[c1]أولاً : لغة [/c]كلمة التصوف لغة لها اشتقاقات متعددة. قيل أنها مشتقة من الفعل تصوف، أي لبس الصوف مثلما يقال تقمص أي لبس القميص.. كما هي أيضاً من المعنى لصفاء القلب، وكذا لأهل الصُفَّة صفة مسجد رسول الله (ص) في المدينة المنورة، وهناك أيضاً من نسبها إلى الصف الأول في التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى. وهي عند البعض الآخر أنها من الكلمة اليونانية صوفيا، أي الحكمة ونجدها أيضاً موكبة في كلمة فيلو صوفيا التي تعني أصل الحكمة، ثم أنها عربت إلى كلمة فلسفة.[c1]ثانياً : اصطلاحاً [/c]فهي منزع علمي وعملي نزعت إليه الحياة الروحية الإسلامية منذ أول نشأتها في صدر الإسلام.. وعلى تعاقب الأطوار التي مرت بها في تطورها التاريخي. فالتصوف بهذا المعنى هو مرآة هذه الحياة الروحية الإسلامية التي يخضع فيها الإنسان نفسه لألوان الرياضة الروحية والمجاهدة، ويعد فيها قلبه لمعرفة الحقائق عن طريق الكشف والمشاهدة، والتي تقوم أولاً ما اقتدى فيه المسلمون الأولون بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم من زهد ونسك وتقوى.. مما يرد مصدره في تحنث النبي (ص) في غار حراء قبل البعثة، وفيما يعكف عليه ويأخذ به نفسه من عبادة بعد البعثة وأبانها.. ولكن الحياة بعد ذلك ما لبثت بحكم اتصال العرب المسلمين بغيرهم من الأمم أصحاب الحضارات إذا اختلطت في بعضها وليس كلها عناصر دينية وفلسفية، استمال معها التصوف الذي كان يمثل الحياة الإسلامية إلى علم لبواطن القلوب ثم إلى فلسفة روحية بعد إن كان في أول عهده تصفية للنفوس، وتطهيراً للقلوب. أي أن التصوف الإسلامي أنطوى في تطوره على عناصر نظرية وعملية وروحية تكشف دراستها عن قواعده في السلوك، ومبادئه في الأخلاق ومناهجه في تذوق الحقائق ومعرفة الدقائق ما كان منه متصلاً بمعرفة الحقيقة العلية أو الذات الإلهية التي يعتبرها المتصوفة من ذوي الاتجاه الفلسفي، المنبع الفياض لكل ما يتجلى في الكون من آيات الحق والخير والجمال.وعكفت على الحياة الروحية طوائف شتى من المسلمين، تسمى كل فريق منها باسم.. فسمي أفاضل المسلمين بعد رسول الله بالصحابة، وسمي من صحب الصحابة التابعين، وسمي من عنوا بعد هؤلاء بأمر الدين بالزهاد والعباد والنساك. ولما وقعت الفتنة بالدنيا وظهر الترف بعد اتساع ملك المسلمين، سمي المقبلون على الله المنصرفون عن زخرف الدنيا باسم المتصوفة.ومنذ أواخر القرن الثاني للهجرة صار هذا الاسم علماً يميز به السالكون طريق الله من خواص المسلمين عن غيرهم من عامة المتدينين وعن غيرهم من علماء الظاهر المشتغلين بالدين.وللمؤرخين والباحثين قديماً وحديثاً آراء مختلفة في أصل كلمة صوفي كما أشير في فاتحة المقال، ولكن أغلبها اتفقت على رأي شبه موحد مفاده أن صفة الصوفي كانت في بداياتها قد نسبت إلى الصوف الذي اختص به المتصوفة بلبسه تميزاً لهم عمن يلبسون فاخر الثياب من فتنتهم الدنيا. وكما جاء عند معظم أعلام الصوفية أن الصوفي من لبس الصوف على الصفاء وأطعم الهوى ذوق الجفاء وكانت الدنيا منه على القفاء، وسلك منهاج المصطفى.[c1]ثالثاً : علماً [/c]التصوف في تكونه العلمي أحد قسمي علم الشريعة الذي انقسم في تطوره إلى علمين، علم اختص به الفقهاء في أحكام العامة والعبادات والمعاملات ويسمى بعلم الظاهر، وعلم اختص به المتصوفة ويشتمل على أحوالهم وأحكامهم في المراقبات والمحاسبات ورياضة النفس والمجاهدات والأذواق والمواجيد، وغير ذلك مما يتصل ببواطن القلوب. ولذلك سمي عند الدارسين والباحثين له بعلم الباطن.وينظر المتصوفة إلى أنفسهم على أنهم أصحاب النظرة نحو الحقيقة وباطنها.. ونظروا إلى الفقهاء وغيرهم من العلماء على أنهم أهل ظواهر.. وبالمقابل فإن الفقهاء نظروا إلى المتصوفة نظرة سخط وإعراض ويمكن أن نشهد ذلك في تاريخ الصراع - بين الفقهاء والمتصوفة امتداداً منذ بداية القرن الثالث الهجري، وإذا ما كانت هناك اختلافات حول معنى التصوف بين الفقهاء والمتصوفة فإن الطرفين لا يختلفان حول وجود محبة العبد لله.[c1]وللمتصوفة اتجاهين [/c]اتجاه يذهب في فكره إلى أن الله سبحانه وتعالى سام متعال وعلى الصوفي أن يجد ويجتهد ويصفي نفسه، ويصعد مرتبة مرتبة حتى يصل إليها أي إلى صفاء النفس. والاتجاه الثاني يذهب إلى أن الحقيقة الأزلية كامنة في أعماق النفس، وغير منفصلة عنها. وكل هم المتصوف أن يتعمق في ذاته كي ينفذ إلى الحقيقة الكبرى.في مقدمته يذكر ابن خلدون بما يؤكد أن أصل التصوف جاء به الإسلام، حيث يقول " هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى.. والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من المتعة والمال والجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عاماً بين الصحابة والسلف.وفي محاضرة للدكتور حسن سليم عبدالله الأستاذ بقسم اللغة العربية بجامعة الإمارات ألقاها في مقر الاتحاد النسائي في أبو ظبي يناير عام 2000م قال فيها " الصوفية محبة والمحبة هي العلامة الكبرى في الطريق إلى الله عز وجل.. والصوفية عرفها واعتقد بها العرب وهي تفريغ القلب من التعلق بأي شيء سوي محبة الله الخالق.. والقيام بواجبات محبته عبادة وزهداً والتقرب إليه بفضائل الأعمال، والشوق للقاءه". وقال في موضع آخر " إن من يطلب التصوف لن يستطيع التدرج في مدارج القرب إلى الله إلا إذا سمى عن الماديات الزائفة وابتعد عن حب الدنيا، وروض نفسه على محبة الله وآثره على ما عداه ".هكذا يفهم جوهر التصوف.. ومع ذلك فلا ينكر أحد أنه دخل صفوف أدعياء لا صلة لهم بالتصوف أبداً، وإنما اعتنوا في أن يشوهوا صورته ومكانته من خلال ما أدخلوا عليه من خلال فرق صنعوها على امتداد تاريخه بعضاً من البدع التي يجب التفريق بينها وبين أصل التصوف.. إلى جانب ما كان للمستشرقين لأغراض معروفة في دس الكثير من الأكاذيب في مؤلفات وآثار المتصوفة والتصوف. لذلك فإن الكثير والكثير جداً من الناس خاصة اليوم وفي عصرنا الحاضر يحملون عن التصوف ورجاله أفكاراً مشوهة يسودها الضبابية المعتمة من كل جوانبها وخاصة العربية منها معتبرين انفسهم حماة للكتاب والسنة في ظل جهل كثير من الناس وعدم معرفتهم وفهمهم لحقيقة التصوف والمتصوفة من خلال ادعائهم محاربة البدع والمحدثات وتصويرهم للتصوف بأنه اقبح البدع.[c1]التصوف وحقيقة مادخلت عليه من البدع والمحدثات[/c]التصوف كما عرفناه دون أن تمسنا نزعات الهوى الشخصية في انصافه أنه أولاً ليس بكرامات ولا أعمال خارقة ولا طيران في السماء ولا مشياً على الماء أو النار . بل هو استقامة وعلم وعمل ولكن لا ننكر أبداً أنه قد دخلت عليه عند بعض المجتمعات الاسلامية عرباً وعجماً بعض من أفكار ومعتقدات وعادات موروثة اختلط على مريديه ومحبيه فهمه عن حسن نوايا وفي بعض الاحيان عن جهل فتأصلت عندهم تلك الاعتقادات والعادات المغلوطة حتى صارت نسيجاً هشاً في طرقهم الصوفية يدعى عليها ما ليس فيها بعناية مبيتة ليتفريغها من محتواها ومضمونها الوجداني والايماني وما كان على أحد أن يأخذها يسوء القصد مما أدت عن البعض الآخر من من صدقوا وتأثروا بتلك المفاهيم والصور المغلوطة فكان لها عواقب سيئة في فهم التصوف كما لا يجب أن يذهب بالنا عن الدور الذي لعبته الشعوبية والغنوصية عند العجم بعد سقوط دولهم العظمى بظهور الاسلام وفي محاولاتها الشرسة أيضاً في هدم قيم التصوف الحقيقية المبنية على أصول الشريعة وروجت للكثير من معتقداتها القديمة عن قصد من خلال اعتمادهم على عوم هم مبتكريها مثل علوم الكلام والتأويل التي كانت لهم فيها الريادة في نشأتها فظهر من خلال هذا الثوب الجديد للتصوف عدد غير قليل من أعلام المتصوفة من العجم .. وكذلك تأثير بي~تهم التي اعتادوا عليها قبل اسلامهم.[c1]دور الاستشراق[/c]غالبية المستشرقين هم أيضاً خلطوا بين الحركة الصوفية الاسلامية وبين بعض تراثهم المسيحي فقال منهم أن الصوفية كانت موجودة قبل الاسلام أي في العصر الجاهلي حين كان كثير من عرب الجاهلية نصارى وكثير منهم قساوسة ورهبان والرهبنة عندهم أصل التصوف وربطوا آارئهم بوجود التشابه والوسائل في الزهد والنسك والتصفية والتخلية والتأمل ولبس الصوف.وكما عاش النبي صلى الله عليه وسلم فقيراً ولبس الصوف .. كان المسيح ابن مريم عليه السلام قد عاش فقيراً ولبس الصوف .وقال آخرون منهم من المستشرقين أن أصل التصوف مرده الى تأثره بالفلسفة اليونانية وخاصة فلسفة أفلاطون التي ترى أن الحقيقة العليا لا تدرك بالعقل وأعمال الفكر وإنما تدرك بالارتقاء عليه بالغيبة عن النفس التي يشاهدها الانسان (مافوق حسه وعقله) وتلك هي المعرفة الصوفية ولذلك فهي أي الصوفية الاسلامية نتاج فلسفة يونانية .آخرون ردوها الى تأثرها بالعقائد والادعية والاناشيد والرياضة النفسية والتفكر والذكر والمعرفة الهندية والبرهمية والبوذية وإن مثل هذه الافكار قد تسربت الى التصوف الاسلامي مع أن العرب في حقيقة الامر لم يكونوا قج عرفوا شيئاً عن حياة الهند الروحية وفلسفتها معرفة تجعلهم م}هلين للتأثر بها إلاّ بعد صدور كتاب البيروني عن الهند .. وأن البيروني إنما هو من المتأخرين إذ أن وفاته كانت سنة 440هـ.يقول عباس محمود العقاد في كتابه (حقائق الاسلام وأباطيل خصومه):" لعله لم يوجد في أهل دين من الاديان طرقاً للتصوف بلغت ما بلغته هذه الطرق عند المسلمين من الكثرة والنفوذ ولا وجه للمقارنة والمقابلة بين البرهمية أو بين البوذية مثلاً في العقائد الصوفية .أحد باحثي ودراسي التصوف من الغربيين المحايدين الاستاذ لويس لماسينيون / في كتابه (أصل التصوف ومصدره) يقول :" بعد دراستي الطويلة لنشأة التصوف الاسلامي أقول وأوكد أن التصوف الاسلامي في أصله وتطوره صدر عن إدامة تلاوة القرآن الكريم والتأمل فيه وممارسته لقد قام التصوف الاسلامي على أساس التلاوة المستمرة والقراءة الشاملة لهذا النص المعتبر مقدساً ومنه استمد خصائصه المميزة التلاوة المشتركة وبصوت مرتفع وإقامة مجالس الذكر المنتظمة التي فيها تتلى آيات من القرآن الكريم وفيها الكثير من الموضوعات للتأمل " ثم يقول في موضع آخلر ظن بعضهم أن التصوف مذهب مستورد من الخراج نشأ عن الرهبانية السريانية أو الافلاطونية اليونانية أو المزدكية الفارسية وهذا افتراض لا يمكن قبوله في صورته المبسطة هذه ذلك أنه منذ بداية الاسلام يمكن مشاهدة تكوين الآراء الخاصة بالمتصوفة المسلمين أنه قد تم من الداخل من خلال تلاوة القرآن الكريم المتواصلة والمتأملة لآياته وكذلك الحديث عن النبي محمد.وفي هذا السياق وهو ما يتعلق بنكران حلقات الذكر عند المتصوفة .. جاء في صحيح مسلم عن معاوية (ر) قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على حلقة من اصحابه فقال :" ما أجلسكم ؟؟ قالوا جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده على ما هدانا للاسلام ومن علينا قال (ص) الله عليه وسلم ما أجلسكم إلاّ ذلك ؟؟ ثم قال " أما إني لم استحلفكم تهمة لكم ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة " وروى البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الله وملائكته يطوفون بالطرق ويلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا الى حاجاتكم ".آخر المطاف أود أن أقتطف بعض الرياحين من جناح شيخ المشايخ ابو القاسم بن محمد الجنيد الصوفي الجليل الذي عرف التصوف عنده بأنه ذكر في اجتماع ووجد مع استماع وعمل مع اتباع ويلرى أن العازفين أخذوا الاعمال عن الله تعالى وإليه رجعوا فيها وأن الطرق كلها مسدودة إلاّ على من اقتفى أثر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ومما قاله أيضاً " إذا رأيتم الرجل يتربع في الهواء ويمشي على الماء فقيسوا أعماله على الكتاب والسنة .. فإن وافق وإلفاّ فاعلموا بأنه استدراج وله قول مشابه آخر " إن رأيتم أحداً يسير على الماء فاسئلوا عنه هل يقيم الشريعة ؟ فإن لم فإنه شيطان ".وختاماً لله در الشاعر القائل:ليس التصوف لبس الصوف ترقعه[c1] *** [/c]ولا بكاؤك إن غنى المغنوناولا صياح ولارقص ولا طرب[c1] *** [/c]ولا اضطراب كان قد صرت مجنونابل التصوف أن تصفو بلا كدر[c1] *** [/c]وتتبع الحق والقآن والديناوان ترى خاشعاً لله مكتبئباً[c1] *** [/c]على ذنوبك طول الدهر محزوناً مرد ذلك كما أتصور هو انطلاق هؤلاء في فهم التصوف من مفاهيم هي في الأصل مغلوطة تكونت لديهم نتيجة ظروف معينة رسخت في أذهانهم أفكاراً هي إلى الباطل أقرب منها إلى الحق.. والسبب الثاني وهو الأهم الذي ساهم في تأصيل تلك النظرة المغلوطة إنما هي بعض الأساليب التي يعتمد في نشرها بعض دعاة السلفية في كثير من بلاد العالم .
|
تقرير
المتصوفة واجتهاداتهم في الفكر الإسلامي بين القبول والإنكار
أخبار متعلقة