د. شهاب غانمهيهات هيهات للأيام تنسيني[c1] *** [/c]ذكرى زمانٍ تقضى في أبردينِحيث المروج بساطٌ في مرابعها[c1] *** [/c]فما ترى في رباها العين من طينِوحيث طالت بها الأشجار سامقةً[c1] *** [/c]تُجنُّ في وارفٍ خضر البساتينِوحيث سالت بها الأنهار جاريةً[c1] *** [/c]بين الخمائل من “ديٍ” ومن “دونِ”حيث النسيم عليل في أصائلها[c1] *** [/c]معطرٌ بشذى عرف الرياحينِبهذه الأبيات استهل د. عبد الحكيم الزبيدي قصيدته “أبردين” وهي آخر قصيدة في ديوانه “اعترافات متأخرة” الذي صدر مؤخراً عن مشروع “قلم” في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث في 71 صفحة في إخراج أنيق كما هو الحال في الكتب التي تنشرها الهيئة. والقصيدة عادت بي إلى مطلع الستينيات عندما كنت شاباً في العشرين أدرس الهندسة الميكانيكية ثم الهندسة الكهربائية في جامعة أبردين (وكلية غردون أيضاً في نفس المدينة التي أصبحت فيما بعد جامعة مستقلة) وفي كنجز كوليج (أي كلية الملك) في جامعة أبردين وهي ثالث أقدم جامعة ببريطانيا بعد أكسفورد وكامبردج فعمرها خمسة قرون. كتب الدكتور عبد الحكيم القصيدة عام 2006 أي بعد أكثر من أربعة عقود على مغادرتي لتلك المدينة التي تركت فيها أربع سنوات من ريعان الشباب. وقد حصل منها الزبيدي على الدكتوراه في الإدارة الطبية في ذلك العام وكان قد حصل على بكالوريوس في إدارة الخدمات الصحية من جامعة أريزونا بالولايات المتحدة عام 1991. ولأن عبد الحكيم عاشق للشعر والأدب فقد التحق بجامعة الإمارات وحصل منها على بكالوريوس في اللغة العربية عام 1999.والحقيقة أن أبردين مدينة جميلة وفيها كنت أكتب محاولاتي الشعرية الأولى (التي بدأت في أواخر مرحلة المدرسة الثانوية) وكنت أبعث بها إلى والدي الدكتور محمد عبده غانم رحمه الله بالبريد قبل زمن الفاكس والإنترنت فيوجهني - وأنا أذكر هذا الأمر لأهميته في حياتي الأدبية- لكن أبردين كانت مدينة شديدة البرودة حتى أن والدي أطلق عليها لقب «أبو بردين».وأبردين تتميز عن مدن بريطانيا بلونها الفضي إذ إن الكثير من مبانيها من الجرانيت الفضي الصلد حتى أنها تسمى «المدينة الفضية». لكن الزبيدي لا يذكر هذا الأمر البارز بل يركز على الطبيعة الخضراء والأنهار كما لا يذكر البحر التي تقع أبردين على شاطئه إلا في بيت واحد يقول فيه: وللمحيط هدير في شواطئها كأنه في الفضا أنات محزون لكنه لا ينسى أن يذكر فتيات أبردين في ثلاثة أبيات:نفسي الفداء لآرامٍ بها رتعت[c1] *** [/c]حازوا المكارم في الدنيا وفي الدينِترى الجمال بها من كل فاكهةٍ[c1] *** [/c]شتى القبائل والبلدان واللونِقد كدت أصبو لها لولا عهود هوى[c1] *** [/c]فنستعيد بها ذكرى الأحايينِ؟وعندما كنا طلبة في أبردين لم يكن هناك مركز خاص بالطلبة المسلمين الأجانب والعرب بل كان هناك مبنى يسمى “اتحاد الطلبة” وكان مختلطاً لكل الطلبة والطالبات بينما بقية اتحادات الطلبة في جامعات اسكتلندا الأخرى مثل أدنبره وجلاسجو وسنت أندروز كانت مباني اتحادات الطلبة فيها منفصلة عن مباني اتحادات الطالبات. لكن عندما ذهبت في منتصف الثمانينات إلى كارديف في ويلز لدراسة الدكتوراه كان هناك مركز للطلبة العرب والمسلمين أنشأه الطلبة أنفسهم وقد ذكرته في أكثر من قصيدة من قصائدي. وفي قصيدة “من أوراق الغربة” أقول:فألقت بي الأيام في حضن كاردفٍ[c1] *** [/c]ولكنه حضنٌ من الدفْ مجدبُفلولا الفتى وضاح مصباح غربتي[c1] *** [/c]ولولا صبايا الشعر تملي وأكتبُولولا رفاقُ العلم من أرض يعربٍ[c1] *** [/c]يوحدنا دينٌ وضادٌ ومأربُلكان لنا هذا التغرب محنةً[c1] *** [/c]تفوق احتمال المرء والشعر أشيبُأراهم بأوقات الصلاة بمسجدٍِ[c1] *** [/c]ويجمعنا وقت الرياضة ملعبُويجمعنا شوق لأرضٍ حبيبةٍ[c1] *** [/c]يوحدها فينا معدٌ ويعربُوالدكتور عبد الحكيم رجل شديد الوفاء لأصدقائه، فكما يحن إلى أصدقاء أبردين نراه يحن إلى أصدقائه الطلبة في أريزونا ففي قصيدته “إلى توسان” المؤرخة عام 1991، نسمعه يقول:وصاحبت أخياراً بأرضك كلهم[c1] *** [/c]مقيم على تقوى فتالٍ وراكعُشباب هم الآمال في زمن الردى[c1] *** [/c]تبدوا ونور الحق في الوجه ساطعُتلاقوا على دينٍ وأغضوا عن القذى[c1] *** [/c]تشير إليهم بالثناء الأصابعُتتيه بهم “توسان” عن سائر القرى[c1] *** [/c]فإن دياراً ما حوتهم بلاقعُتركت لهم قلباً وأعلم أنها[c1] *** [/c]وقلبي لديهم لن تضيع الودائعُفهل لزمانٍ قد مضى فيك أوبةٌ[c1] *** [/c]وهل لشتات الشمل من بعد جامعُوأيامنا من بعد “توسان” مرةٌ[c1] *** [/c]نجرعها كالسم والسم ناقعُوهذا الديوان هو الأول للزبيدي لكنه الكتاب الثاني له فقد أصدر قبله بقليل كتاباً بعنوان “اليهود في مسرح علي أحمد باكثير” وهذا الوفاء لعلي أحمد باكثير ليس جديداً -على الرغم من عدم وجود أية صلة لقرابة أو معرفة بباكثير (الذي عرفته أنا شخصياً وكان صديقاً لجدي محمد علي لقمان ووالدي رحمهم الله جميعاً) - فالزبيدي قبل ذلك أنشأ موقعاً إلكترونياً ثرياً خاصاً بباكثير. ولعل الصلة الحقيقية بين الزبيدي وباكثير هي إعجاب الزبيدي بأدب باكثير وشعره وبنهجه وفكره.يقول إهداء الديوان: “إلى روح جدتي التي رحلت إلى جوار ربها قبل خمسة وعشرين عاماً، وما زالت عيني تتندى بالدمع كلما ذكرتها، أهدي هذا الديوان”. وهذا الإهداء في حد ذاته يكشف عن طبيعة الزبيدي الوفية لمن أحسن إليه وعطف عليه في طفولته. وأذكر أنني قرأت في مخطوطة الديوان قصيدة رثاء كتبها الزبيدي في جدته لكنه لم يدرجها في الديوان ربما لأنها كانت من قصائده الأولى التي لم تنضج فنياً بالدرجة الكافية للنشر في ديوان.ديوان “اعترافات متأخرة” يحوي 18 قصيدة كلها من النمط البيتي العمودي ما عدا قصيدة واحدة تفعيلية الشكل بعنوان “بعد عام” وكأنها تجربة أو محاولة أولية للخروج عن صرامة الشكل في الشعر العمودي الخليلي. يقول:[c1]ها هو العام تولىمذ تلاقيناتعاتبناعرفنا الحب غضابرقت في أفقنا المظلم أطياف البروقأحسن الدهر إلينا بعدما طال عقوقوتعود اليوم ذكرىذلك العهد الجميلذلك الحلم القصيرإلى أن يقول:أيها القادم رفقاففؤادي لم يزل بعد كليمْلم يزل يخفق بالحب القديمْ[/c]وهكذا نرى أنها قصيدة تفعيلية ذات تركيب بسيط، فلعلها خطوة أولى.الشاعر يستهل ديوانه بمقطوعة من أربعة أبيات بعنوان: “أنا والشعر” يقول فيها:عمرٌ من اليأس والآمال أحمله[c1] *** [/c]تنوء منه الرواسي فهي تنصدعُعمرٌ من الهم قد قاسيت منفرداً[c1] *** [/c]أمشي به في طريقٍ كله فزعُأنيسي الشعر لا أبغي به بدلاً[c1] *** [/c]فهو المحدث أو حدثت يستمعُوما جفاني وإن جافيته زمناً[c1] *** [/c]إذا دليت بدلوي جاء يندفعُولا أدري ما هو هذا اليأس الذي تنوء منه الرواسي والطريق الذي كله فزع وهو الشاب المؤمن الناجح في دراسته. وكيف يمكن لعمر من الآمال أن تنوء منه الرواسي! والشاعر يجد أن رفيقه الذي ليس له بدل هو الشعر. لكن ربما لا يجوز لي أن آخذ على الشاعر كل تلك الهموم في مقتبل العمر فأنا قلت في العشرين من العمر مقطوعة قصيرة من خمسة أبيات موجودة في ديواني “الأعمال الكاملة” وفيها أيضاً ألوذ بالشعر:هيهات أن تعلني بؤسي وأحزاني[c1] *** [/c] يا دمعة العين جفي بين أجفانيإني أخاف من الأنظار مشفقةً[c1] *** [/c]كما يروّعني أن يشمت الشانيإذا مآقي رفاقي في المصاب همت[c1] *** [/c]صهرت من مدمعي المحبوس ألحانيلي في القريض خليل كم وثقت به[c1] *** [/c]فلم يخن ولكم قد خان خلانيقد علمتني الليالي أن ألوذ به[c1] *** [/c]وأن أطلق في الخلان إيمانيويبدو أن كثيراً من الشعراء في مطلع شبابهم ومعاناتهم يشعرون بهمومهم مضخمة بسبب حساسيتهم ورومانسيتهم، ويشعرون في وحدتهم أن الصديق الموثوق به هو فقط الشعر، فالرفاق البشر قد يكونون أقل اهتماماً بالمثاليات والأحلام وأكثر اهتماماً بالواقع والحياة المادية.وطابع الحزن الرومانسي يظهر في أكثر من قصيدة مثل “الوتر الحزين” وهي قصيدة حب منها:يا من قضيت حياتي كلها أملاً[c1] *** [/c]في البحث عنها بتطوافٍ وتسيارِمضت ثلاثون عاماً لست أدركها[c1] *** [/c]إلا بندبٍِ على خدي وآثارِواليوم تأتين يا عمري على قدرٍ[c1] *** [/c]فتغفرين لدهري كل أوزارِهلا أتيتِ إذ الأيام مقبلةٌ[c1] *** [/c] فقد أتيتِ وحالي رهن إدبارِوفي قصيدة حب أخرى بعنوان “أشواق وأحزان” يقول:إذا ما جئتُ أقرأ في كتابٍ[c1] *** [/c]برزتِ إلي من سطر الكتابِوإن خاطبت في شعري فتاةً[c1] *** [/c]فأنتِ عنيتُ من ذاك الخطابِعرفتك فاستحال الشوك ورداً[c1] *** [/c]وجاء الحظ يقرع منك بابيأتيتِ وقد بدا يذوي شبابي[c1] *** [/c]فعدت اليوم في شرخ الشبابِوفي قصيدة “عودة” يقول:عاد الحبيبُ إلى الحمى[c1] *** [/c]فبلغت من زمني المنىعادت إلي سعادتي[c1] *** [/c]إذ عاد خلي والهناإلى أن يقول مخاطباً هذه الحبيبة التي تبدو أنها نفس الفتاة في مختلف قصائده:أنتِ الحياة لخافقي[c1] *** [/c]والعيش دونك كالفنالكن تبدو المخاطبة في قصيدة “اعترافات متأخرة” التي بها عَنْوَن ديوانه شخصاً مختلفاً فهو يقول:مراراً في لقاءاتكْ[c1] *** [/c]وحيناً في زياراتكْرأيتكِ تعرضين الثو[c1] *** [/c]بَ تستفتين مرآتكْوأي اللون يعجبني[c1] *** [/c]ويبرز من حلاواتكْإلى أن يقول:أحقاً جئتِ تدعيني[c1] *** [/c]لأدخل في متاهاتكْولي بين الورى حِلمٌ[c1] *** [/c]يقيني من تفاهاتكْولشعر الأسرة نصيب في الديوان، ففيه قصيدة كتبها لولده محمد الذي ولد في الإمارات والشاعر يدرس في أمريكا ، وكانت والدة الشاعر في المستشفى إثر حادث، فقال:أسميَّ خيرِ الأنبياءِ تحيةً[c1] *** [/c]مني على بُعد المسافة تصعدُفلقد أتيتَ ونحن في قمم الأسى[c1] *** [/c]فمحوته فلنعم ذاك الموعدُوفي الديوان ثلاث قصائد رثاء، واحدة بعنوان “ذبول وردة” عن فتاة ماتت في صباها، وأخرى بعنوان “فارس الكلمات” في رثاء جده الشاعر سالم بن عمر رحمه الله، والثالثة في رثاء صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله بعنوان (ستظل نبراساً) ومنها نقتطف هذه الأبيات:رجل السياسة والكياسة والندى[c1] *** [/c]صقر الصقور وقائد القوادِكهف الأرامل واليتامى والأب الـ[c1] *** [/c]ـحاني وقبلة مقصد القصادِتبكي إمارات الوفاء زعيمها[c1] *** [/c]من شاد دولتها بخير عمادِتبكيه أقطار العروبة كلها[c1] *** [/c]من حضرموت إلى حمى بغدادِأأبا خليفة والمآثر جمةٌ[c1] *** [/c]جلت عن الإحصاء والتعدادِما مات من غدت البلاد بفضله[c1] *** [/c]في وحدة تسمو على الأحقادِما مات من أرسى دعائم نهضةٍ[c1] *** [/c]تُهدى من الآباء للأحفادِما مات من أبقى خليفة بعده[c1] *** [/c]ومحمداً في فتية أمجادِوأخيراً نختم بالقصيدة الثانية في الديوان وهي بعنوان “ابتهال” وهي تمثل توجه الشاعر الروحاني الذي يظهر في كثير من قصائده. يقول الشاعر:بسطتُ إليك الكفَّ يا قابل الرجا[c1] *** [/c]ويا من إذا شاء العسير يهونُفجد لي بعفوٍ يا مجيب الذي لجا[c1] *** [/c]ويا من كما شاء الأمور تكونُوثبت فؤادي واشفِ قلبي من الشجا[c1] *** [/c]فتسهل في درب الحياة حُزونُوغَفراً لنا بعد الممات إذا فجا[c1] *** [/c]وأودت بآمال الحياة منونُ