مبدعون في ذاكرة الزمن الجميل
إعداد / طارق حنبلة من منا لا يعرف هذا الهرم الفكري والإبداعي الكبير.. من منا لم يسمع قصائده .. لم يقرأ إبداعاته .. لم يغص في جماليات شعره ونثره وأحاسيسه الدافئة العذبة.من منا لم يقل لحبيبته كلاماً جميلاً قاله نزار.. من منا لم يغن ويطرب ويسعد وينتشي في مساحات الكلمة النزارية الرقراقة من ومن ومن؟ّ !.نزار هذا المبدع العربي الجميل .. هذا النورس الخرافي هذا الدونجوان الجريء الذي صنع من عيون المرأة مجداً ومن أناملها فرحاً ومن نهديها وسادة للعاشقين ممن خذلتهم القلوب التي ربطت مصيرهم بها.. نزار هذا الدبلوماسي الأسطوري الذي حول الحرف إلى بندقية ورصاصة ودواء فوق جرح الأمة.. لشتى نكساتها وآلامها وحماقاتها فكان قنديل زيت حقيقياً أشاع النور والجمال والحب في كل سهل وجبل من وطننا العربي المجيد ليشتغل الجميع ويأمل تحت ضوء الكلمة خلف جدران الخوف والتكلس والمزايدة.نزار قباني دبلوماسي وشاعر عربي ولد في دمشق ( سوريا) عام 1923م من عائلة دمشقية عريقة هي أسرة قباني حصل على البكلوريا من مدرسة الكلية العلمية الوطنية بدمشق ثم التحق بكلية الحقوق بالجامعة السورية وتخرج منها 1945م.يقول نزار قباني عن نشأته ولدت في دمشق في آذار (مارس) 1923م في بيت وسيع كثير الماء والزهرة من منازل دمشق القديمة والدي توفيق القباني تاجر وجيه في حيه ، عمل في الحركة الوطنية ووهب حياته وماله لها. تميز أبي بحساسية نادرة وبحبه للشعر ولكل ماهو جميل ، ورث الحس الفني المرهف بدوره من عمه أبي خليل القباني الشاعر والمؤلف والملحن والممثل وبادر أول بذرة نهضة المسرح المصري.امتازت طفولتي بحب عجيب للاكتشاف وتفكيك الأشياء وردها إلى أجزائها ومطاردة الأشكال النادرة وتحطيم الجميل من الألعاب بحثاً عن المجهول الأجمل عنيت في بداية حياتي بالرسم فمن الخامسة إلى الثانية عشرة من عمري كنت أعيش في بحر من الألوان ارسم على الأرض وعلى الجدران الطخ كل ما تقع عليه يدي بحثاً عن أشكال جديدة ثم انتقلت بعدها إلى الموسيقى ولكن مشاكل الدراسة الثانوية أبعدتني عن هذه الهواية.التحق بعد تخرجه بالعمل الدبلوماسي وتنقل خلاله بين القاهرة وانقرة ولندن ومدريد وبكين ولندن وفي ربيع 1966م ترك نزار العمل الدبلوماسي وأسس في بيروت داراً للنشر تحمل اسمه وتفرغ للشعر وكانت ثمرة مسيرته الشعرية إحدى وأربعين مجموعة شعرية ونثرية كانت أولها (قالت لي السمراء) 1944م. بدأ اولاً بكتابة الشعر التقليدي ثم انتقل إلى الشعر العمودي وساهم في تطوير الشعر العربي الحديث إلى حد كبير ، ويعتبر نزار مؤسس مدرسة شعرية وفكرية تناولت دواوينه الأربعة الأولى قصائد رومانسية وكان ديوان ( قصائد من نزار قباني الصادر عام 1956م نقطة تحول في نزار حيث تضمن هذا الديوان قصيدة خبز وحشيش وقمر « التي انتقدت بشكل لاذع خمول المجتمع العربي فثارت ضده عاصفة شديدة حتى طالب رجال الدين في سوريا بطرده من الخارجية وفصله من العمل الدبلوماسي وتميز قباني ايضاً بنقده السياسي ( هوامش على دفتر النكسة ) 1967م التي تناولت هزيمة العرب على أيدي إسرائيل في حزيران 1967م. من أهم أعماله (حبيبي) (1971) (لرسم بالكلمات 1966) و (قصائد حب عربية) (1993).كان لانتحار شقيقته التي أجبرت على الزواج من رجل لم تحبه أثر كبير في حياته قرر بعدها محاربة كل الأشياء التي تسببت في موتها، عندما سئل نزار قباني إذا كان يعتبر نفسه ثائراً أجاب الشاعر: إن الحب في العالم العربي سجين وأنا أريد تحريره، أريد تحرير الحس والجسد العربي بشعري، إن العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعنا غير سليمة.تزوج نزار قباني مرتين الأولى من ابنه عمه زهراء أقبيق وأنجب منها هذباء وتوفيق والثانية عراقية هي بلقيس الراوي وأنجب منها عمر وزينب، توفي ابنه توفيق وهو في السابعة عشرة من عمره مصاباً بمرض القلب وكانت وفاته صدمة كبيرة لنزار وقد رثاه في قصيدة إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني وفي عام 1982م قتلت بلقيس الراوي في انفجار السفارة العراقية ببيروت وترك رحيلها أثراً نفسياً سيئاً عند نزار ورثاها بقصيدة شهيرة تحمل اسمها بلقيس.بعد مقتل بلقيس ترك نزار بيروت وتنقل في باريس وجنيف حتى أستقر به المقام في لندن التي قضى بها الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حياته، ومن لندن كان نزار يكتب أشعاره ويثير المعارك والجدل .. خاصة قصائده السياسية خلالها فترة التسعينات مثل (متى يعلنون وفاة العرب؟) و (المهرولون).. وافته المنية في لندن يوم 30 ـ 4 ـ 1994م عن عمر ناهز الـ 75 عاماً قضى منها أكثر من 50 عاماً في الحب والسياسة والثورة.[c1]دارنا الدمشقية[/c]لابد من الحديث عن دار (مئذنة الشحم) لأنها المفتاح إلى شعري والمدخل الصحيح إليه وبغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة ومنتزعة من إطارها.هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر ؟ بيتنا كان تلك القارورة .. إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر بل أظلم دارنا.والدين سكنوا دمشق وتغلغلوا في حاراتها وزواياها الضيقة يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون ..بوابة صغيرة من الخشب تتفتح ويبدأ الإسراء على الأخضر ولأحد والليلكي وتبدأ سيمفونية الضوء والظل والرخام.شجرة النارنج تحتضن ثمارها والدالية حامل والياسمين ولدت ألف قمر ابيض وعلقتهم على قضبان النوافذ وأسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا.أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء وتنفخه .. وتستمر اللعبة المائية، ليلاً ونهاراً لا النوافير تتعب ولا ماء دمشق ينتهي .الورد البلدي سجاد أحمد ممدود وتحت أقدامك .. والليكلة نفسها بمداميكها وأدواتها وفلسفتها التلقائية الجديدة لتصبح أجمل بحور الشعر الحديث وأعذب أنغامه على الإطلاق ومن خلال الأسطورة الشعرية الدمشقية نزار قباني الذي أسس مدرسة جديدة في الشعر الحر بنمط جديد ومفهوم متجدد لم يقبل به الكلاسيكيون في بداية نشأته النزارية، لكنه أصبح أمراً واقعاً ولوناً طبيعياً في الشعر الحديث لأنه خلق حالة من التفاعل الايجابي مع الجمهور وحرك المياه الراكدة في القصيدة العربية ورسم لوناً بهياً وخلاقاً تشربته تربة الفكر العربي المعاصر ومساحاته الوجدانية بشكل غير عادي رغم حاجز الكلاسيكية المنيع وأدواته الكبيرة.تمشط شعرها البنفسجي والشمشير والخبيزة والشاب الظريف والمنثور والريحان والاضاليا وألوف النياتات الدمشقية التي أتذكر ألوانها ولا أتذكر أسماءها... لاتزال تتسلق على أصابعي كلما أردت أن اكتب.[c1]نماذج من إبداعاته الشعرية[/c]في هذه الرحلة الخيالية والتي سنشق من خلالها عباب بحر الإبداع النزاري سنلتمس رؤية فنية تجديدية للشعر جوبهت بنقد شديد من قبل الشعراء والأدباء التقليديين لكنها في الأخير فرضت.[c1] قارئة الفنجان[/c]جلست .. والخوف بعينيهاتتأمل فنجاني المقلوب قالت: يا ولدي لا تحزن فالحب عليك هو المكتوبيا ولدي .. قد مات شهيداًمن مات على دين المحبوبفنجانك .. دنيا مرعبةوحياتك أسفار وحروبستحب كثيرا وكثيراوتموت كثيرا وكثيراوستعشق كل نساء الأرضوترجع كالملك المغلوببحياتك .. يا ولدي .. امرأةعيناها .. سبحان المعبودفمها .. مرسوم كالعنقودضحكتها .. موسيقى وورودلكن سماءك ممطرةوطريقك مسدودمسدودفحبيبة قلبك .. يا ولدينائمة في قصر مرصودوالقصر كبير يا ولديوكلاب تحرسه وجنودوأميرة قلبك نائمةمن يدخل حجرتها مفقودمن يدنومن سور حديقتهامفقودمن حاول فك ضفائرهايا ولديمفقودمفقود مفقودبصرتونجمت كثيراًلكني .. لم أقرا أبداًفنجانا يشبه فنجانكلم أعرف أبداً يا ولديأحزاناًتشبه أحزانكمقدورك أن تمشي أبدافي الحب .. على حد الخنجر وتظل وحيداً كالأصدافوتظل حزيناً كالصفصافمقدورك أن تمضي أبدافي بحر الحب بغير قلوعوتحب ملايين المراتوترجع كالملك المخلوع[c1]أيظن[/c]أيظن أني لعبة بيديه؟أنا لا أفكر في الرجوع إليهاليوم عاد كأن شيئا لم يكنوبراءة الأطفال في عينيه ليقول لي: إني رفيقة دربهوبأنني الحي الوحيد لديهحمل الزهور إلي: كيف أردهوصباي مرسوم على شفتيهما عدت أذكر .. والحرائق في دميكيف التجأت أنا إلى زنديهخبأت راسي عنده .. وكأننيطفل أعادوه إلى أبويهحتى فساتيني التي أهملتهافرحت به .. رقصت على قدميهسامحته .. وسألت عن أخبارهوبكيت ساعات على كتفيهوبدون أن أدري تركت له يديلتنام كالعصفور بين يديه..ونسيت حقدي كله في لحظةمن قال إني قد حقدت عليه؟كم قلت إني غير عائدة لهورجعت .. ما أحلى الرجوع إليه..[c1] القصيدة الدمشقية نزار قباني[/c]هذي دمشق..وهذي الكأس والراحإني أحب..وبعض الحب ذباحأنا الدمشقي..لو شرحتم جسديلسال منه عناقيد..وتفاحولو فتحتم شراييني بمديتكمسمعتم في دمي أصوات من راحوازراعة القلب..تشفي بعض من عشقواوما لقلبي- إذا أحببت- جراحمآذن الشام تبكي إذ تعانقنيوللمآذن..كالأشجار..أرواحللياسمين حقوق في منازلنا..وقطة البيت تغفو حيث ترتاحطاحونة البن جزء من طفولتنافكيف أنسى..وعطر الهيل فواحهذا مكان (أبي المعتز)..منتظرووجه (فائزة) حلو ولماحهنا جذوري..هنا قلبي..هنا لغتيفكيف أوضح؟هل في العشق إيضاح؟كم من دمشقيةٍ باعت أساورهاحتى أغازلها..والشعر مفتاحأتيت يا شجر الصفصاف معتذراًفهل تسامح هيفاء..ووضاح؟خمسون عاماً..وأجزائي مبعثرة..فوق المحيط..وما في الأفق مصباحتقاذفتني بحار لا ضفاف لها..وطاردتني شياطين وأشباحأقاتل القبح في شعري وفي أدبي حتى يفتح نوار..وقداحما للعروبة تبدو مثل أرملة؟أليس في كتب التاريخ أفراح؟والشعر..ماذا سيبقى من أصالته؟إذا تولاه نصاب..ومداح؟فكيف نكتب والأقفال في فمنا؟وكل ثانية يأتيك سفاح؟حملت شعري على ظهري فأتبعنيماذا من الشعر يبقى حين يرتاح؟