
جنون اغتيال أحلامنا، عندما يطلب منك الأولاد مصروفاً وقيمة المواصلات للذهاب للمدارس والجامعات، وخاصة عندما يكون أحدهم على وشك التخرج بشهادة طبيب أو مهندس أو مدرس. أحلام بُنيت في وضع صعب.. كانت الوسيلة الوحيدة التي تخفف عنا صعوبة الحال هي الراتب، مهما كان حقيرا، فنحن على مقدرة في أن نقتصد ونتقشف، ويتم توزيعه على أن تستمر حياتنا، نحافظ على رمق الحياة وتحقيق أحلام أولادنا، فالراتب هو شريان استمرار الحياة.
بالراتب نصارع مرارة الفقر والحاجة، نصارع الجوع، ونقاوم حالة فقدان الأحلام، إنه مهما كان حقيرا لكنه يرقع آمالنا وأحلامنا واستمرارنا أحياء نرزق. والمؤلم اليوم أن نفقد هذا الراتب.
فنسأل: لماذا حرمنا من رواتبنا؟ ولماذا فقدت الدولة قدرتها على دفع الرواتب؟ خاصة وأننا نشهد حالة البذخ في وجه كل مسؤول، وكل من في السلطة، نشهد مواكبهم وتحركاتهم وجولاتهم وصولاتهم، ونشاهد أناقتهم بأغلى الماركات العالمية، نشاهدهم وهم يتنافسون على السلطة والمواقع الحساسة ويتصارعون على القرارات، دون أن نشعر أنها تخدمنا، وتخفف مما أصابنا. هل يشعرون بنا؟ هل يذوقون مُر الفقر والاحتياج والجوع، وعذاب انتظار الراتب؟ هل جربوا فتات الطعام المعجون بالذل والمهانة؟ هل يعيشون حياتنا؟ وهل يجلسون أولادهم على نفس مقاعد مدارس أولادنا، ويتعلمون من معلم مهموم ومكلوم وهزيل، بجوف خاوٍ من أي طعام، ذليل مهان ولا كرامة لرسول في قومه؟
هل يدرك المسؤولون - كل بحجمه ومسؤوليته تجاه الناس - أنهم في مواقعهم لخدمة المجتمع والإنسان؟ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها لِمَ لم تُمَهد لها الطريق يا عمر؟”، كما يقال في العامية قطع الرأس ولا قطع المعاش.
كمواطنين وكموظفين في الدولة، أفنينا شبابنا من أجل هذا الوطن، بعضنا ساهم في بناء التنمية، والبعض الآخر له بصمات في التخطيط والسياسات والاستراتيجيات، والمعلم ركيزة مهمة في بناء الإنسان، وتخرجت على يديه كل تلك الكوادر. حينما كانت دولة كان لنا احترامنا، وأتذكر أنني كنت مديرا لثانوية التواهي، وكان في مقاعد الدراسة أبناء كل المسؤولين وأعضاء اللجنة المركزية جنبا إلى جنب مع أبناء الكادحين العمال، فكنا ندعو أولياء الأمور إذا ما حدث خلل لأبنائهم، فلا نفرق بين رئيس دولة وعامل نظافة، حضر إلينا قادة ومسؤولون كالبيض وسعيد صالح، رحمة الله عليه، وقبل ذلك سالمين وعلي عنتر، رحمة الله عليهما، وما زلت أتذكر احترامهم للمدرسة، التي فقدت احترامها اليوم وفقدنا كمعلمين احترامنا.
كانت لنا أيام ما كنا فيها نتوقع أن نصل إلى ما وصلنا إليه، ولم نتخيل يوما أننا سنكون بدون رواتب، وأن بعض زملائنا سنراهم يتسولون في المساجد، والبعض الآخر تحولوا إلى باعة متجولين وعمال في المطاعم والبوفيات، ما تصورنا أن يأتي يوم للأستاذ الجامعي يشكو من حالة الفقر وقلة الحيلة.
ما يحدث ليست أزمة عابرة، بل هو مخطط جهنمي لقتل مقومات المجتمع، واستهداف التعليم والتأهيل، هو استهداف للعقل والفكر والثقافة والإبداع، استهداف للإنسان والإنسانية. هل يراد لنا أن نتحول إلى عسكر نحمل السلاح في وجه بعضنا، مقابل راتب بالعملة الأجنبية التي تنافس عملتنا اليوم وتعكر صفو حياتنا.
ما يحدث، الكل شركاء فيه، وعليهم ان يدركوا مخاطر الانهيار، وأن لا حل إلا أن تستعيد الدولة عافيتها، وتضبط إيراداتها لتصب في البنك المركزي، لتكون رافدا للموازنة العامة التي تضمن حقوق الناس من رواتب وميزانية تشغيل المؤسسات والخدمات، أو تستمر حالة الانهيار والإذلال والمهانة لتقضي على كل مقومات الحياة، ولن تسمح بتحول حقيقي لمستقبل ننشده.