اليوتيبا لـ ( توماس مور ) غالباً ما تتملكنا الرغبة في شرح وإظهار ما قرأناه لغيرنا ربما لزيادة المتعة بمثل هذا الإشراك في حين يمثل هذا السلوك نموذجاً من طرق نقل المعرفة للآخرين .. ولعل القارئ ذاته يجد هو الأخر لذة ومتعة قراءة ما قدمه الآخرون من خلال قراءتهم ولا اخفي أني حين لا أجد من يشاركني متعة القراءة لرواية ما لا أجد حرجاً من عرض خلاصاتي على من أجده حتى وان بدا تعاطفه مع شرحي فاتراً المهم .. أني أمارس بهذا الفعل ما أجده يلح علي بفعل ذلك.. ( واليوتيبا لـ ( توماس مور) .. هي من الموضوعات الروائية التي أدهشتني تفاصيلها المتوافقة إلى حد بعيد مع تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف والمتفقة بصورة عامة مع كافة الرسالات السماوية التي تحض على القيم وتجعل المتعة في حدود قوانينها .. وتنبذ الأفعال التي تحط من المتعة الحياتية أو تجعل النفس تميل إلى الأفعال الشريرة ويقال أن الحقوقي اللامع “ توماس مور “ احد ابرز الوجوه في عصره اعني في الفترة 1477-1477م إذ يعد الروائي من ابرز الشخصيات في عهد الملك “ هنري الثامن “ 1509- 1547م فقد أصبح بعد شهرة المحاماة الوزير الأول للملك ثم محاضراً في القانون ثم دخل البرلمان ونحوها من مناصب عديدة حتى ترأس مجلس العموم ثم أصبح قاضياً للدوقية .. إلا أن قصة رغبة الملك “ هنري الثامن” في تطليق زوجته “ الملكة كاترين” وتعيين نفسه رئيساً للكنيسة مطالباً رجال الدين والدولة بالاعتراف له بهذا المنصب .. جعل مور يبدو من أول الرافضين لذلك الأمر الذي جعله يتهم بالخيانة وبعد أشهر من السجن قضى الحكم بإعدامه وإخراج الأحشاء .. اعني فصل الرأس عن الجسد ثم العبث بأعضائه وبعد محاولات استعطاف تم تخفيض الحكم إلى الإعدام دون نزع الأحشاء ونفذ الحكم في 6 يوليو1535م وهو ما اعد نقطة سوداء في حكم “ هنري الثامن اعني إعدام شخصية فذة مبدعة بحجم “ مور “.ولكن ما هي حكاية “يوتيبا” توماس مور؟!هي حالة وصف خيالية ترتقي لمستوى الحقيقة لعالم جزيرة افتراضية لكنها بدت حقيقة في سرده الروائي ضمن مسافة خمسة أميال لجزيرة في البحر الذي وصفه بالهادئ وسط تلك الصخور التي شكلت محمية طبيعية لسكانها من الأنواء والأخطار الخارجية تشكلت قيم “ اليوتبين “ المنتشرين على أربع وخمسين مدينة يتكلمون لغة واحدة بتقاليد وقيم موحدة معتبراً أن نمط الحياة الزراعية هي الغالبة لدى هؤلاء ناهيك عن عدم وجود البطالة لديهم لتنوع اهتماماتهم الحياتية بين علمية وفلكية إلا أنهم كما يقول لا يؤمنون بالسحر والكهنة رغم إيمانهم بطوالع النجوم لارتباط ذلك بالارض مبيناً نموذج التكامل في هذه الجزيرة بين الريف الذي ينتج الماشية والدواجن والمنتجات الزراعية الأخرى .. ولكن بطرق تضمن وفرة الإنتاج .. ما يجعل فكرة مبادلتهم بالفائض مع جيرانهم سبيلاً لسد احتياجاتهم الأخرى .. وهو أعنى الروائي هنا يذهب بين الخيال إلى ما في الحياة الطبيعية البدائية من مثالب ربما أتت عليها المدينة الحديثة أما المدن.. فهو يصف درجة تشابهها وأساليب حياة أهلها الموحدة ناهيك عن درجة الدقة في منشآتها وطرقاتها وحدائقها وكل نظمها الفنية المبنية على أساس الالتزام واحترام القوانين المتعلقة بذلك ومن مميزات هؤلاء اليوتبيين توفر العمل لكل منهم إذ لا توجد لديهم بطالة من أي نوع ولا يستثني من العمل اليدوي سوى الرؤساء والعلماء والكهنة ومع ذلك لا يعطى لهم هذا الحق طوال الوقت .. الكل يعمل وفق برامج زمنية وعندما لا يمارس مهام معينة في مجاله عليه أن ينتقل للأعمال الأخرى والحرف اليدوية، الكل يعمل بدأب ونشاط .. والناس هنا يكتفون بلبس ثوب واحد قطني ومثله صوفي بالإضافة إلى ثوب جلدي مخصص للعمل يحافظون عليها لأطول مدة ممكنة في حين أن مصنوعاتهم المستخدمة تعيش وقتاً أطول لإتقان صنعتها.هذا الالتزام لديهم لا يعني خلو الحياة عندهن من المسرات والملذات إلا أنهم يستثنون التافهة منها التي تجلب الضرر على الإنسان ويتجنبون المسرات التي تستهلك الوقت وتدمر الإنسان ومجتمعه.أما العلاقات الاجتماعية لديهم فهي خاضعة لسلطة أبوية غير مقيدة وهم على تكاثرهم وتكوين مجتمعات رديفة لا يحيدون مطلقاً عن تعاليم جزيرتهم، وهكذا نجد كل شيء لديهم مرتبطاً بقوانين يحترمونها ولا يخشونها الأمر الذي جعل حياتهم تبدو خالية من المنغصات وإن وجدت يجري تجاوزها بيسر وسلاسة فهم في مجال التجارة مثلاً لا ينظرون إلى الألماس والذهب ونحوهما من المعادن الثمينة إلا نظرة سطحية فإن وجدت يتعاطون معها كأي عناصر أخرى طبيعية معتبرين أن هذه الأشياء لا يفرح بها سوى الأطفال الصغار لسذاجتهم.والحماقة في نظرهم هي وليدة الغباء الذي هو ربيب الغرور الأجوف والكبرياء المزيفة.في حين يكون الفن في مجتمعهم العجيب ليس بالثروة المادية ولكن باحتفاظ المرء بجوهر أدميته وبالقيمة الإنسانية التي تعلي من شأنه الكائن البشري إلاَّ أن ذلك بنظرهم يكون نادراً جداً عند الأغنياء الذين يعتقدون أن كل قوتهم بما يملكون.[c1]فلسفة وآداب “ اليوتبيين”[/c]هي كما يصورها خيال المؤلف مستمدة ومرتبطة بأعلام الفلسفة والفكر الإنساني إلاًّ أنهم لا يتفقون ولا يسلمون بمعظمها خصوصاً إذا تعارضت مع قيمهم وعاداتهم الاجتماعية.. كونهم يبنون مبدأ فلسفتهم على الجانب الأخلاقي. وأحب التذكير هنا بما ذهب إليه بعض الرواة من أن هذه الرواية كتبها “ توماس مور” بهدف الرد غير المباشر على كتاب “ الأمير لميكا فيلي” الذي يهدم القيم ويقيم عليها جسر الوصول إلى الغايات فالسعادة لدى اليوتبيين مستمدة من - اللذة - المشروطة بمبدأ التوازن وعدم الإفراط في الشهوات لأن الإفراط يعني التطرف. والتطرف أينما كان لا يؤدي إلى السعادة الحقة بل يؤدي إلى الإنهاك والإجهاد والخلل والاضطراب أي يؤدي في النهاية إلى المرض البدني والنفسي.في حين يرون أن العقل مهما كان ذكياً لا يبلغ مقاصده بمعزل عن الدين وهكذا استطاع المؤلف أن يخلق مجتمعه الأفلاطوني على صور تلك الجزيرة الخيالية الرائعة.إلاّ أن المثير للشفقة حقاً أن هذا العقل البشري المبدع كان ضحية مقصلة الإعدام لعدم توافقه مع نزوات الملك.. مع أملي لمن يقرأ مثل هذا العمل الأدبي الخالد أن يجد متعته في قيم “ يوتيبيه” افتراضية وهي تصلح حتماً أن تكون في مجتمع بشري معاصر.
أخبار متعلقة