بعد مرور ستة وثلاثين عاماً :
القاهرة/14اكتوبر/ محمود حاتم: تعددت الروايات حول الثغرة وتقدم قوات شارون إلى الضفة الغربية من القناة من سلسلة الانتصارات التي حققها الجيش المصري منذ السادس من أكتوبر 1973 ووضحت الخلافات بين القادة، خاصة بين المشير أحمد إسماعيل والفريق سعد الدين الشاذلي ، لأسباب بدت لا علاقة لها بميدان الحرب، مثلما لم يتحمل الرئيس السادات كلمات الشاذلي حول كيفية تجاوز الثغرة أو الإنصات لما جاء في رسالة الرئيس السوري حافظ الأسد إليه التي أشار فيها إلى إمكانية تدمير القوات الإسرائيلية، ولأن السادات كانت له حسابات أخرى وانشغل بقناته السرية مع كيسنجر تعقدت الأمور ولم تصل إلى بر الأمان، والقصة في مجملها تستحق أن تروى.فيقول الرئيس حسني مبارك قائد الضربة الجوية في حرب أكتوبر عن قصة الثغرة: وقت الثغرة كانت القوات ستنسحب ، لكن الرئيس السادات قال: نستمر في القتال ، وقد كان رأيي مع استمرار القتال ، وأجاب عن سؤال: ألم تفلت أعصابه، السادات كما قيل في بعض الكتب؟ بالنفي لا البعض حاول تكبير المسألة لكي يبيعوا، وزاد من يعرف السادات جيدًا يدرك أنه لا ينهار السادات لم يكن سهلا.في حرب الثلاثين سنة -أكتوبر 37 السلاح والسياسة- يقول الكاتب محمد حسنين هيكل في جولة ممتدة استعرض خلالها أجواء الحرب ومواقف جميع الأطراف، يسبح بنا في بحر من المعلومات والوثائق التي تتناول جميع ظروف وملابسات وأحداث أكتوبر 1973 كان يوم 15 أكتوبر واحد من تلك الأيام التي يصدق عليها الوصف المشهور ضباب الحرب والمقصود به هو تلك الأيام التي تلي أو تسبق المعارك الكبري التي ينشغل فيها الأطراف بإعادة حساباتهم وبتأمل خططهم، وفي التفكير فيما يجب أو يمكن أو يحتمل، وكان الرئيس السادات صباح ذلك اليوم قد استوعب الصدمة العسكرية التي تلقاها في الأمس، وكان الموقف على الجبهة العسكرية مشوشا هو الآخر، فالهجوم المصري بالأمس لم ينجح، والهجوم الإسرائيلي لم يكن قد بدأ بعد، وفي تل أبيب اجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر في الساعة السابعة من صباح يوم -15 أكتوبر- وكان أمام المجتمعين تقرير من الجنرال بارليف يقول فيه: إن القوات جاهزة، وإن الموعد الذي تقرر لبدء الهجوم الإسرائيلي المضاد هو السابعة مساء، وأن اختراق المفصل ما بين الجيشين الثاني والثالث لفتح ثغرة بينهما إلى الغرب سوف يجري في منطقة الدفرسوار. وفي لحظة من اللحظات كان احتمال فشل العبور ماثلا أمام مجلس الوزراء الإسرائيلي، وقد وصلت إليه توصية من الجنرال ديان يقترح وقف العملية وصرف النظر عنها ، ولكن الجنرال بارليف أبدى معارضة شديدة لوقف العملية، وعمد إلى زميله الجنرال آرييل شارون بالتقدم بمدرعاته مهما كانت المقاومة أمامه بحيث يتحقق تأمين رأس جسر يمد عليه ولو كوبري متحركًا حتى تمكن المدرعات من العبور، وعند الضجر انفض اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي بعد أن تأكد أن عملية شارون تمضي في طريقها.كان الرئيس السادات حتى 16 أكتوبر يستعد لإلقاء خطابه في مجلس الشعب، وفي نفس التوقيت كانت جولدا مائير تعلن في الكنيست الإسرائيلي أن القوات الإسرائيلية تحارب شرق وغرب قناة السويس، وفي المساء التقي الرئيس السادات ورئيس الوزراء السوفيتي كوسيجين ولم يتعرض كلاهما إلى عملية الاختراق الإسرائيلي، وتم الاتفاق على تأجيل الاجتماع إلى صباح غد، والرئيس السادات يعتقد في سريرة نفسه أنه سوف يجيء في الغد ومعه موقف عسكري أفضل يتحقق به طرد قوات الثغرة، وبعد المقابلة مع كوسيجين أبلغ السادات باتصال تليفوني من الفريق أحمد إسماعيل أثناء اللقاء مع كوسيجين وترك له رسالة أن يتصل به في المركز رقم 01، ورأي الرئيس اختصار الإجراءات والتوجه إلى المركز. وكان وصوله في وقته تمامًا، فقد كانت الخلافات متفجرة بين وزير الحربية والقائد العام وبين رئيس الأركان، وكانت نقطة التفجير هي تصادم الآراء حول الطريقة التي يمكن بها التعامل مع ثغرة الاختراق الذي قامت به القوات الإسرائيلية، فالفريق أحمد إسماعيل من ناحية يري من الأفضل ضرب الثغرة من الشرق، بمعني سد الفتحة التي تتدفق منها المدرعات الإسرائيلية إلى غرب القناة، والفريق سعد الشاذلي، من ناحية أخري، يري أن قطع الثغرة عن سيناء من الغرب أكثر فاعلية لكن ذلك يقتضي سحب الفرقة المدرعة الرابعة من سيناء إلى غرب القناة لتقوم بهذه المهمة، وبلغ الخلاف بين الاثنين مبلغًا خطيرًا، خصوصًا أن الفريق الشاذلي كان قد اقترح في اليوم السابق على الثغرة، عملية من هذا النوع لإعادة التوازن إلى الجبهة بعد فشل تطوير الهجوم المصري إلى المضايق.وأدت حدة الخلاف بين الرجلين إلى موقف شديد الحرج لبقية القادة من هيئة أركان الحرب: وكان الأمر يحتاج إلى حكم أعلي منهما وهكذا كان وصول الرئيس السادات في اللحظة المناسبة تمامًا وبدأ كلاهما يعرض وجهة نظره أمام الرئيس وكان الفريق أحمد إسماعيل هو الأكثر رجاحة في هذه اللحظة، لأي مراقب ينظر للموقف نظرة شاملة: فالقائد العام لم يكن ينظر للموضوع من وجهة نظر العمليات فقط، وإنما كانت نظرته أشمل، وقد قال بوضوح: إنه إذا بدأ سحب قوات الفرقة المدرعة إلى غرب القناة في هذه الساعات، فإن القوات كلها في الشرق سوف تشعر بحركتها، وقد تتصور، خصوصًا مع انتشار أخبار الثغرة أن تلك مقدمة لانسحاب عام يقوم به الجيش المصري من الشرق وبالتالي فإن هذه القوات سوف تبدأ -راضية أو كارهة- في التأثر بعقلية الانسحاب، وهذا قد يعيد إليها أجواء سنة 1967.ويستطرد محمد حسنين هيكل ، كان الفريق أحمد إسماعيل على حق، ففي تلك اللحظات، وبصرف النظر عن أية آراء سابقة، فإن الاعتبارات النفسية للقوات كان لابد أن يكون لها الغلبة في أي حساب تخطيط لطريقة مواجهة الثغرة، لكن المشكلة الكامنة أن الاختلاف الذي احتدم بين الرجلين وتفجر، أخرج ما كان مكتوما في صدر كل منهما تجاه الآخر من تأثيرات علاقتهما السابقة، وكان منطقيا أن ينحاز الرئيس السادات إلى صف الفريق أحمد إسماعيل، لكنه من تأثير الضغوط الواقعة عليه ترك انحيازه يتحول إلى إهانة لرئيس الأركان، فقد ثار ثورة عارمة، وفقد أعصابه وأخذ يصرخ بعصبية قائلاً: إنه لا يريد أن يسمع من الشاذلي هذه الاقتراحات مرة ثانية، وإذا سمعها فسوف يقدمه إلى مجلس عسكري لمحاكمته، وهي واقعة ذكرها الفريق سعد الدين الشاذلي في مذكراته.وفي 17 أكتوبر تلقي الرئيس السادات من مكتبه للشئون العسكرية تقارير أولية عما يجري في ميدان القتال، كان أثرها المبدئي عليه هو أن طلب إخطار كوسيجين برجائه في تأجيل الاجتماع المتفق عليه صباح اليوم إلى بعد الظهر فلم يكن في مقدوره -من وجهة نظره- أن يجلس مع كوسيجين ويتفاوض بأعصاب هادئة وذهب السادات بعد الظهر إلى موعده مع كوسيجين، ولم يكن في أحسن أحواله، فالثغرة التي استطاعت بها القوات الإسرائيلية اختراق الجبهة المصرية في الدفرسوار لم تغلق، والعمليات في المنطقة يتسع نطاقها، والطيران الإسرائيلي يركز كل نشاطه على القوات المصرية التي تتصدي لعملية حصر ومحاولة تطويق جيب الاختراق الإسرائيلي، وقد أحس الرئيس السادات أن هذه الحالة تضعف موقفه أمام كوسيجين ولم يكن من حجم الحقائق التي توافرت لدي ضيفه من اجتماعاته واتصالاته في الصباح، وهكذا فإنه دخل إلى اجتماع مع رئيس الوزراء السوفيتي.وفي 18 أكتوبر جاء عدد من الضباط الشبان العاملين في القيادة العامة إلى قصر الظاهرة لمقابلة السادات الذي كان نائمًا، وأمام إصرار الضباط أيقظت السكرتارية الرئيس الذي استجمع أعصابه وتوجه إلى الصالون، وقال له الضباط إنهم جميعًا من ضباط القيادة، وقد لجأوا إليه باعتباره القائد الأعلي عندما شعروا طوال الليل أن القيادة العامة للقوات المسلحة في حالة انقسام تجاه ما يمكن عمله لوقف الثغرة، وفي حالة عجز عن مواجهتها، ومصير البلد في خطر ومصير قواتها المسلحة معرض لكارثة، وانتهي اللقاء وتوجه السادات إلى لقائه الأخير مع رئيس الوزراء السوفيتي ولم يطل اجتماعها أكثر من ساعة تم الاتفاق خلالها على نقطتين هما استعداد مصر لقبول قرار وقف إطلاق النار، في مقابل انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة طبقًا لقرار 242، وغادر السادات قصر الظاهرة قاصدًا المركز رقم 01 وقد استمع إلى تقرير من الفريق أحمد إسماعيل، ثم طلب من الفريق سعد الدين الشاذلي أن يتحرك فورًا إلى الجبهة وأن يتولي بنفسه وضع خريطة على الطبيعة لمواجهة تطورات الموقف في الثغرة.رواية أخرى للفريق سعد الدين الشاذلي يقول فيها: وقد ادعي السادات في مذكراته بأنني عدت من الجبهة منهارًا يوم 19 أكتوبر وأنني طالبت بسحب قواتنا من شرق القناة لأن الغرب مهدد، ويؤسفني بأن أقول: لقد كنا تسعة أشخاص ، مات واحد ومازال الثمانية الآخرون أحياء يستطيع أن يشهد بصدق ما يدعيه السادات، لقد طالبت حقًا بسحب جزء من قواتنا من الشرق إلى الغرب، وكانت مطالبتي بهذه العملية يوم 19 أكتوبر هي خامس محاولة جادة لانقاذ الموقف.وكانت التحركات متسارعة من بقية الأطراف في تل أبيب وواشنطن وموسكو، وفي 12 أكتوبر بدأ السادات يومه في حالة من العصبية الشديدة، فقد أحس أن الأمور على الجبهة مهددة بالتدهور، خصوصًا أن القوات المقاتلة في ميادين القتال بدأ يساورها شعور بأن قيادتها في القاهرة غير ممسكة تمامًا بزمام الموقف، وكانت القرارات العسكرية تصل إلى الجبهة مترددة في بعض الأحيان ومتضاربة بدأ السادات التحرك ودعا السفير السوفيتي وأبلغه أنه رغبة في تسهيل التفاوض بين بريجيف وكيسنجر في موسكو، فإنه قرر أن يفصل بين وقف إطلاق النار وبين مطلب العودة إلى خطوط 1967، كانت أيضًا بوادر الخلاف بين السادات والرئيس السوري حافظ الأسد تطفو إلى السطح عبر الرسائل المتبادلة بينهما، فالسادات الذي تجاهل الشريك السوري ولم يخطره بما يجريه من حوارات مع الأطراف الدولية، تلقي رسالة غاضبة من حافظ الأسد جاء فيها:أود أن أعيد النظرة مرة أخرى في الموقف العسكري على الجبهة الشمالية وعلي ضفتي القناة، وخرجت باستنتاج وهو أن الوضع لا يدعو إلى التشاؤم وأنه بالإمكان أن يستمر الصراع مع القوات المعادية سواء منها تلك التي اجتازت القناة إلى الضفة الغربية أم تلك الموجودة أمام قواتنا في الضفة الشرقية يمكن أن يؤدي استمرار القتال وتطويره إلى تدمير القوات المعادية التي عبرت القنال.