د. أحمد صالح رابضةتواترت وفيات الأصدقاء والأحبة وهي سنة الله في خلقه ولا مرد لقضائه وقدره، قبيل حلول هذا الشهر الفضيل من عام 1430هـ الموافق 2009م بدءاً بالأستاذ الفاضل الأديب عبدالله فاضل مستشار رئيس جامعة عدن والأستاذ الدكتورالبحاثة الكبير جعفر الظفاري مؤسس مركز الدراسات والبحوث بجامعة عدن ( ولي معه ذكريات ينبغي أن نفرد لها حديثاً منفصلاً في حلقة قادمة أن شاء الله )، والشاب الخلوق الشهيد ياسين حيدر مدير مراكز تحفيظ القرآن في عدن عضو المجلس المحلي فيها،والذي طالته رصاصات الغدر الآثمة،وهو الآخر نحسبه من الأفراد القلائل الذين تحلوا بصفات قلما نجدها في الآخرين،من علو الهمة في خدمة المواطنين وصدق النية في التعامل مع قضاياهم، وهو من أؤلئك الذين لايرجون جزاء ولاشكورا من أحد من الناس ، ووصولاً إلى الأستاذ الصديق الكبير والمربي القدير يوسف حسن سعيدي الذي وافته المنية في الثاني من شهر رمضان الفضيل من عام 1430هـ /2009م ،وقضت المقادير أن يتوفى في ذكرى يوم مولده الموافق 1918م و يكون بذلك قد أكمل الحادية والتسعين من عمره .ولا شك أنني في هذه العجالة لن أقف إلاّ على صور محددة من حياة هذا الفقيد ،وهي الصور التي أرتسمت في ذهني ومخيلتي، فهو من الأصدقـــــــــاء المتميزين الذي يضعون بصماتهم بقوة في حيوات أصدقائهم .تجدر الملاحظة أن بعض مراجع تاريخ عدن الحديث والمعاصر قد اشارت إلى هذه الشخصية، ولعل أبرز اشارة وردت في كتاب الأستقلال الضائع للأستاذ عبده حسين الادهل ، تشير إلى أنه من أوائل الخريجين من أبناء اليمن في عدن وترددت هذه الأشارات عند فيتالي ناوؤماكين في كتابه الجبهة القومية وعلي صلاح لرضي في كتابه تاريخ التعليم في عدن والمصري في كتابة النجم الاحمر فوق اليمن وغيرها .ويظهر انه بعد تخرجه شغل منصب مدير مدرسة السيلة «المتحف الحربي حالياً « وهي من أعرق المدارس حيث شيدت في سنة 1918م على الأرجح الأعم على طراز فيكتوري هندي ،على غالب الظن،وتعد معلماً تاريخياً بارزاً في عدن .وشيدت في الخط نفسه لفيف من المدارس اليهودية والعربية إحداها ما أنفكت قائمة تشغلها اليوم أدارة الضرائب في عدن وكانت تسمى فيما تقدم من السنين ب مدرسة « سليم اليهودية».كما تقف مدرسة قديمة أخرى قبالة منزله الذي يقف بحذائه منزل الشاعر الأديب الكبير القرشي عبدالرحيم سلام قد قامت اليوم على انقاضها المكتبة الوطنية في الثمانينيات من القرن الفائت .لم أقف على طرائق التدريس في مدرسة السيلة ، لكن المتبادر أن ادارة المدرسة كانت تضم لفيفا من خيرة الاداريين والمدرسين الأكفاء ، ويترأس مجلسها الأستاذ السعيدي الذي تساعده قامته الفارعة وقوة شخصيته على خلع هالة من التبجيل والتقدير والأحترام له في عموم المدرسة كلها ، ومع ما تحلى به من دماثة الخلق والتواضع ، فقد كان مديراً مهاباً يخشاه التلامذة والمدرسون على حد سواء .
وفي خضم مشاغله التربوية فقد أعتنى كثيرا بالسباحة وساهم مساهمة فاعلة في تأسيس مسبح حقات وشغل منصب المدير فيه .... وقد غمره بعنايته وأحاطه برعايته .... وكنت تراه في المسبح في السبعينيات يرقب كل شيء عن كثب ، وقد اراد نسخ التجربة البريطانية في فن السباحة متوخيا الأخذ بكافة أرشاداتها، وطرائقها وأفلح في الكثير منها وأخفق في بعضها ...... [c1] *** [/c]وأيا ما كان فقد كان مسبح حقات في عهده أنموذجا رائعا من المسابح المتطورة في مدينة عدن حيث لم يأل جهدا في سبيل تطويره الا بذله ... وكان كثيرا ما يرفع الالتماس خلف الالتماس إلى جهات الاختصاص لايلاء المزيد من العناية وكان اخلاصه وحده يجعل تعاون هذه الجهات ممكنا ، وليس من الغلو القول أن عقد المسبح انفرط بمجرد أنصراف الأستاذ السعيدي من المسبح حيث تلقفته أيادي أخرى عاثت فيه ولم تحسن القيام به فأغلق أبوابه في وجوه محبيه ومريديه ، وهو المسبح الوحيد في مدينة بركانية المنشأ ، اما السعيدي فقد ألقى عصا تسياره على حين غرة ووقف وقفة أعياء بيد أنه سرعان ما واصل ترحاله فعين مديرا لمكتبة مسواط ، أن لم تخني الذاكرة وكان في عمله الجديد مثالا كما عهدناه للأداري المخلص المتفاني في عمله المحب لوطنه ... وكان يجهد نفسه كثيرا متتبعا أمور الفهرسة والتصنيف والتنسيق والحفظ والتداول والتزويد وكأنه متخصص فيها ... وكان يؤذيه كثيرا عبث بعض القراء بالكتب المعارة ، فينبه بضرورة الالتزام بالقراءة السليمة للكتاب والحفاظ عليه ، وله الكثير من اليافطات والشعارات الداعية إلى ذلك .... أما الهدوء في قاعات القراء فحّدث ولا حرج ، أذ كان يلزم الأداريين والقراء على حد سواء بضرورة الألتزام بذلك وقد يضطر إلى التشاجر معهم معتبرا الصمت والهدوء في قاعات المكتبة جزءا لا يتجزأ من حضارة الأنسان المتمدن .
وكنت قد قرأت في مكتبه- الذي كثيرا ماأرتاده- الكثير من التراث الهندي والباكستاني المترجم،ومنه ماكتب عن المهاتما غاندي والشاعر أقبال وغيرهما،ولعل من النصفة القول: أن هذا الأداري المتميز لم أره قابعا في مكتبه الا في أوقات قلائل من اليوم فهو كثير التجوال في المكتبة مراقبا أوضاعها وسير أعمالها ومن طرائفه التي لا ينبغي أغفالها أنه إذا رأى حمام المكتبة( التواليت)على حد قوله ملوثا اقام الدنيا وأقعدها ، فإذا أكتشف أن الجاني أحد القراء استدعاه وأدخله عنوة إلى الحمام ليزيل الأوساخ والشوائب من الحمام ,كانت مكتبة مسواط في عهده في السبعينيات من القرن الفائت صورة منه , يتوخى فيها النظافة والدقة والنظام والتنسيق والترتيب كما لو كانت داره التي يأوي إليها ويرتاح فيها , وكانت زاخرة بالكتب مصادر ومراجع , العربية والأنكليزية والأردية وغيرها ولكل قسم فيها خصوصياته , ولعلي مازلت أذكر إنه ذات مرة ألتمس كتاب في قسم المراجع الأنكليزية فوجده مغبرا والتراب عالق به , فأستدعى المختص وأطال في تأنيبه حتى كاد يبكي, وعلى الرغم من الظروف التي أحاطت بتلك المرحلة فإنه كان يسعى جاهدا إلى تزويد المكتبة بالجديد والمستجد من المعارض التي تقام بين الحين والآخر وكان يقع في حيص بيص حينما تفرض عليه جهات الأختصاص شراء كتب بعينها تتفق مع توجهات المرحلة فتأبى نفسه ذلك ويميل ميلا شديدا إلى كتب التراث والقصص التراثية والعلمية , ثم ترجح كفته فيبتاع مايشاء من الكتب التي يرى ضرورة توفرها في المكتبة ولكنه في الغالب الأعم لايحفل بطنين أجنحة الذباب على حد قوله , ولا يلتفت لآراء بعض الصغار ويقف منافحا عن رآيه وأذكر أن أحدهم أعتبر كتاب « الفقه على المذاهب الأربعة « من الكتب المحظورة التي ينبغي الحذر منها , ودعى إلى ضرورة إنتزاعه من موضعه فأصر الأستاذ يوسف على رأيه , وأبقاه في موضعه من المكتبة وتعليل ذلك لا يحتاج إلى إطالة قول .[c1] *** [/c]
وتقلب صاحبنا في العديد من الوظائف الحكومية وشغل منصب مدير عام الشئون المالية والأدارية في المركزاليمني للأبحاث الثقافية والآثار والمتاحف وكان الأستاذ البحاثة عبدالله أحمد محيرز مدير عام المركز يطمئن إليه ويثق فيه , لكنه كان وقتئذ قد دلف إلى العقد الثامن من عمره فضعفت همته الأدارية وأخذت آفة النسيان تتسرب إلى ذهنه رويدا رويدا ،ومع ذلك ظل يمارس مهامه حتى حل محله مديرمالي وإداري آخر , ومنذ أن تحلل من قيود الوظيفة وبشكل تدريجي أو كاد, كنت في مطالع الثمانينات قد شرعت في توثيق معالم مدينة عدن التاريخية , وقيّض الله لي هذا الصديق الكبير الذي أصر أن يصطحبني ويرافقني في جولاتي المتواضعة في جبال عدن ودروبها ووهادها باحثا ومستقصيا ومصورا للمعالم والسدود والقلاع والحصون، وكان حينها قد بلغ سنا تسميه العرب «دقاقة الرقاب « العقد السابع من العمر ويزيد , وقد ألتمست المعونة والتوفيق من الله قبل الشروع في جولاتي معه , خشية أن يصاب هذا الصديق الكبير بأذى .وكيفما كان الحال , أخذ الأستاذ يوسف عصاه وأخذنا في التجوال في جبال عدن وحصونها وأسوارها القديمة بدءا بجبل صيرة والخضراء وأنتهاءا بشمسان وضراس « أبو الوادي ومعاشيق « وكنت أرى همة فيه لانظير لها وقدرة فائقة في التسلق بحيث قذف بعصاه التي كان يتوكأ عليها ولم يستخدمها بعد ذلك،فزادني ذلك خوفا عليه من التعثر والسقوط رغم أنني كنت أسلك المسالك المعبدة , وفي ذات مرة أسدل الليل ستاره أو أوشك، على حين غرة وأخذت الكلاب تنبح في الجبل فأضطرنا إلى قذف أنفسنا في منحذر ترابي أفضى بنا إلى أبي الوادي , وقد أفلحنا ولكن بعد إصابات وخدوش في أجسادنا لعل أثارها مابرحت في جسدي .لقد كان رحمة الله عليه جلدا صبورا وكان يميل كثيرا إلى حب التراث والتراثيين ويسعى جاهدا إلى تشجيع الشباب على العمل والجهد والمثابرة في كل مجال يرغبون فيه وكان كلما أحس بوطأة الملل والضجر تسيطر علَيّ يقول : أتحسب أنك نجم صغير [c1] *** [/c] وفيك أنطوى العالم الاكبر.[c1] *** [/c]وجملة القول , فإنه ليس من الغلو والتزيد القول : أن يوسف السعيدي يعد بحق من أعلام عدن البارزين وله أدواره الفاعلة في الأدارة والتربية والتعليم والرياضة , وعليه فإنه ينبغي أن نذكر لذوي الفضل فضلهم ولا نغمط الناس المتميزين حقهم في التنويه بذكر محاسنهم ولو بعد رحيلهم وهذا دأبنا فنحن لانذكر أعلامنا إلا بعد الرحيل . رحمة الله عليك أيها الصديق الكبير فقد كنت ترجو أن يختلط تراب جسدك مع تراب سكان القطيع ومثاويهم الطاهرة وتمتزج أنفاسك بأنفاس البيلقاني ولطفي وفاضل وياسين وأجداث من سبقك ومن لحق بك .إننا نعلم على القطع إنك تود ذلك ، ولكن لم تظفر به، فقد كانت السحب وقتئذ تغمر الكون فلا تدعك تمد بصرك إليهم وكانت المقادير تستنهضك للمضي إلي حيث تريد هي , وكانت الشارقة هي المثوى الأخير لك،حيث سلواك وفلذات كبدك .[c1] *** [/c]
لقد كنت ـ صديقنا الكبير ـ مثالا للأداري «الكلاسيكي « المخلص الذي وهب نفسه لوطنه وخرج بخفي حنين فقد كنت تبذل الغالي والنفيس من حر مالك « راتبك الضئيل « لأصلاح مالم تستطع الادارات الهشة إصلاحه ولا ترجو جزاء ولا شكورا وفقدت دارك التي شيدت في مقط التراب عين اليمن , ودعوت كما دعونا في مظاهرة «العجب العجاب» في السبعينيات من القرن الفائت إلى تخفيض الرواتب وتأميم المساكن , فخفض راتبك وأمم مسكنك وكدت تعض على نواجذك من الغيض والكمد وبكيت أمام المرآة حزنا على ضآلة الراتب وفقدان الدار لقد جنت على نفسها براقش !!إن عين اليمن تود لو كنت في ثراها ثرى نقيا طاهرا , فهي ماأنفكت تحن إليك وإلى جهودك المثمرة في مدرسة السيلة، ومسبح حقات،ومكتبة مسواط، ومركز الأبحاث الثقافية , ولكننا في الختام إلى الله وحده نفزع في إلتماس الرحمة لك والرضوان وأن يسكنك فسيح الجنان والحمد لله الواحد المنان الذي لايبقي على الارض لاانسا ولا جان .
![السعيدي في مكتبه بمكتبة مسواط السعيدي في مكتبه بمكتبة مسواط](https://14october.com/uploads/content/0909/7SWPTVW5-1J95HE/as_12680.jpg)
السعيدي في مكتبه بمكتبة مسواط
الراحل يوسف السعيدي خامساً مع أعضاء ادارة مكتبة مسواط في السبعينات
منظر عام لجبل شمسان أمام قصر السلطان
مزار ريحان الظافري في منطقة أبو الوادي بكريتر