على طريق التحرر من عبوديــة النقل وإعادة الاعتبار للعقل
هناك مؤسسات رسمية تزعم أنها منارة الإسلام، وهناك طوائف تدعي أنها مفوضة لأن تحكمنا باسم الإسلام. وفي أماكن كثيرة من “العالم الإسلامي” تجد أولئك المتاجرين والمرتزقة باسم الإسلام. سواء من كان منهم في موقع السلطة أو من يطمح في الوصول إليها. ولقد تحول دين الله تعالى الذي نزل في رسالاته السماوية إلى كهنوت، تحول به من إسلام لوجه لله تعالى إلى ما يشبه اليهودية والنصرانية و السنية و الشيعة و التصوف والقاديانية و البهائية، حيث الكهنوت والأحبار والرهبان والشيوخ والأئمة والبابوات و القديسين والأولياء والمعابد والمزارات و الأعياد و الموالد . نزل القرآن رسالة خاتمة من الله تعالى لأهل الأرض، لتجعل العلاقة مباشرة بين الله تعالى والناس، فالله تعالى أقرب إلى الناس من حبل الوريد، وإذا سأل عباده عنه تعالى فإنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأنه ما من دابة إلا هو مسيطر عليها، يرزقها حيث كانت، وأنه تعالى لا يشرك في حكمه أحدا من الناس، وأنه وحده تعالى المعبود، وليس لعباده من دونه ولي ولا نصير سواه جل وعلا . وبالتالي فلا حاجة لأي كهنوت مقدس من أشخاص أو من طوائف أو من مؤسسات.. ولكن ما لبث أن عرف المسلمون الكهنوت وتقديس الأولياء والطوائف.الاسلام له وثيقة إلهية واحدة أوكتاب إلهي واحد هو القرآن الكريم ، وقد جعله الله تعالى ميسّرا للذكر ، اى من السهل أن يفهمه كل من أراد أن يهتدي به ، ومن الممكن لأى إنسان أن يقرأ و يفهم القرآن بسهولة فى ميدان الهداية حيث الوضوح لا مثيل له . ومع ذلك ففي القرآن الكريم مستويات للتعمق و البحث تستلزم مقدرة على البحث واستعدادا له و تفرغا فى سبيله . والباحثون نوعان : منهم من يبحث طالبا للهداية ، وأولئك هم الراسخون فى العلم ، ومنهم من يبحث ليفرض رؤيته على القرآن أو ليهدم الاسلام بالتحريف فى المعاني وانتقاء ما يريد وتجاهل ما لا يريد . وبينما يزداد الباحث المؤمن ببحثه القرآني علما وهداية فان المتلاعب بالقرآن لا يزداد بعمله إلا ضلالا. وفي كل الأحوال فليس الباحث هنا أو هناك ممثلا لدين الله أو ناطقا باسم الله، هو يعبر عن نفسه واجتهاده ، وهدايته أو ضلاله . وفي مجال الاحتراف الديني فالباحث الراسخ في العلم الذى يبغى الهداية و يسعى لها ـــ ملتزما بطاعة الله جل وعلا ـــ لا يطلب من الناس أجرا لأنه يعلم انه لا مجال للاحتراف الديني فى الاسلام . أما الباحث التابع لدين أرضي فمهمته احترافية ، تتمثل فى أن يشتري بآيات الله جل وعلا ثمنا قليلا ، ليقول للناس ما يحبون ، وليفتى للمستبدين بما يريدون. ومجال الاحتراف الدينى واسع وعريض . يبدأ بالتكسب بقراءة القرآن على المقابر وسرادق العزاء والمواكب والاحتفالات ، مرورا بفتح (عيادات ) لممارسة الشعوذة تحت واجهة العلاج بالقرآن، وصولا الى استغلال الدين للسيطرة على الحكم أوللاحتفاظ به. كل منهم يشترى بآيات الله جل وعلا ثمنا قليلا متحديا نواهي الله وأوامره. قال تعالى : ((وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ )) ، وقال تعالى : ((فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ )) ، وقال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) ( البقرة 41 ، 79 ، 174 ) ، وقوله تعالى: ((إ ِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) ، وقوله تعالى : (( وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ )) ، وقوله تعالى : ((وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) ( آل عمران 77 ، 187 ، 199 ) ، وقوله تعالى : (( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )) ( المائدة 44 ) ، وقوله تعالى : ((اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )) ( التوبة 9 ) ، وقوله تعالى : ((وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )) ( النحل 95 ). ومهما بلغ ذلك الثمن ارتفاعا فسيظل ثمنا قليلا بالنسبة لما ينتظر صاحبه من عذاب هائل يوم الدين .[c1]الاحتراف الديني أهم ملامح التناقض بين الإسلام وأديان المسلمين الأرضية[/c]والثابت ان الإسلام ضد الاحتراف الدينى من حيث المبدأ ومن حيث التاريخ. ونتوقف هنا مع عداء الاسلام للاحتراف الدينى الذى أصبح أهم ملامح التدين فى أديان المسلمين الأرضيــة :. الأنبياء رسل الله تعالى أبعد الناس عن الاحتراف الديني، برغم وظيفة النبوة والرسالة، فالنبى ليس عليه إلا إبلاغ الرسالة، ومن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فعلى نفسه، ثم هو لا يأخذ أجرا من الناس، ولا يدعى لنفسه جاها دينيا أو دنيويا بسبب النبوة، إذ لا يدعى أن لديه خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا يدعى أنه ملك ، قال تعالى : (( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ )) (الانعام 50). ولا يدعى أنه يملك لنفسه أو لغيره نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ، قال تعالى : (( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )) (الاعراف 188). وغاية ما هنالك أنه بشر ولكن يوحى إليه ، قال تعالى : (( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )) (الكهف 110). وهذا الوحى يزيد من مسئوليته أمام الله تعالى يوم القيامة، إذ يكون حساب الأنبياء يعدل حساب الأمم البشرية جميعا ، قال تعالى : ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ )) ( الاعراف 6 ) .. نفي الاحتراف الديني عن الأنبياء وثيق الصلة بعقيدة الإسلام، حتى لا يكون الأنبياء واسطة بين الناس ورب الناس، وحتى تكون عقائد الناس خالصة فى الاعتقاد في ألوهية الله تعالى وحده بلا واسطة أو وسيلة يزعمون أنها تقربهم لله زلفي، فإذا كان النبي ليس له من الأمر شيء ، قال تعالى : (( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ )) ( آل عمران 128 ). وإذا كان سيتخاصم مع أعدائه أمام الله تعالى يوم القيامة على درجة المساواة بينه وبينهم ، قال تعالى : (( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ )) (الزمر-31). وإذا كان سيحاسب أمام الله تعالى يوم القيامة مثل قومه تماما ، قال تعالى : (( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ )) (الزخرف 44). وإذا كان لا يستطيع أن يحمل شيئا فى الحساب عن أصحابه ولا يستطيع أصحابه بالمثل أن يحملوا عنه شيئا من حسابه ، قال تعالى : ((وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ )) (الأنعام 52). وإذا كان لا ينفع يوم القيامة أولاده ولا أهله ولا أقاربه ، قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ )) ( لقمان 33 ) ، وقال تعالى : ((يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ )) (عبس 34). إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للنبى فإن الوحى الإلهى له بالرسالة لا يزيد شيئا فى بشريته، إذ يظل بشرا وتظل الألوهية لله وحده، لا يشاركه فيها أحد من خلقه، طالما كان الانبياء - وهم صفوة الخلق - محصورين فى دائرة البشرية، ما عليهم إلا البلاغ، ولا يأخذون على هذا البلاغ أجرا من البشر.وبعد الأنبياء فمجال الدعوة مفتوح أمام كل إنسان ليدعو إلى الله تعالى على بصيرة متبعا طريق النبى عليه السلام ، قال تعالى : (( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) (يوسف 108). ولكن إذا طلب من الناس أجرا على هذه الدعوة فقد ضل عن الهدي ، فالله تعالى يقول محذرا من الاحتراف الديني (( اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ )) (يس 21) ومجال العلم بالدين مفتوح أمام الجميع، وليس حكرا على أحد، وكل إنسان يخطيء فى حكمه ويصيب، والقرآن يحكم على الجميع، والعبرة فى الفتوى ليست بالقائل وإنما بمدى اقتراب قوله من الحق، والفتوى ليست ملزمة، ولذا قيل : كلامنا صواب يحتمل الخطأ، وكلام غيرنا خطأ يحتمل الصواب.. والإسلام - أيضا - ضد تاريخ الاحتراف الدينى الذى سبق نزول القرآن أو عاصر نزوله. ففى قصص الأنبياء فى القرآن، كان أهم خصوم الحق هم المترفون الذين يعبدون التقليد، وأعوانهم من (رجال الدين) الذين يبررون لهم أوضاعهم الاجتماعية الظالمة، ويقومون بتحريف الدين المتوارث ليرضى الناس عن ذلك الظلم الاجتماعى والفساد الخلقي، وعجلت آيات القرآن بالهجوم على أولئك المترفين المكذبين ودورهم فى تدمير المجتمع ، قال تعالى : ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا )) (الإسراء 16). لأنهم دائما يكذبون الرسل ، قال تعالى : (( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ )) ( الزخرف 23). كما أوضحت آيات القرآن دور علماء السوء أو (رجال الدين) الذين يخدعون المستضعفين ويحملونهم على الكفر بالحق ، (( وَمَا أَضَلَّنَا إِلا ّ الْمُجْرِمُونَ )) (الشعراء 99) ، وقوله تعالى : (( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُول * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا )) ( الاحزاب 66- 68 ) . كما أوضح القرآن وظيفة الاحتراف الدينى فى أنها تحويل الدين إلى سلعة معروضة للبيع والشراء، ولذلك تكرر قوله تعالى ((وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً )) ( البقرة 41 ، المائدة 44). وتوعد الله تعالى من يحول الدين إلى تجارة واحتراف، بأن الله جل وعلا سيكون خصما له يوم القيامة، ولن ينظر إليه ولن يزكيه، وسيلقى أشد العذاب ، قال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) (البقرة 174 ). وقال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) ( آل عمران 77) .وتحدث القرآن الكريم عما كان يفعله بعض محترفى التدين من أهل الكتاب، وتوعد من يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، وليبيعوا صكوك الغفران وقصور الجنة للسذج، ويزعمون أنهم سيخرجونهم من النار إذا دخلوها، ويؤكد القرآن على أن من يدخل النار لن يخرج منها أبدا ، قال تعالى : (( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ )) ( البقرة 79 ) ، وقال تعالى : (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ )) ( آل عمران 24 ) .كما تحدث القرآن عن كثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ويكنزون الذهب والفضة، وتوعدهم بالعذاب ، قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )) (التوبة 34)، وكيف حولوا أنفسهم أربابا من دون الله ، قال تعالى : (( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة 31) .تأسيسا على ذلك الاحتراف الديني ، ولذلك دعا الله أهل الكتاب لإخلاص الدين لله وحده، وألا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله ، قال تعالى : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) ( آل عمران 64 ) .أى أن القرآن الكريم فى حديثه فى نصح أهل الكتاب، أوضح أن الاحتراف الدينى يضفى التقديس على من يجعلون أنفسهم رجال الدين، وليس فى رسالات السماء وجود لما يسمى برجال الدين، كما ليس فى دين الله تعالى كهنوت أو واسطة بين الناس ورب الناس، ومن الطبيعى أن هذا الحديث موجه لنا نحن المسلمين أيضا، كى لا نقع فيما وقع فيه أهل الكتاب، ولكننا وقعنا في ما حذر منه القرآن.. وعلى عكس الاحتراف الدينى الذى يجمع الأموال والجاه باسم الدين والتجارة به، فإن المؤمن الحق مطالب بأن يدفع أمواله ابتغاء مرضاة الله فى الزكاة، وفى الصدقة على ذوى الحقوق من السائل والمحروم والأقارب واليتامى وأبناء السبيل، وفق ما شرع الله تعالى فى مستحقى الصدقة الطوعية ، قال تعالى : (( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) ( البقرة 215 ) والزكاة الرسمية ، قال تعالى : (( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )) (التوبة 60) وهو أيضا مطالب بأن يجاهد فى سبيل الله بالنفس والمال ، قال تعالى : ((وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ )) ( التوبة 41) ، وقال تعالى : (( وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ )) (الصف 11). والجهاد يتضمن القتال فى سبيل الله تعالى لصد العدوان و ليس للعدوان ، للدفاع عن النفس وليس لبدء حرب على من لم يعتد علي المسلمين ، كما في قوله تعالى: (( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ)). وقوله تعالى : (( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ )) وقوله تعالى : (( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )) ( البقرة 190: 194 ،286 ). وفى كل الآيات القرآنية التى تحض على الجهاد بالأموال والأنفس فى سبيل الله، كانت الأموال مقدمة على الأنفس لتأكيد أن الإسلام يفرض على المؤمن أن يعطى الأموال فى سبيل الله، لا أن يتكسب الأموال بالتجارة فى دين الله.وحتى فى الغزوات نزلت سورة الأنفال بعد غزوة بدر تنهى عن التنازع فى موضوع الغنائم، والأنفال هى الغنائم، وتحذر المؤمنين من أن يكون هدفهم من الجهاد هو المتاع الدنيوي، ولم يستوعب المؤمنون هذا الدرس فانهزموا فى غزوة أحد بسبب الغنائم، ونزلت آيات سورة آل عمران تؤكد على نفس التحذير . قال تعالى : (( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ )) (آل عمران 152). وبعدها تعلم المؤمنون الدرس، أن يكون الجهاد فى سبيل الله وابتغاء مرضاة الله، وليس لهدف دنيوي، فلم يتكرر منهم خطأ غزوة أحد فى الغزوات التالية فى عهد النبي.. وهاجم القرآن الاحتراف الديني فى قريش، وأوضح أنه السبب الحقيقى وراء عناد المشركين، فالمشركون فى حقيقة الأمر يعلمون أن ما جاء به محمد عليه السلام هو الهُدى، ولكن مصالحهم التجارية المرتبطة بالاحتراف الدينى هى السبب فى عنادهم ، قال تعالى : ((وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا )) ( القصص 57 ). فهم يعلمون أنه (هُدى) ، ولكن مكانتهم فى الجزيرة العربية قامت على أساس البيت الحرام، وما أقامته قبائل العرب حول الكعبة من أصنام، وقيامهم على رعاية هذه الأصنام جعل طريقهم آمنا بين اليمن والشام فى رحلتى الشتاء والصيف، وإذا اتبعوا القرآن فلن يكون للأصنام بقاء حول الكعبة، وبالتالى ستقطع القبائل العربية عليهم الطريق أمام رحلتى الشتاء والصيف، وستهدد مكانتهم وموضعهم فى مكة وخارجها، ولهذا رفضوا أن يتبعوا الهدى مع النبى حتى لا يتخطفهم الناس من أرضهم، وبمعنى آخر فإن احترافهم الدينى من وجودهم حول الكعبة أقنعهم بالباطل أن رزقهم يكمن فى تكذيبهم للقرآن، لذلك قال تعالى لهم ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) ( الواقعة 82 ).ومن خلال الاحتراف الدينى نستطيع إعاده قراءة تاريخ المسلمين قراءة صحيحة ونستخلص ما يلي :1- ان عتاة الاحتراف الديني فى مكة هم الأمويون وبنو عبد شمس الذين كانوا قادة رحلتى الشتاء والصيف، بالإضافة إلى عم النبي، العباس بن عبد المطلب، القائم على سقاية البيت الحرام. وقد ظل العباس فى مكة، وشارك مع المشركين فى غزوة بدر ضد المؤمنين، ووقع فى الأسر. وظلت زعامة مكة بعد الهجرة بين أبى سفيان والعباس، وحين أدرك العباس أن ملك ابن اخيه محمد قد استقر، دخل فى الإسلام قبيل فتح مكة، وأقنع صديقه أبا سفيان بالدخول فى الإسلام وجيش المسلمين يزحف نحو مكة. وشعر العباس وأبو سفيان بالضيق عندما تولى أبو بكر الخلافة، وكان أبو سفيان يمتعض لأن الخلافة نالها رجل من أقل بيوت قريش مكانة، وكان العباس يحرض علي بن أبي طالب على طلب الخلافة، وهما معا (العباس وأبو سفيان) عاشا أغلب عمرهما فى الاحتراف الديني، ولا يفهمان الإسلام بمثل ما كان يفهمه على وأبو بكر وعمر وبقية أعلام المدرسة النبوية.2- وفى الوقت الذي اضمحل فيه صوت الاحتراف الديني في مكة بعد دخول أهلها فى الإسلام أفواجا، علا صوت الاحتراف الديني في نجد من خلال حركات الردة وادعاءات النبوة، وكان إخماد حركات الردة أسرع طريق عاد به الأمويون إلى القيادة والصف الأول فى قيادة المسلمين ، بعد أن كانوا قبلا فى الصف الأول ضد الإسلام. فالأمويون بما لديهم من مهارة حربية وكفاءات قيادية وخبرة بالطرق التجارية، وحرص على الزعامة والرئاسة تولوا قيادات الجيوش التى أخمدت حركات الردة فى نجد وغيرها. ولم يجدوا لهم منافسا فى القيادة بين كبار الصحابة والسابقين فى الإسلام، لأن التنافس على الزعامة والجاه لم يكن مما تعلموه فى مدرسة خاتم النبيين عليه السلام. وانتهت حركة الردة بأن أصبح الذين أسلموا بالأمس قادة منتصرين لجيوش المسلمين وزعماء يشار لهم بالبنان. 3- خشي أبو بكر فى خلافته أن تعود قبائل نجد للثورة والردة، فأراد أن يصدر شوكتهم الحربية إلى خارج الجزيرة العربية. فكانت الفتوحات العربية فى الشام والعراق وإيران ومصر، وهى التى حملت الاسلام مع تناقضها مع شريعته التى تنهى عن الاكراه في الدين والاعتداء على الغير . لذا كان أغلب المشاركين في الفتوحات العربية من القبائل النجدية التى سبق أن ارتدت ثم أعيدت للاسلام، وكان أغلب القادة من الأمويين الذين كانوا بالأمس أشد الناس عداوة للذين آمنوا، ثم أصبحوا قادة لهم. وأسفرت الفتوحات عن تكوين امبراطورية تمتد من شرق إيران إلى غرب برقة فى شمال أفريقيا، ومن آسيا الصغرى شمالا إلى اليمن جنوبا. وقد وقع قلب البلاد المفتوحة تحت سيطرة الأمويين وحلفائهم ممن دخل فى الاسلام حديثا ، ففى خلافة عمر حكم معاوية الشام وحكم عمرو بن العاص مصر وشمال أفريقيا. وتمكن عمر من ضبط أحوال الدولة ومنع العرب من الاستمتاع بخيرات الفتوحات، ومن الظلم ، لكن الأحوال تبدلت فى خلافة عثمان الأموى الأصل. 4- وفى خلافة عثمان عاد للظهور دور الاحتراف الدينى فأدى إلى ما يعرف بالفتنة الكبرى التى أسفرت عن قتل عثمان، والتى لا تزال تلازم تاريخ المسلمين حتى الآن، وتسفك دماءهم، وتؤخرهم وتباعد بينهم وبين الإسلام الذى عرفه وبشر به خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام. ومن نافل القول ان الاحتراف الدينى الذى أشعل الفتنة الكبرى تمثل فى الخروج عن منهج الإسلام من حيث العلاقة بالثروة والأموال، فالمال ـــ فى شريعةالإسلام ـــ ينبغى أن يكتسبه الإنسان بالحلال، وينفقه فى الحلال بلا سرف ولا ترف، وهو يضحي بهذا المال فى سبيل الله وفى الصدقة الطوعية والزكاة الرسمية، ويناقض ذلك ما اعتاده الداخلون فى الإسلام حديثا من الأمويين وأعراب نجد، وقد أمضوا أغلب أعمارهم إما فى الاحتراف الدينى أو بالسلب والنهب، ولذلك كان سهلا عليهم ـــ بعد اغتيال عمر بن الخطاب ومجيء عثمان بشخصيته الضعيفة وعجزه عن إحكام قبضته على الأمور ـــ أن يقعوا فى فخ التهالك على جمع الأموال وظلم أهل البلاد المفتوحة فى سبيل الثراء السريع، ثم اختلافهم فيما بينهم اختلافا يوقعهم فى حرب أهلية، اصطلحنا على التقليل من شأنها بذريعة أنها الفتنة الكبرى . لقد سيطر الأمويون على الخليفة عثمان بن عفان الأموي، وكدسوا الأموال فى ظل حكمه، مما أثار البقية الباقية من مدرسة النبي محمد عليه السلام وعلى رأسهم علي وابن مسعود وعمارالذين حافظوا على تعاليم المدرسة النبوية، ولم يغرقوا فى أمواج الثراء بالحق أو بالباطل، بينما غرق فى اختبار الثروة آخرون من نفس المدرسة النبوية، كان منهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله . وقد أورد محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى ما تركه كل من الزبير، وطلحة، وكان قناطير مقنطرة من الذهب والأموال السائلة والعقارات.. بينما كانت تركة علي بن أبي طالب عدة مئات من الدراهم، هذا فى الوقت الذي تمتلئ فيه نفوس الأعراب خصوصا من نجد بالحنق، حيث تم الفتح بسواعدهم، ولكن تمتع بثمار الفتح أعيان القرشيين من بنى أمية وحدهم.. وزاد فى غضبهم تحكم الأمويين فى خلافة عثمان وسيطرتهم عليه فى المدينة من خلال سكرتيره الخاص مروان بن الحكم، وسيطرتهم على الأمصار من خلال معاوية وعمرو وابن أبي السرح، وغيرهم. ثم كانت قضية السواد هى القشة التى قصمت ظهر البعير. وأرض السواد، هى الأرض الزراعية فى جنوب العراق والتى تقع شمال نجد، وكان أعراب نجد يتطلعون لامتلاكها، لأنهم الذين فتحوها ولأنها تجاورهم، وكانوا يحلمون بامتلاكها وهم فى البادية، ولأن أشراف قريش قد استولوا على أغلب الثمار، ولم يبق للأعراب النجديين إلا سواد العراق. ولكن الأمويين فاجأوهم بأن السواد بستان قريش، فسدوا على الأعراب كل المنافذ، وكان ذلك النزاع هو أصل الفتنة الكبرى ، التى تمخضت عن قتل عثمان ثم تعيين عليا خليفة، ثم خروج الأمويين على خلافة علي وخروج الزبير وطلحة ومعهما عائشة، وماحدث من مواقع الجمل وصفين، ثم خروج أعراب نجد من أعوان علي عليه فى موضوع التحكيم، وأصبح اسمهم الخوارج ة. وهم الذين قتلوا عليا، وظلوا فى صراع مع الأمويين حين أسس الأمويون ملكهم الوراثى الذى احترف الاسلام واتخذه سبيلا للفتوحات، وكانت الأموال هى الهدف السياسى من الفتوحات الأموية، حتى أنهم أرغموا من يدخل فى الاسلام على دفع الجزية شأنه شأن من بقي على دينه !!. 5- ان الاحتراف الديني الذي دفع الأمويين للفتح والغزو باسم الاسلام فيما بين الهند والأندلس، هو نفسه الذى دفع الأمويين لاقامة مذابح لآل البيت فى كربلاء، ولأبناء المهاجرين والأنصار فى المدينة، وهو الذى دفعهم إلى انتهاك حرمة البيت الحرام أثناء حصار ابن الزبير، وكل تلك الفواجع حدثت في خلافة يزيد بن معاوية، أول خليفة يرث الحكم بالقوة والاستبداد.والاحتراف الديني الأموى هو الذى دفع بالأمويين إلى إقامة مذابح أخرى للثائرين عليهم، الأقل شأنا من آل البيت والمهاجرين والأنصار، مثل الموالي والشيعة والأقباط فى مصر، والخوارج من الأعراب .. وقد قابل الثائرون على الأمويين احترافهم الدينى باحتراف آخر، حيث اصطبغت الثورات ضد الأمويين بصبغات دينية مختلفة، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحقوق آل البيت، وتكفير مرتكب الكبيرة.. وأدى ذلك إلى تحول الثورات العسكرية إلى طوائف دينية ومذاهب فكرية، لأن كل فريق حاول تعضيد قضيته و مذهبه بالدين، أو أوجد له (رجال دين) يفلسفون له أرضية فكرية عقيدية، تبيح له الثورة وسفك الدماء واستحلال الأموال، ويظهر ذلك جليا لدى الخوارج والشيعة برغم ما بينهما من تناقض شديد فى الآراء السياسية، حيث يمثل الخوارج أقصى الراديكالية الجمهورية، ويمثل الشيعة أقصى اليمين المحافظ من الملكية المقدسة الكهنوتية لآل البيت. على أن انشغال الأمويين بالحكم والصراع الحربى داخل الدولة وخارجها، مع سذاجة الحركة العلمية فى بدايتها، لم يسمح للاحتراف الديني الأموي أن يسفر عن وجهه في مذاهب فكرية مستقرة، ولذلك فإن الاحتراف الدينى الأموى عبر عن نفسه بصوت عال من خلال المعارك والاضطهادات الدينية والعنصرية، وخفت صوته في التأصيل الفكري، فلم يتبق من تراث الأمويين الفكرى إلا مذهب المرجئة، واضطهاد القائلين بالحرية الفردية ومسئولية الظالم عن ظلمه، حيث اعتنقت الدولة الأموية مذهب الجبرية، وفسرت من خلاله ما تفعله من ظلم وسفك للدماء، بأن ذلك قدر لا فكاك منه، واضطهدت القائلين بمسئوليتهم عن الظلم، وأسمتهم القدرية.. وكان كل ذلك هو ما تبقى من التأصيل الفكرى للاحتراف الدينى الأموي، وهو قليل وتافه بالنسبة للتأصيل الفكرى لخصوم الأمويين، من الشيعة والخوارج.6- بدأ التأصيل الفكرى للاحتراف الدينى لدى الشيعة مبكرا، فالشيعة السبئية بدأت فى خلافة علي، وازداد التشيع بمذبحة كربلاء، واشتد بمقتل الثوار من نسل الحسين خلال الدولة الأموية، وتفنن الشيعة فى التقية والدعوة السرية وتكوين الخلايا تحت الأرض، واحدى هذه الدعوات رفعت لواء الدعوة للوصي من آل محمد، حتى لا يتعرف الأمويون على رأس الدعوة. ومما له دلالة ان الدعوة انتقلت بطريقة غامضة من صاحبها العلوي إلى حفيد عبد الله بن عباس، وكذلك أقام الشيعة دولة للعباسيين، واكتشفوا ذلك بعد فوات الأوان، وتحول الشيعة إلى خندق المقاومة الذى كانوا فيه من قبل، وتكررت ثوراتهم وثورات العلويين ضد أبناء عمومتهم العباسيين، وبعض هذه الثورات أقامت لها دولا فى شرق إيران وفى شمال أفريقيا ومصر (الخلافة الفاطمية) كما نجح أعراب نجد فى إقامة ثورات ودول تحت شعار الزنج تارة والقرامطة تارة أخرى، ونشروا الخراب وأنهار الدماء في ما بين العراق والشام وطريق الحجاج والحجاز. على أن التأصيل الفكرى لهذا الاحتراف الدينى العباسى والشيعى والخارجى كان عالى الصوت يماثل ضجيج المعارك بين الفرقاء والمتصارعين . وساعد عليه أن التأصيل الفكرى للشيعة بدأ مبكرا قبل الدولة الأموية نفسها، ثم شهد عصر التدوين، وساعد على توطيده طول الفترة العباسية، وتطور الفكر والعقائد والحركة العلمية والفكرية فى هذه المرحلة، مع وجود مناظرات وتفرعات علمية ومدارس فكرية مختلفة . كما ساعد عليه اعتماد الشيعة ثم العباسيين على ذلك الفكر فى إقامة الدولة وتوطيدها حيث كانوا يعتمدون على ذلك الفكر فى الدعوة للدولة المرتقبة . وتركزت المرجعية لهذا الفكر فى تأليف الأحاديث المنسوبة الى النبي عليه الصلاة والسلام، ونشر النبوءات وشراء الفقهاء وتكوين ما يعرف بفقهاء السلطان وكهنوت الاستبداد. وفى هذا العصر العباسى تم تدوين الفكر والتراث، وتم اعتماد المصطلحات، وتم تقنين شريعة المسلمين بأسس تشريعية ومصطلحات وأحكام تخالف شريعة الاسلام، التى حفظها الله تعالى فى القرآن، والتى طبقها خاتم النبيين عليه السلام. وفى هذا الإطار اخترعوا مصطلح النسخ بمعنى الحذف والإلغاء للأحكام القرآنية التى لا تتفق مع شريعتهم، مع أن معنى النسخ فى القرآن وفى اللغة العربية هو الكتابة و الإثبات، وليس الحذف والإلغاء . ومالم يجدوه في القرآن موافقا لما يريدون، اخترعوا له حديثا ونسبوه للنبي، ومع تأكيد القرآن على أن النبي لا يعلم الغيب، فقد أضافوا علم الغيب للنبي، ونشروا كثيرا من النبوءات والدعوات السياسية المذهبية التى تبشر بملك وراثي عضوض ، و بفلان خليفة وبفلان فاتحا ، وبفلان قتيلا ، ونسبوا ذلك للنبي. وبهذا اتسعت الفجوة بين فكر المسلمين وشريعة الاسلام وعقائده المحفوظة فى القرآن الكريم !!؟؟ 7- خلال هذا البحر المتلاطم من فكر الاحتراف الديني، اشتد الشقاق على مستوى الأصول!! وعلى مستوى الأطراف والفروع. وأقيمت مصطلحات تعزز هذا الخلاف، وهي مصطلحات لا تمت بصلة لمصطلحات القرآن، ولم تكن معروفة في عصر النبي عليه الصلاة والسلام. فالثائرون على الخلافة العباسية، والذين كانوا من قبل شيعتها ويحسبون أن الملك سيتحول إلى واحد من أبناء الحسين أو ذرية علي، وانشقوا على الدولة العباسية وحاربوها ، احتفظوا لأنفسهم بلقب ومصطلح (الشيعة ). بينما قام العباسيون وفقهاؤهم بارساء مصطلح (السنة) تمييزا لهم عن الشيعة، وقصدوا أنهم السائرون على سنة النبي محمد. وخلال هذا المصطلح اخترعوا الاحاديث المنسوبة للنبي التى تؤكد أحقيتهم فى الخلافة، وحقوقهم فى ممارسة الاستبداد السياسى وامتلاك الأرض ومن عليها، والزعم بأن الاسلام يحصر الحكم والملك في قريش وحدها ـــ حتى وان بقي منها اثنان ـــ إلى قيام الساعة ( !!؟؟ ) هذا مع أن مصطلح السنة فى القرآن يعنى الشرع أو المنهاج،ويأتى منسوبا لله تعالى باعتباره مالك الدنيا والدين وصاحب الشرع وصاحب المنهاج فى التعامل مع المشركين . واقرأ على سبيل المثال قوله تعالى : (( مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا )) ( الأحزاب 38 ) أى أن سُنـّة الله هى فرض الله ، وعلى النبى أن ينفذها والرسول قدوة فى تنفيذ سـُنـّة الله، ونحن نقتدي به فى طاعته لأوامر ربه . يقول تعالى : (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )) ( الاحزاب 21 ) لم يقل سنة حسنة، لأن السنة تنسب لله لأنها شرع الله ودينه وأوامره، والأنبياء قدوة فى الطاعة والامتثال.إذن اختلفوا على المستوى الرأسى إلى شيعة وسنة، وكلاهما احترف التدين من أجل السياسة والارتزاق. وعلى المستويات الفرعية، اختلف الفقهاء داخل البيت السني إلى مذاهب، و اختلف الشيعة إلى طوائف وفرق، فيما اختلف الخوارج الى طوائف وفرق.. ولكن أخطر ما فى الأمر أنه فى العصر العباسى تبلورت الحركة العلمية الفكرية وتم تدوينها، وظهر فيها أئمة علوم الفقه واللغة والكلام والتفسير والحديث والعقائد والفلسفات.. وكان ذلك جميعه يؤكد ويعزز الاحتراف الديني . فالدولة العباسية (والفاطمية) تتخذ من قرابتها للنبى سندا للحكم، وتحكم الناس بالظلم والقهر على أساس أنها تملك الأرض ومن عليها، ولديها تراث مصنوع منسوب للنبي يؤكد أن ذلك هو الاسلام . وقد نحت فقهاء الدولة الذين يعيشون فى كنفها من الأحاديث والفتاوى ما يكرس الاستبداد . أما من يتخلف من العلماء عن مساندة الدولة فمصيره الاضطهاد، وقد مات أبو حنيفه مسموما، وتعرض مالك للتعذيب لأنهما خالفا هوى الدولة ، كما تعرض ابن حنبل لتعذيب أشد لأنه خالف الدولة فى رأي يخص القرآن، وليس رأيا سياسيا، فما بالك إذا تعرض فقيه لانتقاد الظلم الذى يجري على قدم وساق تحت شعار الإسلام. وكالعادة فإن الثوار الذين حملوا السلاح ضد الدولة العباسية، كالزنج والقرامطة وطوائف الشيعة والموالي الفرس صبغوا ثوراتهم بالدين الذى يصل أحيانا لادعاء النبوة أو المهدية، أى حاربوا احتراف العباسيين الدينى باحتراف آخر مماثل، وصبغوا ثورتهم العسكرية بصبغة دينية، وكانت ثورتا الزنج والقرامطة فى القرن الثالث الهجرى أفظع رد فعل للظلم العباسي، وأسفرتا عن قتل اكثر من مليونى إنسان. وقد أدت تلك الظروف المتأججة بالصراع إلى ظهور نوع جديد من الاحتراف الديني، يتخفف من الطموح السياسي، ويرضى بالهوان وبما تيسر من الارتزاق بالدين فى مقابل أن ينشر عقائده، بين طوائف المجتمع بعيدا عن القصور والخلفاء والسلاطين والعلماء والفقهاء.. وهذا هو تيار التصوف الذى ظهر ابتداء من القرن الثالث الهجري. لقد تمخضت طقوس التصوف وعقائده عن فائدة لشيوخ التصوف، مادية ومالية ومعنوية، مع راحة دعة وسكون، ولديهم الهوى يشرع لهم كل ما يشاؤون من انحراف خلقى أو إنسانى أو ديني، ومن خلال التصوف الذى تسيد وسيطر استطاع الصوفية اضطهاد المنكرين عليهم من الفقهاء ثم هبطوا بالحركة العلمية إلى التقليد فالجمود، فالتأخر، وذلك فى وقت استطاعت فيه أوربا - العدو التاريخى للمسلمين - أن تتقدم وتنهض، ثم صحونا في النهاية على حملة نابليون بونابرت تقتحم علينا أبوابنا. وبعدها بدأت حركتان للنهضة، حركة فى مصر بدأها محمد علي فى إقامة الدولة الحديثة فى مصر على النمط الأوربي، وحركة احتراف دينى سياسى فى منطقة نجد، تحت اطار الفكر الوهابى السلفى الحنبلى وأسقطت مصر فى عهد محمد علي الدولة السعودية الوهابية الأولى، وقامت الدولة السعودية للمرة الثانية خلال القرن التاسع عشر ومالبث أن سقطت، ثم أعاد تكوينها للمرة الثالثة عبد العزيز آل سعود فيما بين (1902 - 1926) ولاتزال حتى الآن . كما تم فى مصر انشاء حركة الإخوان المسلمين سنة 1928، وتمكنت خلال عشرين عاما من إنشاء خمسين ألف شعبة لها فى العمران المصري، وأسهمت فى اشعال ثورة الجيش سنة 1952، ثم اختلفت معها، فهاجر أرباب الإخوان إلى السعودية، ثم عادوا إليها بعد عصر عبد الناصر حيث أتيح لهم ــ منذ تلك الأيام وحتى الآن ـــ السيطرة على أجهزة الإعلام والثقافة والتربية والتعليم والمؤسسات الدينية . ومن خلال هذه السيطرة نشروا الاحتراف الدينى الوهابى على أنه (صحيح الإسلام) وهم يطمحون إلى الحكم على نفس السُّنة التى كان يحكم بها الخلفاء العباسيون، حيث كان الخليفة هو (الراعي) ونحن (الرعية)، وحيث كان الخليفة سلطان الله فى أرضه يملك الأرض ومن عليها، وليس لأحد أن يحاسبه، ولكن الله فقط هو الذى يحاسبه عما يفعل بالرعية أو المواشي التي يمتلكها.. ومن المؤكد أن هذه الشريعة تخالف شريعة الإسلام الموثقة بالقرآن.. ولذلك لا نمل من القول بأن حق المعرفة وبناء مجتمع المعرفة هو الفريضة الغائبة.. فإذا عرفنا وعقلنا، أمكن أن ننجو من براثن الاحتراف الديني، سواء كان ذلك الاحتراف سلفيا شيعيا أو سنيا أوصوفيا أوإخوانيا.[c1] عالم أزهري ـــــ رئيس المركز العالمي للقرآن الكريم[/c]