من عمارة الطين إلى حضارة الإسـمنت
[c1]* الماء والكهرباء في كل بيت وصيادون يحملون البكلاريوس [/c]
محمد عمر بحاحكأني لم اغب عنها قرابة اربعين عاماً . كاني كنت البارحة فقط هنا هاهي الديس الشرقية التي غادرتها ذات صباح، ذات بحرمن عام 1968م ، وانا في مقتبل الشباب تستقبلني عائداً اليها بعد كل هذه السنين .. لكن والحق يقال فان الجسد وحده كان هناك في مكان ما من هذا العالم الواسع الذي جلته شرقاً وغرباً ... اما الروح فقد كانت دائماً تسكن الديس لم تبارحها قط .. حملتها معي اينما ذهبت وكلما بعدت الشقه بيني وبينها ازددت تعلقاً بها .. فهي حاضرة على الدوام في الهواء الذي اتنفسة .. وما من قصة كتبتها الا كان في ثناياها نفحة من نفحات الديس الشرقية - هذا الركن في اقصى الشرق الحضرمي . وقد وصفتها ذات يوم من بداية حياتي الصحفية بأنها جزيرة وسط بحر من نخيل .. ولازال كثيرون في الديس يذكرون هذا العنوان ويرددونه.هاهي الديس بعد قرابة اربعين عاماً تعيدني طفلاً اليها يلعب " الغميضان" و" دحدوح المرق" ، مع اترابي في " القويرة" من صبيان وبنات كن في مثل عمري قبل ان يسدل عليهن السواد ويتوارين خلف الاسوار ، ثم سرعان مايصبحن زوجات وامهات حتى قبل ان يبلغن الحلم!هاهو ذا الطفل التي كنته يركض في غابة النخيل ، يلقط " البصر" والتمر المتساقط ، ويغتسل في مياه " الصيق" الكبريتية الساخنة او في مياه (العارة" الباردة").هاهو ذا الطفل الذي كنته قبل خمسين عاماً يقرأ ((الحزب)) في مسجد النور، ويصلي الجمعة في الجامع الكبير، ويحضر " الختم" مساء كل ليلة من ليالي رمضان المباركة في مسجد من مساجدها المتناثرة كحبات اللؤلؤ ،يرتل الاناشيد الدينية على إيقاع" الطيران " وهاهو ذا يخب مع راقصي العدة ويحاول ضبط ايقاع خطواته مع راقصي الشبواني ويحاول فهم شفرة شعرائه الفحول.هاهو ذا الطفل الذي كنته يذهب كل صباح الى الابتدائية الوحيدة في الديس ، يقرأ ، يكتب ، يرسم ، يسهم في تحرير الجريدة الحائطية.. وكأن القدر كان يحدد له خطاه القادمة منذ ذلك الحين لكي تغدو الصحافة قدره وعشقه ومهنته..وهاهو نفس الطفل الذي كنته في مراتع صباه ، تأخذه قدماه تارة الى "هبورك" واخرى الى " ثوبان" وثالثة الى ((الريدة)) ، ورابعة الى " حلفون" ، وخامسة الى (( معيان بحاح )) وسادسة الى " قارة الدنيا" .. هاهي آتار قدميه المعفرتين بالتراب على تلك الطرقات . وكم اخذتاه بعيداً الى " القرن" او الى " شرمة" للسباحة في مياه بحر العرب الصافية ، واللعب مع السلاحف ، والحلم بالسفر وركوب الموج الصاخب ذات يوم ، وحين تحقق هذا الحلم ، واصبح السفر حقيقة امتد نحو اربعين عاماً كاملة. كأن هذه الاربعين عاماً لم تكن سوى هنيهة ، هاهم اصدقاء الطفولة والصبا الجميل يبرزون من بين شقوق الابواب ، والجدران ، الحواري والازقة الضيقة ومن بيوت الطين التي هجروها الى بيوت الاسمنت والحجارة او بعدت بهم الشقة مثلي فاستوطنوا مدناً اخرى ، او كونوا عائلات فردية مساهمين باندثار الاسرة الممتدة ، وقد صاروا الان اطباء ومهندسين واساتذة جامعات وحملة شهادات عليا.تُرى من منهم لايزال يذكر الطفل - الفتى الذي كان يلعب معهم في الحواري وبيوت الطين المتلاصقة في الليالي المقمرة ؟ ومن من هؤلاء لايزال يذكر زميلهم التلميذ في ابتدائية الديس الوحيدة؟! وجدتني بدون شعور امام المدرسة حيث درست ويوم وصولي الى الديس وضع الوزيران خالد محفوظ بحاح وزير النفط والمعادن وعمر عبدالرحمن العمودي وزير النقل حجر الاساس لترميمها كما وضعا حجر الاساس لإنشاء لسانين بحريين في كل من " القرن" وقصيعر".المدينة القديمة او الديس القديمة كما تسمى اليوم ، لأن مدينة جديدة او ((نيوديس)) نشأت وامتدت لمساحة شاسعة وهي مدينة من الاسمنت والحجارة بدل بيوت الطين .. وبيوت الديس يومها كسائر قرى ومدن حضرموت كانت عمارتها من الطين وهي ابتكار حضرمي بامتياز . اما عمارة اليوم فعبارة عن علب كبريت اسمنتية لاجمال فيها ولاذوق ولكنها تلبي حاجة الناس الضرورية الى السكن حيث لم يتحول السكن بعد الى ترف!لكن حضارة الاسمنت فرضت قانونها حتى هنا وحلت محل عمارة الطين وان كانت الحضارة تفرض اساليبها العصرية في كل شيء بما في ذلك نمط البناء ، ويجد ذلك هوى او استجابة لدى السكان الذين لايستطيعون مقاومة منطقها او اغرائها طويلاً لكن مأخذي الوحيد والذي آلمني وحز في نفسي هو ذلك الاهمال لمساكنهم القديمة وتراثهم المعماري الطيني المتناسب مع البيئة ، الذي عاش مئات السنين ونرى شواهده الحية في عمارة الطين في شبام حضرموت اول ناطحات سحاب في العالم ، التي دخلت ضمن التراث العالمي الذي ينبغي الحفاظ عليه. وفي منارة المحضار بتريم وفي قصر السلام بسيئون ، وفي العديد من مدن حضرموت الداخل والساحل..آلمني كثيراً منظر تلك البيوت في الديس التي كانت عامرة بالحياة والحركة والزخرفة ذات يوم غير بعيد وقد صارت اطلالاً ، ومنها بيوت تعود لبيت البحاح الذي انتمي اليه .. وبيت البكري الملاصق لبيتنا ، وقد ارتبطت بعلاقة جيرة وزمالة بالعديد من ابناء البكري ممن هم في سني او يكبروني قليلاً .وبقدر ما آلمني ما آل إليه بينهم في الديس فقد اسعدني لقاء واحد منهم في المكلا وهو د. عوض البكري الذي يشغل الان المدير العام لمكتب التربية والتعليم في حضرموت .. وكان يحضر بصفته تلك ملتقى تنمية القيادات الشابة 2006م الذي كان يلتئم لحظتها في قاعة بلفقيه للمؤتمرات بالمكلا ، حيث تحدث الى الشباب الوزير خالد محفوظ بحاح ومحافظ حضرموت عبدالقادر هلال حديثاً من القلب الى القلب.وفي اللحظات القصيرة التي تصافحنا وتعانقنا خلالها لم نتبادل الا حديثا قصيراً مع صديقي الدكتور عوض البكري لكني لم استطع ان اعاتبه على ما اصاب دارهم في الديس من اهمال حتى لم يبق منه سوى اطلال.. ولم تكن دارهم الوحيدة في ذلك فقد رأيت اطلالاً كثيرة في الديس كانت ذات يوم بيوتاً عامرة بالحياة والناس..ومن بين المعالم التي كاد الاهمال يأخذ منها ( الحصن) وهي دار الحكم في تلك الايام، وجزءً من التاريخ السياسي والاداري للديس لعقود عديدة .. ولولا غيرة بعض ابنائها من اندثار هذا المعلم وخاصة جمعية الثقافة وحماية التراث بالديس وعلى رأسها رجل مثقف غيور من ابناء الديس الكرام هو سعيد عبدالرب الحوثري .. وهو بالمناسبة صديقي وجاري و ((مسلاف)) داره قبالة " سدة" دارنا ... لولا هذه ا5لغيرة المحمودة ، ولولا تجاوب وزير النفط والمعادن خالد بحاح الذي بادر الى ان تتولى وزارته ترميم الحصن والمدرسة كما سلف لصار الحصن في وقت قد لايكون بعيداً اطلالا هوالآخر .... كأنها لم تكن اربعين عاماً ..