لم تكن سوى لحظات تلك التي أستمر فيها الخوف من المجهول الذي ينتظرني هناك! ولحظات من القلق قبل أن تطأ رجلي عتبة البوابة. سكون يملأ المكان والساحة التي تكسوها الرمال إلا ما ندر من الاشجار لغرض الاستظلال ،وبوابة قديمة مهترئة عفى عليها الزمن .المكان لم يكن يوحي بالاطمئنان .سرت متأملة المكان ، بدا كمقبرة منسية تتناثر فيها القبور هنا وهناك عبرشواهد بشرية تجلس بهدوء تحت الشجر ، أو تركن الى احدى الزوايا النائية . يحملقون بما بين أيديهم من طعام أو شراب أو أي شئ آخر .بدت الحيرة واضحة في أعينهم وهم يمعنون النظر الى هذا الزائر الغريب عن مقبرتهم.فالمعتاد أنه نادرا ما يأتي الى هذه المستشفى غير المرضى وذويهم بالاضافة الى الممرضات والاطباء . شعرت بقشعريرة لحظة ولوجي الى بهو الاستقبال. أخذت أسأل عن عنبر المريضات فقد ذهبت لزيارة صديقة لي دخلت المستشفى لتتلقى علاجا نفسيا ،.. وقبل أن أصل اليه ولجت ادارة المستشفى وجدت احدى الطبيبات تجلس منتظرة دورها في الاشراف الدوري على الاقسام .جلست على أحد المقاعد بجانب احدى الطبيبات .أخذت نفسا عميقا قبل أن أبدأ حديثي .قلت لها : الآن زال قلقي وتوتري فهذه أول مرة أدخل فيها الى هذا المستشفى الذي كنت أنتظر دخوله منذ فترة طويلة ، لكني كنت خائفة وقلقة من الدخول الى مثل هذا المشفى النفسي ، خفت من مواجهة المجهول المرعب الذي يسكن داخله. لم أرغب بمشاهدة هؤلاء المرضى النفسيين !إن معاناتهم تؤلمني وتذكرني بما يعانيه انسان هذا الزمان ، وإمكانية أن نصاب في أي لحظة بمثل هذه المعاناة النفسية المؤلمة . إن المرض النفسي غول ، بعبع يجب الابتعاد عنه وأن هؤلاء الذين يصابون به كما هو متعارف عليه في مجتمعنا بل ومجتمعاتنا العربية بشكل خاص أنه يدخل ضمن دائرة العيب ، و الرذيلة ويعيشون منبوذين من الآخرين .مسكين هذا الذي يصاب به ليس منا هذا المسكين ! إنه مجنون معتوه فقد عقله ! ليس أقسى على الانسان من أن يفقد عقله .. يقال لا تبكي على من مات بل على من فقد عقله .سألت الطبيبة عن ماهية المرض النفسي وامكانية التعافي منه وهل صحيح أن من يصاب به لايشفى منه ؟فأجابتني بالنفي وأن كل انسان يمكن أن يتعرض لأزمات نفسية بين الفينة والاخرى نتيجة ضغوطات قد يتعرض لها ، لكن هناك من يكون أكثر قابلية لمجاراة الامور ومقاومة هذه الازمات وهناك من يفقد اتزانه ويحتاج للمساعدة ، وبقليل من الصبرومتابعة ارشادات الطبيب يتخلص من هذه المعاناة النفسية .و مستشفى الامراض النفسية والعقلية في عدن أول مستشفى بل ويكاد يكون الوحيد في اليمن من حيث التخصص في هذا المجال وهو يقوم بدور كبير في معالجة المرضى ومرتاديه ويوفر لهم ما تيسر من الخدمات الصحية و الادوية اللازمة . قلت للطبيبة في معرض حديثي إن المجتمع اليمني والعربي بشكل خاص يرفض تقبل فكرة المرض النفسي بل وينبذ المريض به ، ولا يجد في أعينهم الا الشفقة وأحيانا الازدراء !مع أنه في الاونة الاخيرة كثرت الامراض النفسية ، نسمع عن الذين يعانون من قلة النوم والارق.وهؤلاء يعانون من الاضطرابات والخوف والقلق من المجهول.وهؤلاء الذين يعانون من الصداع والارهاق الذهني والعصبي .وأغلبهم يلجأون الى تناول المهدئات بعشوائية دون الرجوع الى طبيب مختص ، والبعض الآخر يحتفظ بمعاناته في نفسه حتى تتعمق وتتحول الى معاناة مزمنة يمكن أن تنفجر في أي لحظة أو تحوله الى انسان متناقض ذي شخصيتين ، مهزوز في مواقفه وأفعاله وسلوكياته وأفكاره .والسبب الحرج والخوف من المجتمع وثقافة الانغلاق والتكتم التي تعتبر المرض النفسي عيبا وخطأ ومحظور الوقوع فيه ! أجابتني الطبيبة بأن هناك الكثير من المرضى الذين يعانون من الاكتئاب تمت معالجتهم وهم الآن يمارسون حياتهم بشكل جيد وطبيعي وحيوي ، وهذا ما حدث لصديقتي .نحن الآن نعيش في عالم ملئ بالمتناقضات ويشهد الكثير من المتغيرات والاحداث المتسارعة التي قد تولد ضغوطات لاتحتملها النفوس البشرية أحيانا وليس عيبا أن نلجأ الى مثل هؤلاء الاختصاصيين النفسيين بعد اللجؤ الى الله طبعا للمساعدة والارشاد بدلا من العشوائية التي قد تسبب الادمان وتزيد الطين بلة . وهناك ظاهرة خطيرة تفشت في مجتمعاتنا العربية وأيضا الغربية وهي حالة الازدواجية في الشخصية التي أصبحت مرضا يعاني منه الاغلبية دون أن يعرفوا أنهم مزدوجون في شخصياتهم أو أنهم يتجاهلون مرضهم هذا .(وللحديث بقية)
أخبار متعلقة