أضواء
من القواعد الأصولية المقررة أن الفتوى تتغير بتغير المكان والزمان. ومن المؤكد أن هذا التغير لا يقوم على هوى الفقيه ورغباته أو رغبات من يطلبون الفتوى منه. ذلك أنها تقوم على تأويل النصوص المقدسة المتفق على صحتها روايةً انطلاقا من المؤثرات التي تعمل عملها في المفتي بشكل ربما لا يعيه.لكن هذا التأويل ربما يقوم على وعي واضح بظروف البيئة كذلك. ويشهد على هذا كثير من الفتاوى التي تحكم الممارسات الدينية المختلفة في البلدان الإسلامية المختلفة. وكان اختلاف البيئات العامل الأساس الذي ولد لنا المدارس الفقهية الإسلامية المختلفة. ذلك أن مؤسسي هذه المذاهب والمنتمين إليها يعيشون في بيئات مختلفة تجعلهم يؤولون النصوص المقدسة نفسها انطلاقا من الواقع الذي يعيشونه.وليس بالإمكان إعطاء كثير من الأمثلة على هذه الاختلافات في الفتوى إذ إنها توجد في مستوى التأويلات العقدية والفقهية بشكل يفوق الحصر. وقد أشار العلماء المتقدمون إلى هذا التغير. ومن الأمثلة المشهورة للتغير الواعي تغير فتاوى الإمام الشافعي بين العراق ومصر.ولهذا القول صلة بالفتاوى التي عليها العمل فيما يخص المرأة، مثلا، في بلادنا. فتميل كثير من هذه الفتاوى إلى التشدد فيما يخص اختلاط النساء بالرجال وفيما يخص الملابس التي يجب أن تلبسها المرأة في حضور الرجال الأجانب عنها. ولا شك أن هذا التشدد يعود في المقام الأول إلى تأثير بعض العادات والتقاليد المحلية على من يتصدون للفتوى.وفي مقابل هذا التشدد نجد علماء أجلاء في بعض البلدان الإسلامية الأخرى يفتون بما يخالف «ما عليه العمل» في المملكة عن هذه القضايا تحديدا. وليس بخاف علينا جميعا ذلك النقاش الحاد الذي يظهر بين آونة وأخرى في صحفنا عن هاتين القضيتين تحديدا، وعن قضايا أخرى تخص المرأة احتجاجا بما يراه أولئك العلماء خارج المملكة عنها. ومن الأمثلة التي تدل على أثر البيئة في الفتوى ما نشرته وسائل الإعلام مؤخرا عن بعض الفتاوى التي تخص قضايا المرأة، ومنها قضيتا اللباس والاختلاط، خارج المملكة. ومنها ما أورده موقع «العربية ـ نت» ( 30 /2/ 1430هـ) من رفض شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي في لقاء مفتوح جمعه بطالبات جامعة القاهرة «... تأييد الآراء التي تدعو إلى تحريم الاختلاط بين طلاب وطالبات الجامعة بناءً على انتشار الظواهر السلبية بينهم قائلاً: لا أستطيع أن أقول بحرمة العلاقة بين الطالب والطالبة في الجامعة، ولا أستطيع أن أمنع الكلام بينهما، شريطة أن تقوم هذه العلاقة على الأدب وطلب العلم والابتعاد عن الانحراف والكذب والرياء، لأنني لا أستطيع أن أمنع طالباً من أن يحدث زميلته مادام هذا الحديث أحله الله تعالى، لاسيما في المرحلة الجامعية، وهي مرحلة نضوج علمي وفكري للطلاب والطالبات لقول المولى عز وجل: «بعضكم من بعض» أي أن النساء من الرجال والرجال من النساء، وقد استقبلت الطالبات هذا الرأي بتصفيق شديد».فهذا ما يراه شيخ أكبر جامعة إسلامية وأقدمها، وهو يحتل درجة عليا في التسلسل الوظيفي الرسمي في المؤسسات المصرية الإسلامية. ومن المستبعد الظن بأنه كان يحابي أحدا وهو يعلم علم اليقين حرمة الفتوى بغير دليل.والواضح أن سبب عدم تأييده لمنع الاختلاط بين الطلاب والطالبات في الجامعة إنما يعود إلى أن المجتمع المصري الذي نشأ فيه الشيخ لا يرى بأسا في اختلاط النساء والرجال في أماكن العمل والتسوق والمجالس وغير ذلك من الأماكن التي يمكن أن يوجد الرجال والنساء فيها. ومن هنا فالدافع إلى هذه الفتوى إنما يعود إلى أن المرأة في البيئة المصرية تعامل بشكل يرى اختلاطها بالرجل أمرا طبيعيا مألوفا. ومن الأمثلة الأخرى التقريرُ الذي أوردته صحيفة «الشرق الأوسط» (27 /2/ 2009 م) عن خطاب زعيم حزب الأمة السوداني الصادق المهدي أمام مؤتمر قطاع المرأة في حزبه قبل أيام الذي دعا فيه إلى «... إزالة أشكال التمييز كافة ضد المرأة، وتعهد بأن المؤتمر العام لحزبه سيتمسك بإلغاء قانون الأحوال الشخصية الذي وصفه بالمجحف مع استبداله بمدونة تنصف حقوق المرأة وتمنع زواج الأطفال.... وقال... إن «الزي المحتشم جزء من كرامة المرأة، لكن النقاب الذي يغطي الوجه بأكمله إهانة لكرامتها وطمس لهويتها». وأفتى بعدم صحة الحديثين «النساء ناقصات عقل ودين»، و»أكثر أهل النار النساء»، ووصفهما بأحاديث الفقه الذكوري».والمجتمع السوداني عامة أقرب ما يكون إلى المجتمع المصري من حيث الموقف من المرأة، إذ تحتل فيه مكانة أعلى من المكانة التي تحتلها في المجتمعات البدوية. ومن الملاحظ أن هذين المجتمعين تأثرا في السنوات الأخيرة ببعض الفتاوى المستوردة من خارجهما فيما يخص بعض قضايا المرأة مثل الحجاب والاختلاط.يضاف إلى ذلك أن موقف الصادق المهدي المتسامح من قضايا المرأة ربما يعود إلى انتمائه إلى أسرة دينية أرستقراطية تعيش في العاصمة السودانية، وهذا ما يجعله وفيا للقيم المدنية نحو المرأة. كما أنه عاش سنين طويلة في مجتمعات مدنية أخرى في الغرب وفي القاهرة وغير ذلك. ومن هنا فموقفه من المرأة متلون بالبيئة المدنية التي نشأ فيها والبيئات المدنية الأخرى التي قضى شطرا من حياته فيها.وحاصل القول إن تأويلات النصوص الشرعية تؤثر فيها بعض العادات والتقاليد التي يرى المسلمون أنها تقوم على أسس إما مستمدة من الدين نفسه أو من تقاليد وأعراف لم يجد المتقدمون من الفقهاء أنها تخالف النصوص الدينية.فيقتضي اختلاف الفتوى بحسب البيئة، إذن، أن تتسع صدور المفتين لفتاوى أخرى ربما لا يرون صحتها. وغاية ما يمكن أن يتخذوه من المواقف أن يبينوا الرأي الذي يرونه صوابا بحسب فهمهم للنصوص نفسها. وهو فهم يتلون لزوما بالقيم والعادات والتقاليد المجتمعية المرعية في بيئاتهم.وحين يتحقق هذا المستوى من قبول الاجتهادات المختلفة والنظر إليها على أنها تتساوى من حيث كونها تأويلات مقبولة للنصوص الدينية الثابتة فإن كثيرا من أسباب الاحتقان التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية ستزول ويحل محلها التفاهم المتبادل والأعذار.وليس معنى هذا إطلاق الأمور على عواهنها بل المقصود أن نحسن الظن بالاجتهادات الأخرى وننظر إليها على أنها تأويلات تقوم على التقوى التي تمنع من القول على الله ورسوله بغير علم، وأن نتعامل معها من غير أن نواجه أصحابها بالإنكار انطلاقا من قيم تأسست على ما يعرفه مجتمعنا من عادات وتقاليد ونظرة إلى الحياة والعلاقات بين البشر. وكما أنه لا يوجد مسوِّغ لوصف الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ الفقه في المملكة بأنه «فقه بدوي»، لما رآه من أن هذا الفقه يراعي كثيرا من القيم «البدوية»ـ وهو وصف يتضمن التنقص والازدراء ـ فمن غير المقبول أن نتهم الآراء الفقهية المخالفة لما نراه نحن بأنها تقوم على عدم احترام الفقهاء في البيئات الإسلامية الأخرى للنصوص الدينية التي نؤكد أننا نحترمها.وينبغي من جانب آخر القول بأن المملكة قطعت شوطا مهمًّا في العقود القليلة الماضية نحو التحضر والتمازج المناطقي والعالمي وذلك ما أسس لتقاليد وقيم اجتماعية جديدة أخذت تتباعد عن التقاليد والقيم التي كانت، ولا تزال، تؤطر الرأي الفقهي السائد. ويشهد على هذا المسار حضور المرأة الآن بشكل واضح في المجال العام؛ بل أصبحت تتولى بعض الوظائف القيادية في إدارات حكومية عدة، ومنها وزارة التربية والتعليم التي تعد أهم الوزارات التي تشكل الوعي العام. ولم يعد مستنكرا أن نرى كبار المسؤولين يستقبلون المرأة علانية في مكاتبهم الرسمية وتنشر وسائل الإعلام صور تلك الاجتماعات. وكانت المناطق المتعددة في المملكة تختلف بعضها عن بعض، إلى عهد قريب، في نظرتها إلى ملابس النساء والاختلاط بأشكال مختلفة انطلاقا من اختلاف العادات والتقاليد والقيم بينها. ولم يسد اللون الواحد والنمط الموحد لملابس النساء ويُمنع الاختلاط إلا في العقود الخمسة الماضية مع انتشار تعليم المرأة الذي رسخ قيما وتقاليد ورؤى فقهية معينة وجعلها معيارا مفروضا على جميع مناطق المملكة بغض النظر عن الاختلافات الفقهية بينها.لهذا كله فربما يكون المطلوب اليوم أن تخف حدة التشدد في الفتاوى المتعلقة بالاختلاط وملابس النساء أخذا في الحسبان التغيرات المجتمعية التي لا يمكن قمعها بالقوة عن طريق فرض المعهود في بيئة معينة من آراء فقهية تحكم هذه القضايا على الرغم من هذه التغيرات الواسعة.ولا شك أن هذا التسامح سيسهم إسهاما واضحا في التخفيف من حدة الاحتقان الذي نشهده بسبب المشكلات التي تواجهها المرأة في الأسواق وغيرها بسبب التنافر بين الوضع الاجتماعي السائد الآن والفتاوى التي صدرت تحت تأثير عادات وتقاليد اجتماعية أخذت في الانحسار التدريجي منذ زمن.[c1]* صحيفة «الوطن» السعودية[/c]