أمضيت أربعة أيام في دبي، اكتشفت في نهايتها أنني لم استخدم اللغة العربية مع كل الذين تعاملت معهم، باستثناء عدد محدود من الأصدقاء، وما أثار دهشتي أن الموظفين العرب في المؤتمر الذي شهدته كانوا يتحدثون الانجليزية، وان أوراق المؤتمر ولغة التخاطب الأساسية فيه كانت بالانجليزية. وحين أبديت الملاحظة لبعض من أعرف، فإنهم أضافوا إلى معلوماتي أن اللغة العربية تكاد تختفي من المدارس والجامعات، التي أصبحت كاففة المناهج تدرس فيها بالانجليزية، حتى ان قسم اللغة العربية في جامعة العين أصبحت العربية فيه مقصورة على دروس النحو والصرف. أما بقية المواد فإنها تدرس باللغة الانجليزية، وسمعت منهم أيضا أن مكاتبات بعض الأجهزة الرسمية، مثل المجلس التنفيذي بدورها أصبحت تتم بالانجليزية.منذ زمن غير بعيد، والانجليزية هي لغة التعامل في الأسواق والفنادق ليس في دبي وحدها ولا دولة الإمارات فقط، وإنما في مختلف الدول الخليجية، بل لعلي لا أبالغ إذا قلت أن تراجع اللغة العربية أصبح وباء اجتاح مختلف أقطار العالم العربي. وهذا تراجع تم لصالح الانجليزية في المشرق، والفرنسية في الدول المغاربية. وهو ما يدل عليه التوسع الهائل في تعلم اللغات الأجنبية حتى في رياض الأطفال، التي ينبغي أن يَقْصُرَ التعليم فيها على اللغة "الأم"، الأمر الذي يعني عموم البلوى مع اختلاف في درجة الإصابة، التي هي أشد في منطقة الخليج، باستثناء السعودية التي ما زالت تتمتع بثقل سكاني (18 مليون نسمة) لم يسمح للوباء بالانتشار بذات القدر الذي تعانيه الدول الخليجية الأخرى.ثمة أسباب متعددة للهزيمة اللغوية التي مرت بها الأمة العربية، لعل أهمها حالة الهزيمة الحضارية والسياسية المخيمة، التي جعلت المغلوب يسعى إلى تقليد الغالب وتمثله، مصداقا لمقولة ابن خلدون. ونحن نشاهد تجليات ذلك التقليد في مختلف نواحي السلوك الاجتماعي، الأمر الذي لا يستغرب منه آن ينسحب التقليد على لغة التعامل بين الناس. غير أن وطأة الهزيمة بدت أشد، وثمنها غدا باهظا في المجتمعات الخليجية التي تعاني الجدب السكاني، وتعتمد بنحو كبير على العمالة الوافدة، التي جاءت بلغاتها المتعددة، وأصبحت الانجليزية هي اللغة المعتمدة في التعامل بينها، وهي الظاهرة التي تنامت إبان العقود الثلاثة الأخيرة، التي اصبحت العمالة الوافدة تمثل خلالها الثقل السكاني الاكبر في اغلب الأقطار الخليجية. وإذا استثنينا السعودية، فان الوافدين اصبحوا يشكلون ما بين 70 % و80 % في المتوسط من سكان تلك الأقطار، علما بأن نسبة الوافدين تجاوزت 90 % في دبي.إزاء ذلك، فان الخلل في التركيبة السكانية أصبح على رأس الأخطار والتحديات التي تهدد الدول الخليجية، وهي الظاهرة التي كان قد نبه إليها ذات يوم بشدة الشيخ زايد بن سلطان حاكم دولة الإمارات الراحل. ذلك أن نسبة المواطنين، التي تتراوح بين 20 % و30 % تتراجع لأسباب اجتماعية عدة، منها قلة الخصوبة، في حين تتزايد أعداد الوافدين، ليس فقط من جراء التوسع المستمر في المشروعات العمرانية، ولكن أيضا نتيجة لارتفاع معدلات المواليد بينهم. ومن المؤشرات المثيرة للانتباه في هذا الصدد، أن العمالة الهندية تمثل النسبة الاكبر بين العمالة الأجنبية الوافدة (حوالي 60%)، الأمر الذي أدى إلى تخليق كيان هندي قوي في بنية المجتمع الخليجي. انتشر في مختلف الأنشطة، وأصبح مؤثرا ـ واضحي مهيمنا ـ في العديد من مجالات المال والأعمال. والشواهد الدالة على ذلك كثيرة في دولة الإمارات العربية، وفي دبي بوجه اخص، التي أصبحت معقلا لأكبر رجال الأعمال الهنود، الذين تحولوا إلى مُلاكٍ لما لا يقل عن 30 % من المشروعات العمرانية الجديدة. وهذا الثقل انعكس على حركة الطيران مع الهند، حيث أصبحت شركتا طيران الإمارات والهند تنظمان بين البلدين 16 رحلة مباشرة يوميا، بمعدل رحلة كل ساعة ونصف.صحيح أن العمالة الوافدة تقوم بدور مهم في مشروعات العمران والنهضة التي تشهدها منطقة الخليج الآن، وذلك عنصر مهم لا يمكن تجاهله، لكن من الصحيح أيضا إن الخلل في التركيبة السكانية يؤثر في هوية المنطقة، وفي شأن استمراره أن يؤثر أيضا على أمنها القومي، خصوصا إن العمالة العربية تمثل نسبة متواضعة في الدول الخليجية بشكل عام، إذا قورنت بالآسيوية. ذلك أنها لا تتجاوز 10 % من العمالة الوافدة الى تلك الدول، باستثناء بلدين هما السعودية والكويت، حيث تمثل العمالة العربية ما بين 30 و35 % من عمالة الوافدين إليها.لأن العمالة الآسيوية تحديدا أصبحت تمثل حضورا مهما في التركيبة السكانية والنشاط الاقتصادي. ولان الاتفاقيات الدولية اصبحت تضمن للوافدين حقوقا في الإقامة والرعاية والتجنيس في الدول التي يقيمون بها، فان القسمات التي نشهدها الآن في وجه أغلب الدول الخليجية مرشحة للتغيير خلال السنوات القليلة القادمة. وإذا تم الالتزام بتلك الاتفاقيات، ومع تعدد تأسيس المجالس المنتخبة في تلك الدول، فليس مستغربا أن تتحول الجاليات الآسيوية إلى قوى ضاغطة على القرار السياسي، إن لم تصبح مشاركة فيه. وإذا مضت الأمور على هذا النحو، فان عروبة الخليج ـ لن تصبح أمرا مقطوعا به، وانها ستغدو محل شك كبير. وهو يثير قلق ومخاوف عدد غير قليل من المثقفين الخليجيين الذين يعتبرون أن هذه القضية لم تأخذ حقها من الاهتمام العام، محليا وعربيا. ورغم أن بعض الدراسات الأكاديمية اجري حول مسألة التركيبة السكانية في منطقة الخليج، ألا انه لم يعرف أن الملف انتقل من المستوى الأكاديمي إلى المستوى السياسي. وثمة تعامل حذر معه على المستوي الإعلامي، ربما نظرا لدقته وحساسيته. (للعلم: مجلة "المجلة" نشرت تقريرا حول الموضوع في 4 / 10 / 2006م اعتبرت فيه العمالة الآسيوية قنبلة موقوتة في الخليج).ما يثير الانتباه أيضا في هذا الصدد، أن الحديث عن تحديات ومهددات الأمن القومي في منطقة الخليج لا يتوقف عند قضية التركيبة السكانية، فيما هو معلن عنه على الأقل. وفي العادة، فان الذين يتناولون الموضوع حتى من خلال المنابر الإعلامية يتحدثون عن الخطر الإيراني، في حين ان الزحف الهندي على دول الخليج مسكوت عنه. والخطر الإيراني ظني، ومرهون بالخلل في موازين القوى بالمنطقة، بالتالي فهو يتأثر بما تتعرض له تلك الموازين من صعود وهبوط. أما الخطر الهندي فهو قطعي ووجودي، والشواهد الدالة عليه لا تعد ولا تحصى، وهذه مسألة تحتاج إلى تحرير.ذلك أنني ازعم بأن منطقة الخليج من ضحايا انهيار النظام العربي، ومن ثم غياب الدور الفاعل للدول الحاملة لذلك النظام، ومصر في المقدمة منها، بوجه اخص. فمنذ الاحتلال العراقي للكويت عام 90% . ومنذ عجز النظام العربي عن حماية الكويت وإخراج القوات العراقية من أراضيه، الأمر الذي نهضت به الولايات المتحدة والقوات المتعددة الجنسيات فحررت الكويت وقامت بتأديب نظام الرئيس صدام حسين. منذ ذلك الحين، استقر في يقين الجميع بالمنطقة أن المظلة الغربية وحدها القادرة على حماية أمن دولها. هذا الإدراك ترجم إلى حضور قوي على الأرض، وكانت له انعكاساته الاجتماعية والثقافية التي برزت في الكويت بوجه اخص.هذا الحضور اتسعت دائرته، حتى شمل مجالات وأنشطة عدة بعد أحداث 11 سبتمبر، والتي ضغطت بها واشنطن على مختلف الدول العربية والإسلامية، ملوحة بشعار " محاربة الإرهاب"، الذي ترجم في الواقع إلى تكثيف للحضور الأمني وتعديلات في مناهج التعليم، والتركيز على مراقبة تحركات الأشخاص والأموال، والتي شاركت فيها آو مارستها الولايات المتحدة في أقطار عربية عدة، كانت دول الخليج من بينها. وإذا حدث ذلك فيما يخص دولا عربية "كبيرة"، فلك أن تتصور وقعها ودورها في الدول الأصغر والأضعف.هكذا، فانه في ظل غياب الظهير العربي، كان طبيعيا أن يتمدد النفوذ الغربي، وان تتصرف غيران بحسبانها قوة إقليمية عظمى. لا تنافسها في ذلك سوى دولة واحدة هي إسرائيل، التي ما زالت تسعى جاهدة لكي تحتفظ بدور الأقوى، عبر إثارة وتحريض الدول الغربية ضد المشروع النووي ايران، الذي من شأنه أن يعادل الكفة مع إسرائيل ويفقدها شعورها بالتفوق، بعدما أفقدها فشلها في العدوان على لبنان قوة الردع.في هذه الأجواء، يصبح شعور الخليجيين بالقلق مبررا إلى حد كبير، ويغدو فتح ملف متطلبات الأمن الخليجي من واجبات الوقت التي تحتاج إلى ترتيب للأولويات، بقدر ما تتطلب جهدا حثيثا مسؤولا، يحفظ للخليج عروبته، كما يحفظ له استقراره.[c1]نقلاً عن صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية [/c]
عروبة الخليج من واجبات الوقت
أخبار متعلقة