وقفة أدبية مع الشاعر الغنائي (محمود علي السلامي):
كما هو معروف أن اللغة هي(وعاء الفكر) أي أن اللغة بألفاظها ودلالاتها وإيحاءاتها، وجملها وتعابيرها المتعددة من أهم وسائل التعبير عن أفكارنا ومشاعرنا ووجداننا، لذلك فإن اللغة تختزن في داخلها وفي إطار تكوينها (تفكيرنا) ومشاعرنا، وانفعالنا وتفاعلنا مع كل ما يحيط بذاتنا ويؤثر فيه...طبعاً مع الأخذ بعين الاعتبار بأن هذا الانفعال والتفاعل والتأثر يختلف من ذات إلى آخرى، وكذلك يختلف أٍسلوب التعبير والبوح عن مكنونات النفس الإنسانية من شخص إلى آخر، تبعاً لاختلاف الذات المعبرة والموقف الشعوري بما يحويه ومايثيره في النفس من شعور وانفعال، وما يتركه من أثر فيها مثل:مشاعر الحب _ الفرح _ أو الحزن _الألم ...)، والإنسان بطبيعته يحاول التعبير عن هذه المشاعر والانفعالات بوسائل وأدوات تعبيرية متعددة..لذلك نجد أن المشاعر أو الأديب يتخذ من اللغة بمفرداتها ومقاطعها الصوتية وإيحاءاتها وسيلة للتعبير عن مشاعره وأفكاره، وانفعالاته... فهو يصور لنا تلك المشاعر والعواطف المتدفقة الإحساس من خلال اختياره مفردات وجملاً تعبيرية مترابطة، بسيطة من حيث الصياغة والتركيب ولكنها عميقة في معناها،مؤثرة في وجدان وفكر (المتلقي)، لذلك تجدنا نلمس صدق الإحساس ودفق المشاعر وعمق المعاناة من خلال لغة المشاعر (لغة النص) وما تحمله من إيحاء: ووقع (تنغيم) وارتباط فني بين مفردات ومضمون النص الشعري، يصورلنا بوضوح عاطفة الشاعر وإحساسه وانفعاله...فتجدنا نطرب فرحاً مع الشاعر من خلال تذوقنا للغة النص بمفرداته حين تأتي منسجمة مترابطة لترسم لنا صورة شعرية معبرة عن الفرح والنشوة،وتجدنا نحزن ونتألم أيضاً في مواضع الحزن والألم في النص (الغنائي) ونذوب شوقاً ولهفة وهياماً حين تأتي لغة النص مصورة لنا شوق المحب، ولوعته ولهفته وهيامه ... بلغة مؤثرة معبرة عن عاطفة الشاعر ومعاناته وإحساسه الصادق.- وهذا مانجده حقيقة عند شاعرنا (محمود علي السلامي) وشاعريته الرقيقة التي تنساب إلى وجدان المتلقي برقة وبساطة لغتها وما تحمله من معنى وأثر عميق يدل على قوة العاطفة وصدق الإحساس الأمر الذي يجعلنا دون شك نقف بتأثر وتفاعل أمام تلك المشاعر الصادقة المتدفقة بلغة بسيطة التركيب والصياغة .. هي لغة رقيقة مفهومة عميقة التعبير والمعنى.ولكي ندلل على ما أوردناه سلفاً عن شاعرنا (محمود السلامي) لنتأمل _ عزيزي القارئ _ هذه الأبيات وهي - فقط على سبيل المثال _ من قصيده:(عرفتك قبل ماتعرف على الحب): حيث يقول:[c1]عرفتك قبل ماتعرف على الحبوشفتك بالحلا والحسن تعجب ورنة دقة الأجراس تعلنخطر ياويل من يلمس ويقربوزادت حيرتي في حسن يملكقلوب الناس يأسرها وينهب[/c]فمن خلال تلك الكلمات البسيطة، تتجلى لنا بوضوح شاعرية (السلامي) ذات الإحساس المرهف، والانفعال الوجداني المتأثر بما يراه الشاعر أمامه من جمال يأسر القلوب وينهبها:[c1]وزادت حيرتي من حسن يملك[c1] *** [/c] قلوب الناس يأسرها وينهب[/c]وتزداد مشاعر (الحب) قوة ووضوحاً فتظهر في تعبير جميل بسيط يعترف فيه شاعرنا بمدى حبه ووفائه بعهده للمحبوب رغم مايلقاه من معاناة وألم وسهر، وما يكابده من نيران الظنون:[c1]أنا حبيت من حب حيــــاتي [c1] *** [/c] وعـاهدتـــه صفاء حتى ممـــــاتي ولكن كيف سوي في ظنوني[c1] *** [/c] تشعلل نــار في مضجـع مباتــــــي[/c] وتظل مشاعر الحب المتدفقة النابعة من الإحساس الوجداني الصادق والإخلاص والوفاء النابع من قلب الشاعر(المحب) تجاه المحبوب سمات مميزة لمعظم (غنائيات) شاعرنا، حيث تأتي هذه المشاعر المتدفقة،المتأثرة غالباً ممزوجة بالشكوى والمعاناة من جفاء المحبوب وعدم وفائه للشاعر(المحب) وما يتركه ذلك الجفا والبعد من أثر عميق في نفس الشاعر ووجدانه من لوعة وهيام وظماً عاطفي لايرتوي:[c1]وجاني الليل يشرح لي هيامي[c1] *** [/c] وقلبي لم يزل للحب ظامـيوصور لي جمال الحب عن من [c1] *** [/c] بحسنه صار يحرمني منامي[/c] فالاحساس والانفعال الوجداني يتضح لنا من خلال مفردات الشاعر المعبرة عن صدق المعاناة لدى الشاعر، حيث يورد لنا مفردات وجمل توحي لنا بذلك مثل:«يشرح لي هيامي، قلبي لم يزل للحب ظامي، يحرمني منامي»ونستمع إلى شاعرنا يصور لنا ما يلقاه من ألم واحتراق وأسى.. جراء عدم وفاء الطرف الأخر (المحبوب) بمواعيده المتكررة، الأمر الذي يجعل الشاعر يحاول قدر الإمكان أن يكابر في تحمل السهر والألم والاشتياق، وأن يصبر نفسه ومشاعره المتأججة ليظل محباً وفياً مخلصاً في حبه، ورغم كل ما يعانيه ما يلقاه من (جفا وبعد وإخلاف للوعد):[c1]مواعيده هباء تمسي وتصبحوأنا ياما دموع بابكى ومسحوقلبي ضاق من صبره ولكنيقول لي كيف ماصلح يصلحأنا راضي بما يفعل حبيبيمكانه لي حبيب القلب يصبح[/c]فالشاعر هنا يرتضي لنفسه الألم والسهر وفيض الدموع واحتمال نيران البعد والجفا طالما أن كل ذلك صادر من المحبوب ...._ وفي قصيدته الرائعة (حبيبي لو جفا في الحب مرة) ترسم لنا لغة النص ومفرداتها الرقيقة والبسيطة صورة واضحة لعاطفة الشاعر ومدى تمسكه بالمحبوب ووفائه له، في إصرار وإقرار واضح رغم ما يبديه المحبوب من جفا وهجران للشاعر:[c1]حبيبي لو جفا في الحب مرة وحتى لو جفا ألفين مرةمكاني باذكره مانساه مهما يسوي ما اشتهى فالأمر أمره[/c]لكن الشاعر مع كل ذلك لايستطيع إخفاء معاناته المتمثلة في لوعة الشاعر ولهفته واشتياقه للقاء المحبوب الممتنع في وصاله ... ويأتي ذلك في تصوير وتعبير دقيق رقيق مع بساطة في اللغة والتركيب وعمق في المعنى.. إن الإنسان حينما لا يستطيع أن يحقق رغباته وأحلامه على أرض الواقع وحين يعجز كذلك في الوصول إلى غاياته المرتقبة، فإنه يلجأ إلى تحقيق كل ذلك في عالم الأحلام والخيال لعله يروي بعض عطشه الوجداني العاطفي.. ولذلك نجد شاعرنا يقول.. [c1]أشوفه في الخيال واقف أمامي [c1] *** [/c] يشاغل قلب متلهف وظامي لوصله آه ماأصعب وصاله[/c] وكما قلنا سابقاً أن شاعرنا (محمود علي السلامي) من خلال العديد من غنائياته الرائعة يظهر بجلاء في صورة (المحب) المأجج المشاعر الذي يحترق شوقاً وهياماً، ويرتضي لنفسه العذاب _ مكابراً _ ويحاول التزام الصبر ومكابرة جفا (المحبوب) وهجره له، لأن عاطفة الحب الإنسانية الصادقة لابد أن تقوم على التسامح والتضحية والإخلاص والوفاء من قبل المحب.[c1]ومهما قد بعد أو زاد هجـــره [c1] *** [/c] بقلبي لم يزل حــــبه وذكـــرهوأقسم له وفاء في الحب أني[c1] *** [/c] أحبه بالصفا عمـــري وعمــــره[/c] وتأتي رائعته الشهيرة»ياساكنة مهجتي» لتؤكد لنا مدى الترابط الوثيق بين لغة النص الشعرية والانفعال الداخلي الوجداني للشاعر:[c1]ياساكنة مهجتي[c1] *** [/c] بين الحشـا والـــــروحوناسية لوعــتي[c1] *** [/c] زاد السهــر والنـــــوح [/c] _ نلاحظ عزيزي القارئ _ النداء _ العتاب_ الموجه للمحبوب قد جاء بأسلوب مشحون بالعاطفة وعمق الشعور من خلال النداء المصحوب بالاستعطاف والتضرع للمحبوب (ياساكنة مهجتي بين الحشا والروح) فاللغة الشعرية في هذا السياق تكشف لنا مكانة المحبوب الكبيرة لدى الشاعر وعظيم الحب الذي يحمله قلب الشاعر، فقد بلغ به الحب والهيام مبلغاً عظيماً استوطن من خلاله مهجة الشاعر، بما يؤكد استقرار وتمكن هذا المحبوب من قلب الشاعر وروحه، وهو بلا شك تعبير يوحي بقوة الحب وصدق العاطفة لدى شاعرنا، فأي نداء، وأي تعبير أرق وأجمل_ في هذا الموضوع _ من قول شاعرنا «ياساكنة مهجتي».وبهذه اللغة الشعرية البسيطة العميقة، يقدم شاعرنا عتابه الباكي وشكواه واستعطافه للمحبوب من خلال بقية أبيات النص، حيث يقول:[c1]ياساكنة مهجتـــي [c1] *** [/c] بين الحشا والـــــــــروح وناسية لــــــوعتي [c1] *** [/c] زاد السهر والنــــــــــوحلو تنظري دمعتي [c1] *** [/c] في الليل لمـا تسيـــــلأو تسمعي أنتـــي [c1] *** [/c] ماتشفقي لي قليــــــل[/c] فاللغة الشعرية للنص - كما نلاحظ - تحمل إحساساً متدفقاً، إحساساً ممزوجاً (بالحب والألم) في سياق تعبيري متناسق متجانس الألفاظ للوعة، السهر، النوح، الدمعة، وكذلك قوله:لو تنظري دمعتي، أو تسمعي أنتي بما في هذه الجمل الشعرية من الانسجام والتجانس اللفظي الموسيقي، وما فيها من الرقة والجمال والإيحاء ما يصور بوضوح حالة الشاعر وهيامه، ومعاناته وألمه تصويراً يجعلنا نحس بإحساس الشاعر ونتألم معه، ونشفق عليه نحن _ إن لم يشفق قلب المحبوب أو يرق _ وهكذا تأتي بقية أبيات هذه القصيدة متدفقة العاطفة والإحساس بلغة تحمل صدق المشاعر وعمق التجربة الفنية...[c1]الخلاصة:[/c]من خلال ما أوردناه من النماذج الغنائية لشاعرنا المبدع (محمود علي السلامي) نجد أن لغة النص الشعرية في (غنائيات) السلامي بمفرداتها وإيحاءاتها،وبساطة تركيبها تختزن في تعابيرها ومقاطعها الصوتية إحساس وانفعال الشاعر، وآلامه، ومعاناته، واشتياقه... ولكنها لغة مفهومة رقيقة مؤثرة استطاع من خلالها شاعرنا أن يجعلنا ننفعل ونتفاعل معه لما في لغته الرقيقة من أثر عميق نابع من صدق الإحساس والمشاعر التي تمتزج _ دون شك _ بمشاعر ووجدان المتلقي المتذوق.