أضواء
بينما كنت أهم بالخروج من المسجد ذات يوم عقب فراغي من أداء الصلاة، لاحظت أن ركن “الفتاوى!” ممتلئ بمنشور يبدو أنه جلب حديثا إلى المسجد. تناولت نسخة منه فإذا هو”فتوى”، على هيئة إجابة لسؤال وجه إلى أحد الأسماء المعروفة، تتناول”حكم” بيع العقارات لأتباع أحد المذاهب، من مواطني المملكة العربية السعودية. السؤال الموجه لتلك الشخصية صيغ بطريقة تحصر الإجابة المنتظرة منه بنموذج معين مستهدف من البداية. إذ اعتمدت الصياغة على حشو ديباجة السؤال بنُذُر خطورة “تتعاظم” جراء “مكر” أتباع ذلك المذهب ب”المسلمين”، وما” يسعون” له من امتلاك للأراضي والبيوت والشقق من أجل السيطرة على”بلاد الحرمين”!. أما نهاية السؤال، فتتضمن طلب تحديد “حكم” بيع العقارات لأتباع ذلك المذهب، ثم توجيه نصيحة لـ“المسلمين!” عموما وللتجار خصوصاً بهذا الشأن!.هذه الطريقة في صياغة الأسئلة، حقيقية كانت أو مفترضة، والتي يراد منها استصدار “فتاوى” محددة ومفصلة على مقياس معين، والتي استهدفت، وما زالت تستهدف، أبرياء عديدين، كل ذنبهم أنهم قد لا يتفقون مع السائل أو المسؤول حيال تأويل بعض النصوص الدينية، تبدأ بمقدمة معروفة نصها: “تعلمون حفظكم الله ما ضمنه المثقف أو الروائي الفلاني في مقاله أو في روايته من ضلالات وكفر بين، ثم يُستشهد على ذلك الزعم باجتزاء عبارات أو مقاطع من مقاله أو من روايته، ببترها عن سياقها ال “ما قبل” وال “ما بعد”، لتظهر وكأنها مقولات كفرية جاهزة لإدانة المستهدف بال “فتوى”. أو أن تبدأ بمقدمة أخرى على نفس الصيغة ولكنها موجهة نحو أتباع مذهب معين كما هو الشأن مع هذه “الفتوى” التي نحن بصدد الحديث عنها. والذي لا شك فيه أن لتلك “الفتوى” ونظائرها تأثيرا سلبيا على السلم الاجتماعي، من منطلق تأثيرها المباشر في بنية العلاقات الاجتماعية، عندما يبدأ أفراد المجتمع في تكييف علاقاتهم الاجتماعية مع بعضهم البعض وفق نظرة مذهبية ضيقة. وهي العلاقات المبنية أو هكذا يفترض على أساس مدني بحت، إطاره ومعياره الوحيد محصور بالوفاء باستحقاقات المواطنة وحدها، بعيداً عن التصنيفات الشخصية من ديانات ومذاهب. ومع ذلك، فإن هذه “الفتوى” تشكل افتئاتاً على حكم الله ورسوله فيما يتعلق بأحكام البيوع، ما يحل منها وما يحرم. فمن المعلوم أن أحكام البيع في الشرع الإسلامي قد حرمت بيوعاً بأجناسها تلافياً لما يترتب عليها من إضرار بكل من البائعين والمشترين، كبيع الغرر وبيع الملامسة والمنابذة وتلقي الركبان وبيع الشعير بالشعير والبر بالبر والذهب بالذهب، وبيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها، وغيرها من بيوع ضارة. لكنها لم تحرم، قط، التعاملَ التجاري مع أناس معينين، وفقاً لأديانهم، ناهيك عن مذاهبهم. فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبيع ويشتري مع اليهود رغم ما كانوا يحيقونه من مكر بالإسلام والمسلمين آنذاك. فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها “أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل ورهنه درعه”. وظل الحكم سارياً في الأمة غير منسوخ، دليل ذلك ما جاء في رواية أخرى عن عائشة أيضاً أنها قالت: “ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير”. كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يتعاملون مع اليهود، بيعاً وشراء وسلفا، فقد أخرج البخاري في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: “كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجداد، وكانت لجابر الأرض التي بطريق رومة، فجلست فخلا عاما فجاءني اليهودي عند الجداد ولم أجد منها شيئا، فجعلت أستنظره إلى قابل فيأبى، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه امشوا نستنظر لجابر من اليهودي فجاءوني في نخلي فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلم اليهودي فيقول: أبا القاسم لا أنظره. إلخ الحديث”. كما أخرج الإمام أحمد وأبو داوود وابن ماجة أن السائب المخزومي كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم فجاء يوم الفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “مرحباً بأخي وشريكي”. مما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعامل معه قبل أن يسلم، ليس بالبيع والشراء فقط، بل وبالشراكة أيضا. وتتعاظم خطورة مثل هذه الفتاوى إذا أدركنا أنها تذاع وسط مجتمع لم يتعود بعدُ على اتخاذ مسافة نقدية بين الدين بذاته المقدسة، وبين الفكر الديني، بما فيه الفقه أصولاً واستنباطا، والذي ليس أكثر من اجتهاد بشري يصيب ويخطئ، كما تتخطف أصحابَه الأهواء والشهوات والرغبات والميول والرضا والغضب، مثلهم أي فاعل اجتماعي آخر. وغياب أو تغييب المسافة النقدية ليس إلا نتيجة مترتبة على غياب أو تغييب التعددية الفكرية، بمفهومها الشامل، التي تتيح للثقافة المتعايشة معها أن تتعامل مع الأفكار والآراء، بما فيها الأفكار الدينية، بمنطق (نسبية) الحقيقة لا بمنطق كليتها، كما هو الشأن مع الثقافات المغلقة. فبمجرد ما تصدر مثل هذه “الفتوى” ممن يمسكون بخطام التشدد، حتى يتلقفها الجمهور المسلوب الإرادة النقدية، وهم السواد الأعظم المستهدف بمثل تلك الآراء المتشددة، تلقف الحق الأبلج الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. بل إن الغالبية العظمى ممن يتقاطعون، مذهبياً أو فكريا، مع من يُصدر مثل تلك “الفتاوى”، لديهم الاستعداد النفسي، ناهيك عن الاستعداد الفكري، للانتقال من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والعكس صحيح، تجاه الأفكار والأشخاص والمذاهب والديانات والأنظمة السياسية، بمجرد أن يحدد لهم ذلك “المفتي” رأيه فيها. وإذا كانت الأمثال والحكايات الشعبية تمثل انعكاساً لثقافة المجتمع التي تشيع فيه، فإننا نستطيع أن نتبين انعدام المسافة النقدية بين تقديس الأشخاص وتقديس الدين نفسه، من خلال استصحاب إحدى “النصائح” المتداولة في مجتمعنا، وهي قولهم، باللهجة الشعبية الدارجة، :”حط بينك وبين النار مطوع”. أي أنه يكفيك أن تأخذ بفتوى من تثق بتشدده! في أية مسألة ترد على ذهنك، لكي تنجو من عذاب النار!. وهذا منتهى التقديس للأشخاص الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الأثر الذي يروى عن عدي بن حاتم الذي قال فيه: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة براءة ، فلما قرأ:(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قلت: يا رسول الله، أما إنهم لم يكونوا يصلون لهم. قال: صدقت، ولكن كانوا يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه، ويحرمون ما أحل الله لهم فيحرمونه “. ورغم أنا لا نفتأ ندَّعي أننا لا نقدس أحداً، وأن العصمة للنبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إلا أن الواقع يؤكد عكس ذلك تماما. إن التعددية بكافة تمظهراتها التاريخية، القومية والدينية والمذهبية، واقع يفرض نفسه منذ فجر تاريخ الاجتماع البشري. بل إنه، كواقع، مكون أصيل من مكونات ذلك الاجتماع. ولا يمكن أن يرتفع ذلك الواقع التعددي بتسليط فتاوى التكفير عليه، أو بمحاولة قمعه واستئصاله. بل إن ذلك، إذا حدث، سيكون سببا رئيسا من أسباب الاحتقان المذهبي والديني، ناهيك عن التخندق الطائفي الممقوت، التي تجتمع كلها لتشكل قنابل موقوتة لا تلبث أن تنفجر في وجه الاستقرار الاجتماعي متى ما أوقظت الفتنة من نومها. وما حصل في العراق بعيد الاحتلال شاهد حي على ما نقول. ولقد خاضت أوروبا الحديثة، سواء في العصر الوسيط، أو في مطلع العصور الحديثة، حروباً دينية مروعة ذهب ضحيتها الألوف المؤلفة من الناس، لحساب محاولات الكنيسة الكاثوليكية محو التعددية الدينية، بفرض دين واحد ومذهب واحد، لكنها فشلت في ذلك، لأنها كانت تناطح قانوناً وجودياً من قوانين الاجتماع البشري، التي لا يقوم إلا بها.والحل الناجع الوحيد الذي توصلت إليه أوروبا بعد تلك الحروب المريرة، يكمن في فرض المواطنة، بمفهومها الحديث، كأساس مدني وحيد لإقامة العلاقات الاجتماعية والسياسية عليه. وترك الهويات الدينية والمذهبية لتشكل علاقة روحية شخصية بين الناس وبين ربهم، يحاسبهم عليها يوم يعرضون عليه لا تخفى منهم خافية.[c1]* عن / جريدة “الرياض” السعودية[/c]