شبعان وجاره جائع وهو يعلم بذلك” رواه البزاز والطبراني.إنه من خلال هذه الملامح العامة والمشرقة للمنهج الإسلامي في مكافحة الجريمة، واستقراء التاريخ الإسلامي يتبين لنا أثر تطبيق هذا المنهج، ونقول هذا ونحن نرى التخبط الذي تترنح فيه التشريعات المعاصرة البعيدة عن هدي السماء، ونرى الإخفاقات المتكررة للحد من الجريمة.إن الإسلام قد شرع عقوبات زاجرة للمجرمين الذين يعيثون في الأرض فساداً، ولكنه في الوقت نفسه قد احتاط في وسائل الإثبات وتحقق عناصر الجريمة وأركانها.إن التربية الدينية المستمرة بالحكمة والموعظة الحسنة من خلال المساجد، والتوعية المستمرة بالجريمة وأخطارها من قبل أجهزة الإعلام المختلفة وغيرها، من شأنه أن يسد الأبواب والنوافذ التي تؤدي إلى ارتكاب الجريمة، ثم إن إقامة الحدود، وتطبيق العقوبات الرادعة والشرعية هي خطوات تؤدي إلى مكافحة الجريمة وتنقية المجتمع من أخطارها.ولابد من الإشارة هنا إلى أن الجريمة قد تحصل في أي مجتمع لسبب أو لآخر، وهي منتشرة في كل زمان ومكان، وهي غير الحرابة التي هي مجمل الأنشطة التي تهدف إلى إشاعة جو من عدم الاستقرار في المجتمع باتباع جملة من وسائل العنف المنظم والمتصل بقصد خلق حالة من التهديد العام الموجه إلى دولة أو جماعة، وترتكبه جماعة منظمة لغرض تحقيق أهداف سياسية أو غيرها، فتلجأ هذه الجماعة إلى الاختطافات والاغتيالات والتفجيرات في الأماكن العامة، والهجوم المسلح على المنشآت والأفراد والممتلكات واختطاف السياح، وأعمال القرصنة البحرية والجوية، واحتجاز الرهائن أو قتلهم، وإشعال الحرائق، وغير ذلك من الأعمال التي تتضمن المساس بمصالح الدول الأجنبية، مما يترتب عليه إثارة المنازعات الدولية وتبرير التدخل العسكري، وهو ما يجعل أعمال الحرابة أو الإرهاب أضر بالمجتمع من الجريمة التي قد تحصل هنا أو هناك بين الفينة والأخرى، لأسباب متفاوتة، فالجريمة يمكن معالجتها والنظر في أسبابها والحيلولة دون وقوعها، وفي الوقت نفسه يمكن تبرير الدوافع إليها والعفو عن مرتكبيها، أما الإرهاب فليس له مبررات، سوى الارتهان لأعداء الوطن، والعمالة للقوى الأجنبية، وتنفيذ مخططاتها الرامية إلى الإساءة إلى الوطن وتعطيل عملية التنمية، والإضرار بالاقتصاد الوطني، وما حصل في صعدة من قتل للممرضات البريئات الآمنات ليس جريمة فحسب، بل هو نوع من أنواع الحرابة، التي يحاربها الإسلام وينبذ مرتكبيها، وينذر القائمين بها بالعذاب الشديد في الدنيا وفي الآخرة.[c1]* خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]