سلوى صنعانيلم يكن في حسبان أحد من أهالي حارة “الحاو” في حوطة لحج إن هذا الطفل الصغير الذي يلعب في أحضانها واليتيم الفاقد لحنان الأب وهو لم يتجاوز السابعة من العمر أن يصبح أحد عمالقة الفن اليمني ، وأن يتجاوز بهذا الفن تخوم اليمن إلى فضاءات الجزيرة العربية والخليج .. ومصر .. ولبنان.ذلك الصغير هو الفنان الأستاذ الكبير / محمد سعد عبدالله والذي ولد في حوطة لحج العام 1939م .. وعقب ولادته بسبع سنوات فقد أباه الفنان الذائع الصيت آنذاك / سعد عبدالله اللحجي .. فوجد نفسه في الحياة وحيداً متكئاً على يد أمه التي مضت تكد وتشقى كي يواصل تعليمه كأقرانه. فعقب تعلمه القرآن الكريم التحق بمدرسة “الشيخ صالح حسن تركي” ورغم مثابرته واجتهاده على التحصيل العلمي إلا أن ظروف الحياة القاهرة أجبرته على مفارقة الصف الدراسي، فمضى يشق طريقه الوعرة الدروب بأسى وحزن وحرمان في الحياة.لم يرث أستاذنا الراحل عن أبيه الفقير العمارات أو المزارع والبساتين ولا الأرصدة البنكية .. بل ورث بعض الآلات الموسيقية البسيطة .. التي أيقظت في داخله روح الفنان، وزرعت في وجدانه .. حب الفن.في الحقيقة تضاربت الآراء حول نشأته الفنية فمنهم من قال إنه قد تأثر بأبيه، وآخر نفى ذلك .. لأن والده قد فارقه وهو لم يزل صغيراً. والرأي الأخير قد أكده الفنان الراحل الأستاذ / محمد سعد الصنعاني في حديثه الإذاعي “مهرجان الذكريات” أن الفنان / محمد سعد عبدالله قد شق طريقاً خاصاً به وأن هذا الشبل من ذاك الأسد. وهذا لا يعني أنه قد تأثر بوالده .. ولكن حب الفن وعشقه وموهبته ورثها وحذت بهذا الفنان إلى ذلك المصاف الذي تجاوز من خلاله أباه والفنانين الذين رافقوه بل وتجاوز حتى نفسه.في سن مبكرة عكف على تعليم العزف على العود والآلات الوترية الأخرى .. في حين بدأ مشواره الفني كضابط إيقاع مع الفنان الراحل / محمد سعد الصنعاني وهو ما أكده لي شخصياً عند لقائي الأول به. بابتسامته الترحيبية وسماحته الطيبة أعطاني تفاصيل معالم منزلي. وقال : “أنا عشت في منزلكم فترة مع الوالد” كما ظهر مع الفنان / أحمد عوض الجراش والفنان عوض عبدالله المسلمي في الحفلات العامة وكذلك المخادر .. وقد جرت العادة في هذه المخادر أن يكون ضارب الإيقاع أو ناقر الدف يجيد الغناء بحيث يخفف العناء عن الفنان إن أنهكه التعب .. وكان صوت محمد سعد عبدالله العذب من أجمل الأصوات لأنه ذو موهبة وملكة قوية مكنته بعد ذلك من الانفراد بنفسه وتكوين شخصيته الفنية المستقلة وخصوصاً بعد انضمامه إلى عضوية “ندوة الموسيقى العدنية” التي أسسها الفنان الكبير / خليل محمد خليل وكان / د . محمد عبده غانم شاعرها الرئيسي.في هذه الندوة لا نقول أنه تخلق كفنان، بل التخلق الفني كان صفة فنية بداخله. وإنما ظهوره بأول لحن شق آذان الناس بجماله لقصيدة الأستاذ / د . محمد عبده غانم (محلا السمر جنبك) وقدمها بصوته العذب الشجي ثم جاء بلحن آخر لقصيدة هي من العيار الثقيل بالمفردة الفصيحة (سل فؤادي الحزين) من كلمات الأستاذ / إدريس حنبلة ومن نفس ذلك العيار لحن وغنى للأستاذ / يوسف مهيوب سلطان (بنور جمالك) .وعقب إنشقاق ندوة الموسيقى العدنية تم تشكيل “رابطة الأغنية العدنية” برئاسة الأستاذ / حسين إسماعيل خدابخش والتي أنضم إليها الأستاذ الراحل محمد سعد عبدالله واستمر معها وتوالت إبداعاته كمطرب وملحن وقد لحن قصائد لعدد من الشعراء مثل : (ظبي من شمسان) ليوسف مهيوب سلطان (غيروك) لأحمد سيف كبشي ولطفي جعفر أمان (ليش هذا الهجر) ولعلي أمان (ماله كدا طبعك) و(اللي سقاني المر) وهذا على سبيل المثل لا الحصر.وتألق وسطع نجمه في مجال الغناء والألحان كما قدم عدداً من الألحان لجملة من الفنانين ومنهم / طه فارع وسعيد أحمد بن أحمد ومحمد محسن أحمد (المحسني) وأحمد على قاسم وأمل كعدل وكفى عراقي مثلما غنى ولحن للشاعر / عبدالله عبدالكريم (بصراحة كنت في الماضي حبيبي) و(جدد أيام الصفا) لأمين أحمد مقبل.في هذا الزخم الفني العارم .. فجأة ظهرت موهبته الشعرية التي صاغت أجمل المفردات وأعمق المعاني التي استحوذت على وجدان الناس وعشقهم لمحمد سعد عبدالله .. فكانت رائعته الأول في مجال التأليف واللحن والغناء (يا ناس ردوا حبيبي) وكانت البداية التي لها جسر طويل من التواصل والتعاطي مع التأليف الذي عكس رصيده كل معاناة وعواطف الشاعر المبدع . الأمر الذي أثار حفيظة البعض تجاه هذه الموهبة الربانية .. فزعموا إنها لغيره ..وواجه موجة قوية ممن تحسسوا من نجاحات الشاعر ومن روائعه .. وكما قال هو في مقابلة تلفازية إنه ماكان يقرض الشعر ويقدمه بأسماء آخرين وتجنباً لمثل هذه المواجهات ولكن سيل الهوى العرم في وجدانه أكتسحه وأكتسح حياءه وعذاله فاضطر إلى الإفصاح.قدم الأستاذ / محمد سعد عبدالله أكثر من (130) نصاً شعرياً ، حمل أكثر من طابع وميزة منها العاطفي الغزلي ومنها الرمزي والوطني والموضوعي ومثلما تنوع في شعره كذلك تنوعت ألحانه في مقاماتها وصياغتها فأتت كما يقول شاعرنا الكبير صالح” على ما يشتهي الإنسان” سقى الله روضة الخلان.لا يمكن .. بل وعلى الإطلاق أن نتجاوز في هذه العجالة ذلك الأثر الذي تركته وفعلته أغانيه الوطنية في إلهاب المشاعر الوطنية لدى المواطن في نضاله ضد الوجود البريطاني .. ولا أغانيه الرمزية ومنها رائعته “ قال بن سعد أو “ يا يمني هذه بلادك” الذهب الأحمر وبلاد الثائرين وسعيدة ومواكب الثورة ! زائر من الأرض .لم يغن الفنان الراحل بن سعد لوحده بل غنى له العديد من الفنانين اليمنيين وعلى رأسهم الفنان محمد مرشد ناجي (قائد الجيش البريطاني) والفنان المعروف عصام خليدي (حادي العيس) ، ( فل نيسان ) وكذا من فناني الخليج والجزيرة .. ومعظمهم رددوا رائعته ( كلمة ولو جبر خاطر) ومنهم عبد الرب إدريس وعبادي الجوهر ولهذه الأغنية أثر في نفسي لأنها أسهرت عيني أستاذنا الراحل فقد زرته في العام 2002م قبل سفري إلى دولة الإمارات .. وظللت أتواصل معه هاتفياً ذات ليلة تحصلت على دعوة لحضور حفل في قاعة الغرفة التجارية بدبي ولحضور حفل بمناسبة مهرجان دبي تحت عنوان ( ليالي دبي ) والذي كان يبث عبر الفضائيات وأفتتح الفنان الفنان عبادي الجوهر بأغنية (كلمة ولو جبر خاطر) وكنت في الصف الأمامي “ هاتفت والدي محمد سعد عبدالله بأن يفتح التلفاز ليستمع إلى الأغنية ، في الوقت نفسه أزعجني سلوك الفنان عبادي الجوهر الذي لم يذكر اسم شاعر وملحن هذه الاغنية الذي يعيش معاناة المرض والفقر في آن واحد، فأرسلت له رسالة معاتبة بعثتها إليه وهو وراء الكواليس.فرد عليَّ مرافقه وما يطلق عليه “البودي جارد” يطلب مني فيه هاتف الأستاذ الفنان محمد سعد عبدالله ليهاتفه من أجل بعض الأعمال الفنية وفرحت في داخلي وعدت اهاتف أستاذنا القدير وأخبره بأنه سيتلقى مكالمة من الفنان عبادي الجوهر بخصوص بعض الاعمال الفنية وانتهت السهرة .. وفي اليوم التالي هاتفت أستاذنا متسائلة عن نتائج اتصالات عبادي به .. لكنه أجابني وبألم لا لم يتصل بي وانتظرته طوال الليل ،يا بنتي الصبر جميل وندمت وتألمت وتمنيت لو أنني لم أبلغه ولا تعليق لدي على سلوك الفنان عبادي الجوهر ولكن وكما قال بن سعد “ تكفي الحليم الإشارة”.وعودة إلى ذي بدء فقد غنى لابن سعد العديد من الفنانين ومنهم المذكورون آنفاً مثلما غنت له الفنانة اللبنانية هيام يونس (إنت ساكن) (ويش با يفيد الدلع ) وكانت أغنية (يوم الأحد في طريقي) و(كلمة ولو جبر خاطر) أكثر الأغاني شيوعاً وانتشاراً في اليمن والجزيرة العربية والخليج .شكل الرجل بمفرده مدرسة مثلثة الأضلاع سواء بموهبته الغنائية وصوته المتفرد وأدائه المتقن أم بألحانه الخالدة متنوعة المقامات والكوبليهات والمذاهب أو مفردات شعره المتلألئة وكالجوهرة .. وأعطى الكثير من صحته وعمره ووجدانه ليرتقي بمستوى الأغنية اليمنية ويحلق بها عبر الفضائيات البعيدة وأثرى الفن اليمني بهذا الرصيد الضخم من القصائد وألحانه الرائعة والخالدة.ولم يؤد أستاذنا الراحل الأغنية اليمنية بمختلف ألوانها وخصوصيتها التراثية فحسب بل وألف ولحن وأضاف ولعل (أمير العند) و(غزال البيد) شاهدتان على ذلك بل وغنى اللون المصري والكويتي والعراقي وأداها بقدرة تفوق التصور.وشكل الرجل مرجعية فنية وثقافية للكثير من فناني الساحة اليمنية وقدم لهم الكثير من الأعمال الفنية وشجعهم حتى صلب عودهم .
الفقيد مع الفنان يوسف شعبان
الفقيد مع الفنان محمود الجندي
المحتفى به بن سعد ولفيف من الفنانين والمثقفين والأدباء يتقدمهم الفنان الخليدي والأديب والشاعر نجيب مقبل والقاص عبدالرحمن عبدالخالق والأديب والشاعر جميل ثابت والشاعر الغنائي علي حيمد بالاضافة الى العديد من الشخصيات والحضور الذين شاركو في احياء الفعالية بمركز حنبلة.