
الضمير اليقظ لا ينام، بل يسهر قلقًا على إنسانيته، يخاصم الركود، ويعكّر صفو أولئك الذين ركنوا إلى سباتهم الطويل. يقظة الضمير ليست راحة، بل مكابدةٌ شريفة، تُنير العقل ليُبصر مواضع الخلل، وتُوقظ الحسّ ليميّز بين العدل والجور، وبين الوفاء والخيانة، وتوجّه البوصلة الأخلاقية حين تضطرب السبل وتتداخل المسالك.
أما الضمائر الميتة، فهي تلك التي باعت روحها في سوق النخاسة السياسية وتحوّل ولاؤها إلى بضاعةٍ يتهافت عليها الانتهازيون المنتفعون، يتقربون بها إلى الحاكم تقرب المريد إلى معبوده الوهمي، خاضعين طوعًا لإرادته، متنازلين عن كل قيمةٍ أو مبدأ. وهكذا استُبدلت حرية الفكر بمراسم المديح المبتذل وصار الانحناء للسلطة طقسًا مقدسًا في معبد السياسة، لا ينجو منه إلا من امتلك ضميرًا عصيًّا على البيع.
إن الوجدان البشري هو أقدس ما في الإنسان، فهو ميزان القيم، ومرآة النقاء الداخلي، ومنار الطريق حين يختلط الحقّ بالزيف. وحين يفسد الوجدان، يضيع الإنسان، ويُصبح كائنًا منقادًا بشهوةٍ أو مصلحة، لا يرى في الوطن سوى غنيمة، ولا في المبادئ سوى عبءٍ على طموحاته الزائفة.
وحين يتسيّد الفساد المشهد، تنهض فئةٌ من النفعيين والبراغماتيين لتجمّله، وتكسوه أثواب العقلانية الزائفة. يبررون الانحراف باسم الواقعية، ويمجّدون الخضوع باسم الحكمة، حتى يتحوّل الفساد إلى منظومةٍ أخلاقيةٍ مقلوبةٍ، يُكافأ فيها اللصّ ويُعاقب الشريف، ويُرفع فيها الصوت المأجور ويُسكت ضمير الحق.
المأساة لا تكمن في وجود الفاسدين، بل في أولئك الذين يُزيّنون فسادهم ويذودون عنهم، يخشون أن توقظهم الضمائر اليقظة من سباتهم؛ فصحوتها تعني زوال امتيازاتهم، وانقطاع ما يدرّه عليهم سيدهم من نعيمٍ زائف. وهؤلاء كثيرًا ما يتسترون خلف العصبيات والفئويات، ليصنعوا بطاناتٍ فاسدة تحرس المفسدين وتُناوئ المصلحين.
إننا نعيش اليوم زمن المراقبة والخوف، حيث تُقيد الحرية لا بالسلاسل، بل بالترهيب والتهديد والهمس الخفيّ. رسائلهم تقول: “اصمت، لا تكتب، لا تحرّض، لا توقظ الضمائر، فالسكوت أمان، والكلمة ثمنها الدم”. ولكن، كيف يسكت ضميرٌ حيٌّ ؟!
لقد آن الأوان أن تتّحد الضمائر اليقظة في جبهةٍ واحدةٍ، تصون ما تبقّى من النور في هذا العتم الطويل. فالنضال الفرديّ لم يعد كافيًا.
نحتاج إلى صحوةٍ جماعيةٍ تعيد ترتيب الأولويات، وتستبدل أدوات الصراع بأدوات الوعي، وتعيد للوطن روحه التي نُهبت، وكرامته التي أُهدرت.
إن الضمائر اليقظة لا تنام، خُلقت لتسهر من أجل أن يحيا الإنسان إنسانًا، لا تابعًا ولا عبدًا...
والأوطان لا تُبنى إلا بضمائرٍ ترفض أن تُغمض عينيها، مهما طال ليل الفساد.