خطاب المرأة في الفكر العربي الإسلامي
علي محمد يحيىالمرأة وخطابها .. مسألة تاريخية منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم وحواء، واختلف الرجل بشأنها منذ فجر التاريخ باختلاف مصالحه ورغباته. ففي التاريخ قبل المدنيات كان للمرأة شأن عظيم، فنجد في المعتقدات البدائية التي لايزال بعضها قائماً حتى عصرنا هذا، عصر التقنيات في بعض قبائل بلاد الهند وسكان استراليا الاصليين وفي بعض جزر متفرقة في المحيطات ان الزرع والغلال تكون مباركة ووفيرة ان هي تعهدتها نسوة حوامل .. ولكم قضت النساء ليالٍ في الحقول يتعهدن نمو السنابل إيماناً بمجاري الخير تنبجس من احشائهن فتجذب الزرع من بطون الأرض. كما رفعت المرأة في بلاد الحضارات البابلية والفرعونية والفينيقية حد التقديس وجعلوا منها رموزاً الهية كما كان لعشتار في بابل وإيزييس في مصر وعشتروت في فينيقيا.الرومان والاغريق في التاريخ هم من اذلوا المرأة .. فقد ظلت المرأة في عهد الرومان وطوال حياتها معدومة الاهلية ومستعبدة وعند الاغريق يتضرع افلاطون إلى الآلهة شاكراً لهم امرين ..انه خلق حراً .. وانه خلق رجل لا أمرأة، وكذلك فعل ارسطو وارسطو فان وهبيونا كس .. ويقول هذا الاخير ايضاً تفرحك زوجتك يومين في الحياة يوم زفافها ويوم دفنها. ذلك هو خطاب الاغريق نحو المرأة والتي كانت منعزلة حكمها حكم القاصر .. وهي لاترث ولاتتمتع5 بأية حقوق .. اللهم ببائنتها.وكان اليونان يعتقدون ان الرجل الجبان والرجل الظالم يتقمصان إمرأة، باستثناء "اسبرطة" التي كانت تعامل فيها المرأة كالرجل.في قوانين حمورابي والحضارة الاشورية نجدها تقر للمرأة حقها في الميراث ولها الحق ببائنتها، تتصرف وحدها وبملء ارادتها باموالها ولايسمح بتعدد الزوجات إلا في حالة العقم .. ولايحق للرجل أن يطلق زوجته بمطلق ارادته .. بل عليه ان يثبت امام القضاء اسباباً مهمة ومقنعة حتى يحكم في هذا الطلاق .. والمرأة تتمتع ايضاً بنفس الحقوق المرأة في بلاد الفرس كانت تتمتع ايضاً بنفس الامتيازات وان كان هناك تعدداً للزوجات.المرأة الفرعونية تكاد تكون الارقى بين شقيقاتها في تلك العصور فلها كل حقوق الرجل. فهي ترث وتتصرف بأموالها، وتتزوج بملء ارادتها وتطلب الطلاق.. حتى أنها بلغت ارتقاء العرش والحكم سواء بمفردها أو بمشاركة زوجها ومنهن الملكة "تي" زوجة امينوفيس و"نفرتيتي" زوجة اخناتون وكذلك " كيليوباترا".المرأة اليمنية لم تقل مكانة عن مثيلاتها المصريات. الملكة بلقيس خير مثال واخريات لم يذكرهن التاريخ. والقرآن قد فضل مكانة بلقيس عند شعبها وعظمها ورفع مكانتها. غير ملكات يمنيات جئن بعد ظهور الإسلام وحكمن شعوبهن بعلم واقتدار.في العصر الجاهلي في جزيرة العرب لم تكن المرأة تتميز في عهدها مقارنة بمكانتها التي وضعها فيها الإسلام إلا من بعض النساء القليلات واغلبهن كن قد عشن ما قبل فجر الإسلام وبعده، مثل السيدة خديجة بنت خويلد "ر" والخنساء الاولى صاحبة خلق وتجارة والثانية ذات أدب ومعرفة بالشعر. ومع ذلك فان بعض النساء في الجاهلية كانت ذا بالٍ وأهمية تفوق في بعض الحالات في مكانتها مكانة المرأة في الأمم الاخرى. كما أن المرأة العربية "الحرة" لم تكن تمتهن كغيرها، بل احتفظت باعز خاصية النساء وهي الشرف والعفة .. فلم تكن الحرة "تزني". ويذكرني في هذا المقام قول النعمان " النساء العربيات اعف النساء" فكن يحرمن الزنا للحفاظ على شرف الأسرة والقبيلة.الشنفرى .. شاعر الصعاليك وزعيمهم يتحدث عن شرف زوجته وحسن اخلاقها، فيمتدحها بالوقار والخجل، فهي تستتر وتلملم قناعها فلايسقط. وإذا مشت اسدلت عينيها وغضت بصرها .. ولاتميل إلى محادثة الرجال، وان اعترضها رجل اوجزت ومضت لشأنها. فالشنفرى يتيه فخراً ويتعالى زهواً لسمعتها في العشيرة وهو سعيد بها ويثق بتصرفاتها فيقول فيها :[c1]لقد اعجبتني لا سقوطاً قناعهااذا ما مشت ولابذات تلفتتبيت بعد النوم تهدي غبوقهالجاراتها إذا الهدية قلتتحل بميمات من اللوم بيتهاإذا ما بيوت بالمذمة حلتاميمة لايخزي نتاها حليلهااذا ذكر النسوان عفت وجلتإذا هو أمسى آب قرة عينهمآب السعيد لم يسل اين ظلت[/c]وقد بالغ العربي في الإباء والعزة فيما يتعلق بشرفه حتى حين يختار سكناه حفاظاً على النساء. وكان العرب في ذلك العهد إذا احسوا بقدوم قبيلة لغزوهم .. فان أول الخطوات التي كانوا يتدبرونها هي تأمين الملاذ الآمن للنساء والأطفال.[c1]الإسلام والمرأة[/c]الكتب السماوية التوراة والانجيل فالقرآن الكريم بتعاليمها السمحة قد أعطت للمرأة مكانتها اللائقة. رغم ماجرى من تحريفات تعرضت لها التوراة وكذلك الانجيل .. أما القرآن الكريم كتاب الإسلام خاتم الاديان ففيه من الآيات الصريحة مما لايمكن حصرها في هذا المقال. فقد جاء في القرآن الكريم "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" وهي دعوة صارخة وصريحة نحو المساواة ويقول جل شأنه "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون " ـ صدق الله العظيم ـ.الإسلام أمر المرأة بالفروض ذاتها التي أمر بها الرجل من صوم وصلاة وزكاة وحج. الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه الشريف "النساء شقائق الرجال لهن مالهم وعليهن ما عليهم" ولقد ظل عليه الصلاة والسلام يهتم بأمر المرأة طوال دعوته، حتى كانت آخر وصيته مع آخر أنفاسه وهو يقول "الله الله في النساء إنهن عوان بين أيديكم، أخذتموهن بأمانة الله" .. إلى آخر الحديث.الإسلام قد جعل المرأة ترتقي بحالها فمنح لها الأهلية كما للرجل .. لها في مالها من الحقوق والواجبات ما للرجل من الحقوق والواجبات في ماله. أحق لها ان تلتزم بدون زوجها، وان تطلب الطلاق إذا اعتدى عليها، وعلى حقوقها، وان تتملك وان تعمل وفرض لها حقها في الميراث. المسألة أو القضية التي شغلت الكثير من المناؤين للقيم الإسلامية ومن اصحاب ودعاة التغريب في عالمنا الإسلامي هي قضية تعدد الزوجات. لقد كانت معظم الأقوام القديمة تبيح للرجل الاقتران بما شاء من النساء حتى جاء الإسلام. جاء في الآية الكريمة من سورة النساء "وان خفتم الا تقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم إلا تعدلوا فواحدة" إلى آخر الآية .. ثم نجد تأكيد قول الحق عزوجل "ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم" ـ صدق الله العظيم ـ.عندما يتأمل الإنسان في هاتين الايتين الكريمتين، يجد ان إباحة تعدد الزوجات أمر مضيق عليه في الإسلام أشد تضييق، لانه من المعلوم بأن البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لايستقيم له الحال ولايستقيم فيه الاستقرار وراحة البال، بل يكون فيه الرجل مع زوجاته سبباً في إفساد البيت، ونجد ان كل واحد منهم عدو للآخر ولذلك فإن لا أحد ينكر اضرار ومساوئ تعدد الزوجات على الأسرة وعلى المجتمع. ومن الحقوق التي ضمنها الإسلام للمرأة، حرية اختيار الزوج فهي لاتجبر على ان تتزوج بمن لاترضاه لها زوجاً. ومن علامات رفع قدر المرأة في الإسلام ايضاً ان جعل معنى المهر بأنه هدية الزوج إلى عروسه. " فخير الصداق ـ في الإسلام ـ ايسره" بعد ان كانت المهور في الجاهلية نوعاً من المزايدة والمضاربة أما موقف الإسلام من حقوق المرأة السياسية فالإسلام لا يمنع المرأة تمتعها بهذه الحقوق. فغزوة خيبر وموقعة أحد كان للمرأة فيهما شأن كبير، وفي مواقف اخرى رأينا أن النساء بايعن النبي " ص"، مثل نسيبة بنت كعب البطلة واسماء أم عمرو بن عدي واخريات بايعته ايضاً في مكة بعد مبايعة الرجال مثل أم هانئ بنت أبي طالب وأم حبيبة بنت العاص. اليست هذه المبايعة اشبه بحق المرأة في التصويت اليوم؟ مما جعل النبي محمد "ص" ينظر باهتمام كلي إلى أمرهن في مختلف احوالهن الحياتية والمجتمعية.فالإسلام ينظر إلى المرأة مثلما ينظر إلى الرجل من الوجهة الإنسانية وكمال الحقوق والشخصية. وان للمرأة في نظر الإسلام كل ما للرجل من الحقوق وعليها ماعلى الرجل من الواجبات .. وإذا وجد فارق ظاهري في بعض الأمور فإنما يكون مرجعه طبيعة الرجل والمرأة، والفرق بينهما بحسب الفطرة والتكوين. ولابد من الاشارة في هذا المقام ان عدداً كبيراً من فقهاء الإسلام واقطابه على امتداد التاريخ الإسلامي قد اباحوا للمرأة ان تتولى القضاء، ومنهم أبو حنيفة اذ يقول " ان قضاء المرأة جائز عندنا ـ الحنفيةـ في كل شيء إلا في الحدود والقصاص اعتباراً في شهادتها .وفي عصرنا هذا ما فتئ الانسان السوي يعتبر المرأة مخلوقاً بشرياً مكتمل النصيب لها وعليها ما للرجل وعليه من الواجبات.فحقوق المرأة في حياتها وكرامتها ووعيها وطلبها للعلم وفي ممارسة حريتها وحقها في العمل واضطلاعها بالمسؤولية حين تعهد اليها . والمرأة ليست مفهوماً تجريدياً لاحول لها ولاقوة كما يصورها أو يتصورها غير الاسوياء كما أنها ليست هفوة من هفوات الطبيعة .. بل هي الأم والزوجة والابنة والأخت، وكثيراً ما نظر اليها غير الاسوياء وإلى انوثتها كشيء غريب في حد ذاته وان نظرتهم إلى انوثتها انما بمنظار غريزي يتعلق بالاشباع والاشتهاء الجنسي لاغير. فترتب على ذلك ان ميزوا بينها وبين الرجل. والادهى من ذلك كله هو ان النظام الاجتماعي الظلامي الذي يعيش بين ظهرانينا تحت مظلة الإسلام ـ ظلماً ـ المقاوم لتعليم المرأة وثقافتها دون حد معين ، والذي كرس وقرر ذلك النقص المزعوم في مكانتها هو نفسه الذي اراد حمل الناس على التسليم بأن استعبادها تفرضه الطبيعة نفسها بينما هو في الحقيقة ناشئ عن ظلامية هؤلاء وواقعهم الثقافي. فالنساء في عرف الإسلام ومنطق التشريع الإسلامي يسقط إدعاء هؤلاء الظلاميين تحت مبرر " وللرجال عليهن درجة" غير ان هذه الدرجة ليست تستلزم الامور احتقار الرجل لها .. ولكن مقتضاها اختلاط الرجل بالمجتمع، وإدراكه الامور بسبب ذلك. وهذا ما يجعله اكثر خبرة وأعمق تجربة من المرأة فيما يدور على مسرح الحياة. لذلك فإذا كانت المرأة من هذا الباب ليست كالرجل في هذا الاختلاط، فهو اكثر شمولاً، ومن هنا لاتجد المرأة نفسها اقل مكانة منه بل محل تقدير واحترام.وفي تحمل المسؤولية يقول تبارك وتعالى " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر". وكانت سكينة بنت الحسين تحضر إلى المسجد وهي وجواريها، وكانت تعارض كل ما تسمع من أقوال وأعمال الولاة لبني أمية مما كان فيه من مجافاة للحق.والدرجة ايضاً تقف عند اعطاء العنصر الأكثر خبرة وإمكانية وتمكناً في حق الفصل في المشكلات وذلك ضماناً للتنسيق داخل الاسرة بايجاد قائدٍ يتولى زمامها .. والقوامة من منطلق " وجعلنا الرجال قوامين على النساء "، هي الرئاسة أو القيادة التي يتصرف فيها الرئيس ويقبلها المرؤوس بارادته واختياره. ذلك ان مكانة المرأة من الرجل ومكانة الرجل من المرأة، هما بمكانة الاعضاء في الجسم الواحد.أما الرجال كما يقول الامام محمد عبده " الذي يحاولون بظلم المرأة ان يكونوا سادة في بيوتهم، فأنهم انما يلدون عبيداً لغيرهم". وكذلك في الميراث فان منا من لم يفهم السر الالهي في ان يحظى الرجل في الميراث بنصيب مثل حظ الانثيين إلى جانب تناسيهم ان هذه الزيادة للرجل على المرأة ليست موقفاً عاماً .. ففي حالات كثيرة اخرى يزيد نصيب المرأة الوارثة، مثال ذلك الابنة الوارثة عن الرجل مثل الأب يشاركها في الميراث. وعلى كل ذلك فان الإسلام لم ينظر كموقف ثابت وعام إلى التمييز بين الناس في الامور المالية كمعيار للتمييز بينهم في القدر والقيمة ودرجة الحرية.يقول الامام محمد عبده " انهما مثماثلان في الحقوق والأعمال كما انهما متماثلان في الذات والاحساس والشعور والعقل .. وما قوامة الرجل على المرأة إلا رئاسة تقتضيها سنة الكون التي فطر الله الناس عليها بأن تتم المشاورة في مجتمع الأسرة.ان للمرأة وجوداً يعترف به الإسلام على لسان القرآن الكريم، وهو يتفق مع مسلمات وبديهيات العصر، فلها ان تعمل كما يعمل الرجل إذا دعت الحاجة .. وفي عصرنا هذا فان الحاجة تكاد تكون ماسة لان تعمل المرأة بسبب الظروف الحياتية والمعيشية، ولها في ذلك ثواب ـ شرعاً ـ على عملها كما تقتضيه عدالة السماء، وللمرأة الحق ان تبدي آراءها في كل مايحيط بشؤونها وشؤون المجتمع والدولة. فقد كانت السيدة خديجة أول من أحاطت النبي محمد "ص" في أول عهد الرسالة بآرائها وقد اشتركت السيدة اسماء بنت أبي أبكر اشتراكاً فعلياً في أهم وأخطر حدث سياسي وهو الهجرة .. كما اشترك امثال أم عمارة وغيرها من نساء ذلك العصر في معارك الجهاد التي اشتعلت بين المسلمين واعدائهم في زمن النبي وبعده، غير موضوع مبايعتهن له " ص" مثلما يبايع الرجال سواء بسواء. وتلقت على يده العلم كما تلقاه الرجال سواء بسواء.والمرأة ايضاً جادلت الرسول في شأن الظهار لتطمئن على مستقبلها ومستقبل بيتها. كما جادلت المرأة الخليفة عمر بن الخطاب وهو فوق المنبر في شأن المهور لتطمئن على بنات جنسها.يقول الله تعالى في ايجاز بلاغي لايقبل التأويل " فاستجاب لهم ربهم إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض" ـ الآية 195 سورة عمران ـ.والمجتمع ايضاً منوط به تكييف كل هذه الحقوق بما تقتضيه البيئة والامكانيات والظروف .. فإذا أدى كلاهما ما عليه من حقوق نحو الآخر قدر استطاعته، تحقق العدل المتكافئ بين الرجل والمرأة.[c1]عصر الإنحطاط في الدولة الإسلامية[/c]ان القرون التي تلت ظهور الإسلام قد شهدت تكريساً لعبودية المرأة والحط من قدرها وشأنها، وإغلاق باب الاجتهاد .. فتوالت معها هزائم العرب ونكباتهم وعم الانحطاط المجتمعات العربية بالذات التي لم يكن حال بعضها أفضل من الاخرى، وكانت حينها آفاق المرأة محدودة بحدود دورها داخل الأسرة والمجتمع وهي الحدود التي لم يضعها الإسلام، وانما وضعها من أباح لنفسه الاجتهاد والتأويل، ونصب نفسه وصياً على الدين حامياً له.وهكذا فعل معه آخرون لم يروا غير ان المرأة إنما خلقت لتدبر معيشتها المنزلية، ولاتصلح ابداً إلا لذلك. ومع ان عالمنا العربي قد عاش ردحاً من الزمن مخنوقاً بتلك الفتاوى ـ مع ان بعضها مازالت تسكن بعض العقول الصماء من دعاة المغالاة ـ إلى أن كانت انطلاقة عصر التنوير أو بما عرف بصدمة العصر أو صدمة الحداثية خلال القرن التاسع عشر أو في نهايته حين أوجدت حالة واسعة من الجدل الفكري والديني التي افضت بنتائجها إلى أن تخلف المجتمع العربي عموماً وإنحطاط القيم فيه انما يعود بالاساس للشلل الذي تعاني منه النساء العربيات وهن نصف المجتمع .. حينها أدركت الطلائع المستنيرة في عالمنا العربي من مثقفين ورجال إصلاح ممن يرتضوا ما آلت اليه حالة المرأة، فلم يرضهم ان تجازي المرأة لوفائها بأن تطلق ارتجالياً وتعسفياً أو بزوجة ثانية وثالثة، أو ان تبقى حركتها محدودة من بيت الأبوة إلى بيت الزوجية لا أكثر .. أو أن لاتخرج إلا تحت طبقات من الأسمال محجبة مقتادة كالأعمى أو تحت الحراسة في تنقلها .. ولم يقبلوا من ان تعليمها بدعة، ولم يرضوا ان تسلب انسانيتها وكرامتها وهي التي كرمها الله والنبي الأعظم "ص" منذ نزول الوحي، حين اعطيت لتحرير المرأة نادى بها قاسم أمين، ولقى من اجلها من مجتمع الرجال وبعض من نساء عصره ايضاً العنت والعسف والأذى فتتابعت اصوات الرجال والنساء في مصر .. هدى شعراوي، صفية زغلول، لطفي السيد، طه حسين، علي إبراهيم وطلعت حرب بعد ان كان ضدها. فحصلت المرأة المصرية ـ على التعليم الجامعي رغم اعتراضات كثيرة من وجوه التخلف والرجعية فنزعت الحجاب ودخلت ميدان العمل.[c1]قاسم أمين وخطابه[/c]في قراءة موجزة لفلسفة قاسم أمين نحو خطاب تحرير المرأة والذي جعل من سمات فلسفته عرضها باسلوب علمي وترجمة صادقة لمقتضيات العصر الحديث في ظل متغيرات النهضة العربية الشاملة، استمد عناصرها من الفلسفة الإسلامية " الشريعة ـ كتاب وسنة" ووجهها نحو تطوير وادراك الانسان العربي لمهام حياة جديدة في ظل تلك المتغيرات لترقى به نحو حالة افضل مما كانت المجتمعات العربية تعيشها في عصره، وجعل محور ارتقاءها ـ أي ارتقاء المجتمعات العربية ـ هو الارتقاء بوضع المرأة أولاً من خلال الدعوة نحو تعليمها وتحريرها من قيودها من خلال تحرير عقول ووعي الرجال، مواصلاً الطريق الذي اختطه سلفه الشيخ رفاعة الطهطاوي بصبر وأناءة، حيث يؤكد موقفه هذا في كتابه " تحرير المرأة " بقوله "ان تحويل النفوس إلى وجهة الكمال في شؤونها مما لايسهل تحقيقه، وإنما يظهر اثر العاملين فيه ببطء شديد اثناء حركته الخفية، وكل تغيير يحدث في أمة من الأمم وتبدو ثمرته في احوالها فهو أمر ليس بالبسيط، وانما هو مركب من ضروب من التغيير كثيرة، تحصل بالتدريج في نفس كل واحد شيئاً فشيئاً .. ثم تسري بين الافراد إلى مجموع الأمة فيظهر التغيير في حال ذلك المجموع نشأة اخرى للأمة. وهو يتحدث صراحة وبصوت مسموع في ظل وضع مستبد يستتر وراء ساتر الاسلام الذي هو من تلك العادات والبدع بريء .. ويرى ان ذلك انما يضر بالاسلام والحضارة الاسلامية حيث يقول في كتابه " المرأة الجديدة" ليس هنا محل البحث عن الاسباب التي وقفت بهذه المجتمعات الشرقية عند هذا العجز من التخلص من الاستبداد المزمن الذي حرمها الترقي في المدينة، وحصر حركاتها في مدار واحد بدون ان تنتقل من مكانها وإنما يهمنا هنا ان نثبت امراً يتعلق بموضوعنا .. وهو وجود التلازم بين الحالة السياسية والحالة العائلية في كل بلد .. ففي كل مكان حط الرجل من قدر ومنزلة المرأة وعاملها معاملة الرقيق، حط نفسه وافقدها وجدان الحرية .. وبالعكس في البلاد التي تتمتع فيها النساء بحريتهن الشخصية يتمتع الرجال بحريتهم السياسية، فالحالتان مرتبطتان ارتباطاً كلياً.لقد اتجه قاسم أمين بمفهومه في تحرير المرأة نحو مواصلة واستكمال الطريق نحو تعليمها أولاً .. إذ ان تعليم الفتاة وهي أم ألأسرة المستقبلية هي في الخطورة كتعليم الفتى.ولان تعليم الفتاة التي وضع لبناتها الاولى الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي كان له الفضل الأول في انشاء اول مدرسة للفتاة عام 1842 هي " مدرسة القوابل" واستمرار دعوته في انشاء مدارس للبنات رغم تحقيق البعض منها، إلا أنه قد جابهته الكثير من الظروف التي حالت دون ان تصبح صيحته قضية كاملة أو دعوة شاملة ومع ذلك لا أحد يشك ان لدعوته تلك كان لها كبير الاثر في حدوثها في حرية تعليمها وحرية عملها معتبراً تلك الفروع انما هي وحدة متكاملة الجوانب نحو تحريرها وانعتاقها .قاسم أمين جاء في ظروف أفضل .. ولم يكن وحيداً مثلما كان رفاعة الطهطاوي في وقته ، بل كانت تحيط به كوكبة من جلة الدعاة الكبار والمؤمنين بحرية المرأة من امثال الشيخ محمد عبده والزعيم سعد زغلول وفتحي زغلول ولطفي السيد وشاعر النيل حافظ إبراهيم وأمير الشعراء أحمد شوقي وخليل مطران وغيرهم كثر. لذلك فان مناداته وصيحاته جاءت أكثر قوة من أوساط المجتمع. في كتابه " المرأة الجديدة" جاء في اوائل صفحات الكتاب قوله مخاطباً الانسان العربي " انظر إلى البلاد الشرقية تجد ان المرأة في رق الرجل، والرجل في رق الحاكم، فهو الظالم في بيته، مظلوم إذا خرج".وفي موضع آخر يقول "كان أثر هذه الحكومات الاستبدادية ان الرجل في قوته أخذ يحتقر المرأة في ضعفها، وقد يكون اسباب ذلك أن أول اثر يظهر في الأمة المحكومة بالاستبداد هو فساد الاخلاق، وقد يتوهم من أول وهلة ان الشخص الواقع عليه الظلم أنه يحب العدل ويميل إلى الشفقة، لما يقاسيه من المصائب التي تتوالى عليه، لكن المشاهد يدل على ان الأمة المظلومة لايصلح جوها ولاتنفع ارضها لنمو الفضيلة، ولايربو فيه إلا نبات الرذيلة " .وكما كانت اهتماماته بمواصلة تعليم الفتاة، كانت قضية الحجاب عنده ضمن دائرة تحررها، واعطاها من اهتماماته حيزاً كبيراً محافظاً على التوافق ما بين موقفه واحكام الشرع .. فنجده يقول " إننا نطلب تخفيف الحجاب ورده إلى احكام الشريعة الإسلامية، لا لاننا نميل إلى تقليد الأمم الغربية في جميع اطوارها وعوائدها لمجرد التقليد ، أو التعلق بالجديد لانه جديد، فأننا نمسك بعوائدنا الإسلامية ونحترمها، ونرى انها مزاج الأمة ، تتماسك به اعضاؤها ولسنا ممن ينظر اليها نظرة إلى الملابس، يخلع ثوباً كل يوم ليلبس غيره .. وإنما نطلب ذلك لاننا نعتقد ان لرد الحجاب إلى اصله الشرعي مدخلاً عظيماً في حياتنا المعيشية. لسنا في مقام استحسان أمر واستقباح آخر لما فيه من موافقة الذوق أو منافرته، وإنما بصدد ما به من قوام المرأة، أو ما به قوام حياتنا ".في هذا العصر ـ عصرنا الحديث ـ بعد ان دخل الانسان العربي أتون الانصهار، ونشبت خلاله الحروب، وانفجرت الثورات .. الثورة الصناعية، الثورة الاجتماعية والثورات السياسية، حينها جاءت الفرصة عندهم مواتية لان تدلي المرأة بدلوها شأنها شأن ضحايا الاقطاع والاستغلال والبرجوازية والعمال، فتمردت ونادت بالتحرر من النير الغليظ ، نير الرجل، فقادت المظاهرات وتصدت للتسلط المفروض، فواكبت مع هذه الحالة انبعاث ثورة الاتصالات وبالأخص الاتصال الجماهيري بدءاً بالمطبعة ثم الراديو ، فزادت من حالة التسريع بشكل لم يكن في الحسبان ، فأنتشر تأثيرها وعمت التجربة في بلاد كثيرة من أوروبا ، أوروبا كلها وكذلك اميركا، وفازت المرأة في نهاية الأمر بكل حقوقها.ولم تعط لها هكذا هبة من رجل أوروبا بل كان نتاج كفاح مرير خاضته المرأة. في بداية حريتها كان عملها قاصراً في مجال التعليم كمعلمات ومربيات في رياض الاطفال وممرضات ومدبرات في المنازل وعاملات في المصانع وسكرتيرات إلى ان وصلت إلى ما وصلت اليه اليوم باستمرارية كفاحها للمطالبة بحقوقها المساوية للرجل في ميدان العمل، فاليوم هي رئيسة دولة ورئيسة وزراء ووزيرة وعالمة وسفيرة وصاحبة اعمال مثلها مثل الرجل، حتى منهن قسيسات في الكنيسة البروتستانتية الانجليكانية في بريطانيا وكندا وأمريكا. هذه القفزة النوعية بمكانة المرأة عند الغرب ليست لها جذور تاريخية يشهد لها بعد ان كانت في وضع لاتحسد عليه. واذا اعاد المرء بذاكرته إلى الوراء قليلاً، وللوقوف امام دراسة مقارنة لوضع المرأة في الغرب ـ كل الغرب ـ فسيجد انها كانت قد وصلت حد المهانة والنجاسة والعزل في الاعتقاد عند الرجال وتحت وجود مظلة الكنيسة ورجال الكنيسة الذين سخروا هذا الاعتقاد ورسخوه لخدمة مصالحهم باسم الدين، ورغم ما تحقق للمرأة الغربية فان مسألة التمييز مازالت قائمة في الوظيفة والدخل المعيشي وحق الانتخاب والتمثيل الدبلوماسي إذا ما اخذنا بعين الاعتبار نسبة عدد النساء في التعداد السكاني.[c1]قضية المرأة العربية اليوم بين الاصالة والتبعية[/c]ان موضوع المرأة العربية اليوم بين الاصالة والتبعية، فانه من المهم أولاً الاشارة بأن الاصالة هنا تعني اصالة الطرح .. أي إلى مدى ارتكاز ذلك الطرح على منطلقات اصيلة كانت أو على معتقداتنا الإسلامية من جهة ومدى تعبيره عن القضايا المتصلة بواقع المرأة العربية اليوم وهمومها الفعلية من جهة اخرى المتتبع للعديد من القضايا المتصلة بالمرأة في عالمنا العربي سواء عرضت تلك القضايا وعبر عنها من خلال وسائل الاعلام المختلفة من صحافة مقروءة وراديو وتلفزيون ام تم تناولها ضمن مؤتمرات أو ندوات أو أي نشاط ثقافي يعنى بقضايا المرأة ، يمكنه ملاحظة غربة بعض تلك القضايا عن الواقع الاجتماعي العربي ، ووجود قدر من القطيعة الفكرية بين ما يطرح وما يشغل بال المرأة العربية أو عموم النساء العربيات من هموم. ليس هذا فحسب بل ان بعض ما يطرح يمثل تحدياً وتجاوزاً لقناعاتها ومعتقداتها. صحيح ان قدراً من ذلك للطرح لقضايا المرأة يعبر بالفعل عن مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية تواجهها المرأة العربية .. ولكن الخلاف كان يكمن في كيفية التناول لتلك المشكلات، فبعض الرؤى المقدمة تعد رؤى متوازنة وموضوعية إلى حد كبير تأخذ في اعتبارها الخصوصية الثقافية والمجتمعية للمرأة، إلا ان البعض الاخر كان يمثل قفزاً وتجاوزاً لهذه الخصوصية مما يجعله طرحاً غريباً وغير متسق مع معطيات الواقع العربي رغم ارتباطه من حيث الواقع بهموم هذا الواقع ومشكلاته.وقد يكون هذا الاستطراد النظري حول مفهوم الاصالة والتبعية فيما يطرح من قضايا المرأة العربية كافياً للدلالة على غربة وتبعية كثير من الطروحات . الأمر الذي يقودنا إلى تقديم بعض النماذج التوضيحية .في كثير من المؤتمرات الخاصة بالمرأة في عالمنا العربي والتي تستوعب لفيفاً متنوعاً من قادة الفكر في العالم العربي نساءاً ورجالاً وقيادات نسائية بارزة، نجد ان مسالة الحجاب مازالت حتى يومنا هذا تأتي في مقدمة ما يطرح من موضوعات .. لا من منطلق تحديد هوية هذا الحجاب وموامته مع ما يفرضه الدين الاسلامي، ولا من منطلق المزاجية في ترك تلك المسألة للتقدير الشخصي، أو من منطلق الحرية الشخصية كما يرى البعض، وانما للتأكيد على ضرورة نزع هذا الحجاب ودفع المرأة العربية المسلمة للتخلص منه وايهامها بأنه رمز لتكبيلها وتعطيل طاقاتها ومسيرتها التنموية وهذا ما يبتغيه الغرب . ان طرحاً من ذلك النوع لمسألة الحجاب انما هو تجاوز للقناعات الدينية لدى المرأة المسلمة من وجهة نظر العامة، بالاضافة إلى كونه تجاوزاً وتحدياً للعادات والتقاليد العربية الإسلامية حين تخرج عن المألوف كما ان ذلك الطرح انما هو في الواقع انكار لحرية المرأة العربية وحقها في الاحتفاظ بما تود ان تلبسه تمشياً مع قيمها . وان المنادين بذلك وهم ينصبون انفسهم كمدافعين عن حقوق المرأة العربية المهدورة بأن دعواهم تلك تمثل في حد ذاتها انكاراً لحرية المرأة وحقها في ان ترتدي ما تشاء دون فرض وصاية عليها أو من شريحة نسائية تحمل ثقافة مغايرة لثقافتها ولاتعبر عن همومها. كما ان مثل هذه الدعاوى انما تمثل نوعاً من التسلط الفكري الذي تحاول تلك الشريحة من المفكرين نساءاً كانوا أو رجالاً فرضه على الساحة الثقافية العربية ، بالاضافة إلى ما تمثله من تبعية فكرية للغرب وموقفها من العديد من المسائل المتعلقة بالدين ومن بينها مسألة حجاب المرأة.وحين تطرح قضايا متعارضة اساساً مع المبادئ الاسلامية كحقها في الاجهاض ـ غير المرخص شرعاً ـ أو في اختيار شريك حياتها دون علم والديها أو تعارض ذلك مع رأيهما بحجة ان رأي الوالدين أو أولي الأمر انما يمثل وصاية على المرأة ينبغي ان لا تقبل بها .. أو المناداة للمرأة بحرية اقامة علاقات خارج اطار الزواج باعتبار ان الرجل الشرقي يمتلك هذا الحق ويمارسه ويحرمه على المرأة، ويفرض عليها وصايته. ان طرح مثل هذه القضايا إلى جانب كون ذلك تجاوزاً وخرقاً صريحاً للمبادئ والقيم الإسلامية التي لايجوز خرقها .. فهو من ناحية يمثل جهلاً بالدين .. فالدين لم يفرض وصاية قهرية من ولي الأمر على الفتاة بقدر ما حاول من خلال تلك الولاية توفير الحماية لها ومساعدتها على اتخاذ القرار المناسب والأكثر رشداً فيما يتعلق بشريك حياتها ، بالاضافة إلى كون الاسلام قد قيد العلاقة بالنسبة للرجل والمرأة على السواء دونما تفريق. وخلاصة القول ان علينا التفريق بين كل الطروحات لقضايا المرأة في عالمنا العربي كون اكثرها انما هو شكل من اشكال التبعية الفكرية للغرب ونوع من انواع الاغتراب الثقافي لشريحة من النساء العربيات وقطيعة بين ما يطرحونه من افكار ومبادئ وبين ما يشغل المرأة العربية من هموم، وان تلك التبعية تتطلب وقفة من الشريحة المثقفة في كل المجتمعات العربية للحرص على طرح قضايا اكثر اصالة وقدرة على دفع مجتمعاتنا إلى ماهو أفضل .. وهو ماكان ينادي به قاسم أمين ومن كان قبله ومن جاء بعده.